طلال سلمان

دعوة الى حوار وطني

نجح الرئيس رفيق الحريري في مرافعته التلفزيونية دفاعاً عن »خطته« الجديدة القديمة، أكثر مما نجح في مجلس الوزراء، ليس فقط لأن الناس أكثر براءة وتجرداً من الوزراء خصوصاً والسياسيين عموماً، بل أساساً لأن الناس لا يريدون له أن يفشل، لأن فشله سيكون له وقع الكارثة عليهم.
حتى هذه اللحظة، وبرغم الخيبات الكثيرة التي أصابت الناس، وبرغم المرارات التي يعيشونها في ظل الضائقة الاقتصادية بانعكاساتها الاجتماعية الخانقة، فإنهم ما زالوا يأملون بأن يستطيع الحريري، بشكل أو بآخر، أن يجد حلاً ما.
ربما لأنهم يبالغون في تقدير قوته،
وربما لأنهم لا يريدون العودة إلى حكومات الستة أشهر التي تولد جهيضاً وتسقط اغتيالاً أو انتحاراً وقد فاقمت من المشكلات التي جاءت لتحلّها.
ولقد عرف الرئيس الحريري كيف يقرّب نفسه من الجمهور حين ميّز نفسه عن سائر السياسيين في لبنان، فخاطبه من خارج دائرة الاحتراف السياسي محاولاً الإيحاء بأنه حتى وهو مضطر لأن يكون »واحداً منهم« فإنه ليس مثلهم إجمالاً أو مثل أي منهم على وجه التحديد.
وحده الرئيس سليم الحص كان قبل الحريري (وبعده) قد نجح في استحداث موقع جديد لمن يدخل الرئاسة من خارج السياسة ثم يظل داخل السياسة رئيساً مختلفاً تماماً عن السياسيين، فهو »العالِم« لا »المعلِّم« و»القدوة« لا »القائد« وصاحب المنهج السياسي لا »السياسي المحترف«.
لم يفشِ رفيق الحريري أسراراً، في مرافعته التلفزيونية، ولم يعلن مفاجآت مفرحة يصعق بها الناس، ولم يطرح وعوداً جديدة بمواعيد جديدة كحلول سحرية.
كان هادئاً، وقد تخلّص من آثار الحرج والاستفزاز.
وكان يكفيه الإيحاء بأن »السياسيين« هم الذين يقفون ضد خطته لكي يُفرَض على الناس إعادة النظر في الأمر، لشدة ما يستريبون بالسياسيين وأغراضهم وأطماعهم وتقديمهم الخاص على العام.
وباختصار يمكن القول إن رفيق الحريري عرف هذه المرة كيف يخسر، في حين أن وزراءه المعارضين والذين يُفترض أن مواقفهم المعلنة في الاعتراض تستند إلى الهموم الفعلية التي تثقل كاهل الناس، لم يعرفوا كيف يربحون،
دافع الحريري عن قضية خاسرة شعبياً، ولكنه استطاع تحديد خسائره، شعبياً..
ودافع الوزراء السياسيون عن قضية رابحة شعبياً ولكنهم خسروا أمامه بالنقاط، شعبياً، ربما لأنهم »يسحبون على الأحمر«، أو ربما لأنهم بأكثريتهم وزراء دائمون في حكوماته المتعاقبة، وما قبلها، وبالتالي فهم مسؤولون مثله وأكثر عن الأخطاء التي باتت الآن مثل كرة من نار يرمي بها كل طرف الطرف الآخر فتظل طائرة في الجو تنذر بأن تفجّر اقتصاد البلاد والعباد جميعاً.
بالمقابل فإن ما قاله الرئيس سليم الحص ومن موقع المعارِض المسؤول كان أقرب إلى عقول الناس مما قاله الوزراء والمعارضون من موقع الحكّام.
والحقيقة التي تفرض نفسها في ضوء الحوار حول »الخطة« التي ليست »خطة« بل هي تفصيل من جزء من خطة، في أحسن الحالات، أن الرئيس رفيق الحريري في قول ما قاله أمس الأول، وما يقوله اليوم وسيقوله غداً قد تأخر خمس سنوات إلا قليلاً.
