طلال سلمان

درس اول سفير اميركي

في يوم واحد، وخلال زيارتين لمرجعيتين دينيتين، خرج السفير الأميركي بما يؤكد الانطباع الذي جاء به مبنياً على استنتاجات سابقيه من السفراء والبحاثة وأساتذة الجامعات من أن لبنان بطوائفه أكثر ممّا هو بدولته.
في بكركي حيث التقى البطريرك الماروني في »زيارة بروتوكولية تعارفية« قال السفير جيفري فيلتمان »ومن المهم لي أن أستمع إلى وجهة نظر البطريرك في الوضع اللبناني القائم حالياً، ودور الكنيسة المارونية ووضع المجتمع المسيحي«.
أما بعد زيارته دار الفتوى ولقائه المفتي محمد رشيد قباني فقد قال: »… وتحدثنا عن الإنماء المحلي في لبنان، وعلاقة لبنان بجيرانه وعن دور الطائفة الإسلامية في لبنان«.
ما بين بكركي، على كتف جونية، والزيدانية في قلب بيروت، استمع السفير الأميركي الذي يباشر التعرّف إلى لبنان »على الطبيعة« إلى وجهتي نظر هما على الأرجح مختلفتان في قراءة المعطيات السياسية كما في الاستنتاجات المتصلة باليوم والغد.
وبالتالي فلم يكن مفاجئاً أن يستخدم السفير الذي سمع الكثير عن لبنان واللبنانيين وتنوع بيئاتهم الفكرية والثقافية، وعن تعدد توجهاتهم السياسية التي يراها البعض نتيجة لتعدد انتماءاتهم الدينية والطائفية ويراها آخرون استثماراً مجزياً لتلك الانتماءات، سيما وأنه مرتبط بالسلطة ومواقفها الممتازة..
لم يكن مفاجئاً أو مريباً أن يستخدم هذا الدبلوماسي المتمرس تعابير من نوع »دور الكنيسة المارونية ووضع المجتمع المسيحي« مقابل »علاقة لبنان بجيرانه وهي تعني هنا بالتحديد سوريا ودور الطائفة الإسلامية فيه«.
بالطبع ليس مفاجئاً أن يتحدث البطريرك الماروني عن »وضع المجتمع المسيحي«، وأن يتحدث مفتي الجمهورية عن »دور المسلمين«، ولكن استنتاجات السفير القادم حديثاً إلى لبنان ستكون ببساطة أن في الدولة خللاً يجعل لكل طائفة وضعها الخاص، ولها موقفها الخاص الذي قد يتجاوز الموقف الرسمي بالاعتراض وقد يلتحق به بالتأييد، وذلك »وفقاً لما يحقق مصلحة الطائفة«.
وفي هذه اللحظة السياسية حيث تعصف بالمنطقة رياح الموت كنتيجة مباشرة للاحتلال، إسرائيلياً في فلسطين وأميركياً في العراق، يكتسب الانقسام السياسي في لبنان أبعاداً خطيرة إذا ما هو ارتدى أثواب التشطر الطائفي أو المذهبي.
كذلك فإن الانقسام في الموقف السياسي على قاعدة طائفية أو مذهبية في هذه اللحظة الحرجة لبنانياً وبينما قرار مجلس الأمن 1559 مصلت فوق الرؤوس يكتسب خطورة استثنائية، إذ يمكن استثمار هذا الانقسام كمدخل للنفخ في نار الحرب الأهلية مجدداً.
ولا يعني هذا الكلام تشكيكاً في موقف البطريرك صفير أو المفتي قباني، فهما مرجعان لهما تقديرهما الخاص، ولم يتعوّد منهما اللبنانيون إلا مواقف الحرص على الوحدة الوطنية والالتزام بكل ما يحفظ كرامة الشعب وسلامة الدولة.
على أن السفير الأميركي وإذا ما أكمل جولته على المراجع الدينية قد يصل إلى استنتاج خاطئ مفاده أن في لبنان ثمانية عشر موقفاً، بعدد الطوائف، وأن هذه المواقف المعبّرة عن الطوائف لا تتلاقى بالضرورة في أفياء موقف وطني واحد ازاء مجمل القضايا المتفجرة بفعل الاحتلالين المتكاملين لكل من فلسطين والعراق…
خصوصاً وأن الاحتلال الأميركي في العراق ينفخ في نار الاختلافات العرقية والطائفية والمذهبية، فيحاول الظهور بمظهر الحامي لبعضها، المقاتل ضد بعضها الآخر، ويجتهد في تصوير بعض الأعراق والطوائف موالية له إلى حد اعتمادها كرديف شعبي يبرّر الاحتلال ويسوغه مفترضاً أنه يشكّل له حماية من أخوته أبناء الأعراق أو الطوائف والمذاهب الأخرى.
إنه يحاول تصوير »الأكراد« في العراق وكأنهم »جيش الأنصار« المقاتل لحماية خلفية جيش الاحتلال، ويتاجر بنزعتهم إلى الحكم الذاتي فيكاد يساوم »باستقلالهم« لكي يقطعهم حصة أكبر من العراق، دولة ونفطا وحكماً وامتيازات تكرّس انقسامهم أو ابتعادهم، بالمصالح، عن سائر أخوتهم العراقيين.
ويحاول تصوير »الشيعة« وكأنهم وجدوا أخيراً النصير التاريخي لرفع الحرمان عنهم وإعطائهم الدور الذي يستحقونه بأعدادهم في السلطة الجديدة التي »ستنتزع« من احتكار السنة لها.
.. بل أنه يتاجر بنزعات التطرف والأصوليات ذات الغالبية السنية (من الزرقاوي إلى بن لادن) لكي يحفر بالدم للانقسام فيحوّله من السياسة أي مقاومة الاحتلال إلى الحرب الأهلية بين الأخوة في الوطن وحتى في الدين الواحد.
ولسوف يسمع السفير الأميركي بعد الكثير من الطروحات المتباينة من الأطراف المتعددة في لبنان، سياسياً وطائفياً ومذهبياً.
ونفترض أنه أذكى من أن يفترض أن هناك لبنانات بعدد الطروحات والمواقف، سواء منها المعلنة أو التي لا تقال إلا في الغرف المغلقة..
وهذا هو الامتحان اللبناني التقليدي لكل الدبلوماسيين الآتين للعمل فيه، وفي ضوء نتائجه يكون الحكم على مستوى السفير وقدرته على فهم الظاهرة اللبنانية الفريدة التي قد تخدع من لا ينظر إلى البلد في ضوء موقعه على الخريطة.

Exit mobile version