طلال سلمان

دخلنا مصر من بابه

لم يطفئ بهجت عثمان شمعته الحادية والسبعين، هذه السنة: إنه يتابع عمله الذي التهم نور عينيه.. يعطي للأيام معناها، ويمنح الناس أعيادهم، ويعيد الى الرجال المهمومين والنساء الحزانى إحساسهم بفرح الحياة، ويُخرج الجيل الجديد من كهف اليأس والشيخوخة المبكرة ويعيده الى ساحة العمل من أجل الغد الأفضل، مهما تبدى بعيدا.
مثل هذا المبدع الذي يصطنع للآخرين أعيادهم لا بد أن ينسى المناسبات الشخصية، فحيث تضيء شمس الفرح بيوت المثقلين بهمومهم والقلقين على هويتهم وأدوارهم في هذه الدنيا التي لا مكان فيها للمتبطلين والكسالى، تترقرق ملامح »بهاجيجو« ثم تتكامل عبر عرائس »بدر« التي تربط الناس بأرضهم وتسقي أشجار الأمل حتى تطرح ثمارها فيهم.
أية شموع يحتاجها بهجت عثمان في اليوم الذي كان عيده فصار عيد كل الناس الطيبين، المقهورين والمقموعين، الخارجين الى المحتل والظالم والخانع والمستسلم بصدورهم العارية إلا من الإيمان؟!
تقول: الانتفاضة فإذا أطفال بهاجيجو يملأون الشوارع والحارات والطرقات الضيقة والمتربة في مخيمات اللجوء بالغضب المقدس، واذا الحجارة في أكفهم الصغيرة صكوك ملكية وفعل إيمان بأرضهم وإذا هم يقهرون صانع الموت الجماعي فيملأون عليه الأرض والفضاء وينزلون من أشعة الشمس ومن ضوء القمر ومن التماعات النجوم التي تأخذ الآن أسماءها منهم.
تتقاطع سيوف الحزن فوق شموع الفرح: تتلألأ صورة جمال عبد الناصر الذي لم يغيبه رحيله المبكر، وتتقطر ذكريات »الوحدة« التي جاءت قبل موعدها فتناهشتها أنياب الانفصاليين الذين يفضلون الحكم بالحراب لحساب الأغراب على عرق التعب في بناء مستقبل يليق بماضي هؤلاء الناس الذين كانوا »خير أمة أخرجت للناس«.
لماذا شجن ذكريات الرحيل ونحن في فيء المولد الممتد عبر أجيالنا الجديدة كمحطة ضخ للأمل، للتحريض على رفض الرداءة ومواجهة التخلف ومصادمة الخوف لقهره، فإذا »بهاجاتوس« يتهاوى مخليا مساحة القرار لأصحاب الحق في القرار، واذا بهجتنا بحياتنا هي الباقية وفيها شيء من ملامح »بهاجيجو«.
بهجت عثمان، الفنان، المبدع، الذي شهّر بأخطائنا وعيوبنا ودلنا على الصح، منهمك الآن في إشعال شموع الفرح في بيوت »رفاق سلاحه«، تمهيدا لأن يكمل معهم رحلة »الصداقة البلا حدود« نحو… بعد بعد بعد بعد غد أفضل!
والاحتفال مرجأ في انتظار العيد.
صباح الخير يا بهاء
لم يكن بحاجة الى تعريف يتجاوز اسمه الاول »بهجت« مجرداً من أي لقب، حين التقينا أول مرة، بداية الستينات، في منزل الثنائي الجميل المنخرط في الهم الثقافي والمفتوح القلب والفكر للحلم العربي البهي: أمين الحافظ وليلى عسيران.
إسمه كان يكفي للتعريف بزمن كامل، وبنمط رفيع من الانتاج الفني الذي جعل الابتسامة سلاحا فعالا لنشر الوعي وتعزيز إرادة التغيير.
قال غسان كنفاني مازحا: هذا هو بهجت عثمان، المجنون الذي يستخدم »الفراخ« اداة للتحريض والنقد والسخرية من الغلط والبيروقراطية القاتلة للثورة… وقبله كانت »الفراخ« راضية بقدرها، ان تتصدر الموائد الدسمة، كهذه التي دعينا اليها اليوم.