لو قال الحريري قبل خمس سنوات أقسى ما يمكن أن يقال في شعب، ولو طالب اللبنانيين بالتالي بأقسى التضحيات وأمرّها، ولو فرض من التدابير الاحترازية ومن الضرائب والرسوم والقيود على الاستيراد مثل ما فعلت تلك البلدان التي عاشت قبل لبنان محنة الحرب (أهلية أو دولية) ثم خرجت منها إلى الازدهار والاستقرار، لكان الناس قد تقبّلوا ولو على مضض هذا العقاب المتأخر على »جرائم« متقدمة ارتكبوها أو سكتوا عن ارتكابها في حق بلادهم.
بهذا المعنى يبدو صحيحاً ما ذهب إليه الرئيس الحص من أن »مشروع الحكومة هو بمثابة إعلان فشل السياسة التي انتهجتها حتى اليوم«،
فالخطة، كما طُرحت، هي في أحسن الحالات استدراك لما سهت عن لحظه الخطط الأولى التي انتدبت نفسها لتحقيق طموحات عظمى في الازدهار الاقتصادي والعمران وإعادة الإعمار والإنماء المتوازن،
ومن البديهي أن يتساءل المرء وهو يسمع أن الحكومة (الثالثة) قد تنبّهت إلى »سهو« بسيط مثل إغفال أي ذكر للبقاع وعكار في خططها الأولى، فاستدركت بأن لحظت لها في المستقبل مبلغ ثلاثماية مليون دولار (أو أكثر أو أقل) مقسّطة على سنوات عدة… والسؤال يغدو مشروعاً: أين الإنماء المتوازن، إذن، إذا كانت مثل هذه المناطق قد سقطت سهواً من الخطة الأصلية.
لربما يقول الرئيس الحريري وقد قالها غير مرة إن يده لم تكن في أي يوم مطلقة، وهذا صحيح. ولكن هل سيؤدي هذا الكلام، واليوم تحديداً، إلى إطلاق يده؟!
إن المداخلة التي أدلى بها الرئيس الحص، أمس، »إسهاماً في النقاش الدائر حول مشروع الحكومة لاستدانة ألف مليون (أو 800 مليون) دولار من الخارج، مقروناً بتوجّه لزيادة الرسوم والضرائب«، تتعدى التوصيف بأنها مرافعة مضادة، لتصلح قاعدة لإعادة تصحيح النقاش حول ما يتهدّد لبنان في اقتصاده الوطني (وضمناً في نقده) من مخاطر جدية.
إن أحداً لا يريد لرفيق الحريري الفشل في هذه اللحظة الحرجة بالذات،
وهو يبدو وكأن لا بديل منه لأسباب موضوعية،
ولكن هناك بدائل بالتأكيد للخطة التي يستدرك فيقترحها كملحق لخطة النهوض الاقتصادي التي مزقتها السياسات وأهواء السياسيين نتفاً متناثرة،
ولعل اللحظة الراهنة هي الأنسب لمباشرة حوار حقيقي حول المعضلة التي تواجه لبنان من مدخل اقتصادي اجتماعي في حين يعيش أخطر مراحل صراعه مع العدو الإسرائيلي المنساق اليوم مع هوس التطرّف الحاكم فيه إلى مغامرات تتسم بطابع انتحاري صريح، وربما اتخذت السياق الشمشوني الشهير »عليَّ وعلى أعدائي يا رب«.
الكل في قلب المعضلة،
و»التمريك« على رفيق الحريري بأنه قد قصّر أو أخطأ التقدير لا يحل الأزمة،
كذلك فإن إدانة جديدة للطقم السياسي لن تقرّب زمن الحل ولن تصوّب الخطأ.
لعل البلاد تحتاج إلى حوار وطني واسع النطاق ومفتوح الآفاق على مشكلاتها التي تتوالد واحدتها من الأخرى فالاقتصادية تلد الاجتماعية والسياسية تلد أزمة الحكم، وأزمة الحكم تنعكس بضغوطاتها الهائلة وأثمانها الباهظة على المحكومين البؤساء.
ولعل رفيق الحريري المكتوي بنار التجربة يبادر إليه، من موقع المسؤول وليس من موقع الحاكم، ومن موقع صاحب الحلم وليس من موقع الطامح إلى لعب دور سياسي من مدخل نجاحه الاقتصادي الشخصي والذي لم يستطع تحويله إلى نجاح وطني عام.

Exit mobile version