كنا جميعا نتابع بشغف تلك المجلة الحدث التي أصدرها إحسان عبد القدوس عن دار روز اليوسف، موليا قيادتها للكاتب المتميز لغة وأسلوبا واختيارا لموضوعاته التي لم تكن مألوفة كثيرا في الصحافة آنذاك، أحمد بهاء الدين.. وهكذا جاءت »صباح الخير« لتشكل محطة بارزة على طريق العلاقة بين الصحافة والشباب، إذ خرجت ندية، فتية، متوهجة بالأفكار والآراء الجريئة والنَفَس النقدي كتابة ورسوما.
صباح كل خميس كنا نقصد المكتبات لنشتري هذه المجلة التي احتشد لإنتاجها كوكبة لم يسبق ان التقت في مكان واحد، من الكتّاب الشبان، ومن رسامي الكاريكاتور المبدعين… ولعلنا قد انقسمنا شيعاً وأحزابا بين صلاح جاهين وجورج البهجوري وبهجت عثمان ورجائي واللباد والليثي وحجازي، فضلا عن عجوزهم عبد السميع وآخرين غابت عنا أسماؤهم بعد غياب أرض التلاقي.
كانت أرضنا فوارة بتجارب الصح والغلط وبالجدل الحيوي بين العقائد والمناهج والسياسات ومدارس الاشتراكية المتعددة وأشكال التطبيق التي تحاول ان تلفق لذاتها نسبا يمزج بين المكتسب والموروث، ويحاول التوفيق بين اصالة الهوية وضرورة الانفتاح على العصر..
وكانت »فراخ« بهجت سلاحه الفعال في هذه المعركة.
لم يكن همه ومثله سائر الرسامين المبدعين تحت قيادة »بهاء« إضحاك القراء بالمفارقة النافرة او بالنكتة اللفظية، بل كانوا يحاولون ان يؤدوا واجبهم ودورهم في الجدل الهائل الغني والمفتوح على مصراعيه آنذاك،خصوصا وان المرحلة شهدت بعض أعظم الاحداث في التاريخ العربي الحديث: صفقة الاسلحة التشيكية لمصر والتي كسرت الاحتكار الغربي لسلاح المنطقة العربية، يعطيها منه بما لا يؤذي اسرائيل او يوازي جبخانتها الحربية او يدانيها، تأميم قناة السويس، ثم العدوان الثلاثي على مصر (1956) والذي شاركت فيه بريطانيا وفرنسا مع إسرائيل، فقيام دولة الوحدة بين مصر وسوريا (1958)، ثم الانفصال الذي اودى بهذا الحلم غداة تجسده (1961)، فانتصار ثورة الجزائر باستقلالها وبعدها مباشرة ثورة اليمن (1962) الخ..
بعد لقاء بيروت، قصدت بيت بهجت عثمان في 12 شارع محمد خيري المتفرع من ميدان الباشا بالمنيل، فكان بابي الى مصر جميعا، بأدبائها وفنانيها وصحافييها وصعاليكها، بتاريخها وناسها الصابرين المسحوقين بالفقر والقاهرين بؤس أيامهم بالنكتة و»القافية« والتورية والزجل الارقى من أي شعر مجرد، لما يختزنه من شوق الى التغيير، ومن تعرية للنافذين الذين يحمون الغلط ويستثمرونه فاذا هم من أصحاب الثروات والجاه والعز والسطوة التي تغري بظلم أشد للآخرين من أهلهم الأقربين..
منذ ذلك اللقاء الاول في بداية الستينات، وحتى الوداع الاخير في مطار بيروت في ربيع هذه السنة، امتد حبل الاخوة مع هذا الانسان الرقيق صاحب القدرة الخارقة على »احتلال« بيتك، حاضرا وغائبا، وعلى الامتداد في أسرتك من جدك الى حفيدك، ومن جارك القريب الى »خصمك« البعيد، وعلى اكتشاف المواهب ورعايتها، غناء وعزفا، رسما ونحتا، رواية وشعرا، لا فرق بين ان يكون عموديا او حديثا اذا ما كان غنيا بالموسيقى وبالنبض الملامس للثورة والمعبر عن الرغبة في التغيير.
الأقليات العربية بين المهجر والمقهر
انشأ »بهاجيجو« العديد من التنظيمات فانتسبنا اليها لكي نجد أنفسنا. كانت البداية »حركة الفضوليين العرب«، التي كان هم أعضائها ان يعرفوا بغض النظر عما اذا كانوا سيفيدون من هذه المعرفة في أعمالهم (الصحافية) أم لا.
اما المحطة الاخيرة فكانت مع »الجاليات العربية« في البلاد العربية، حينما صرنا بأفكارنا التي تحجرت في ذكريات الزمن الجميل، مجرد »أقليات« في أوطاننا، موزعة بين »المهجر والمقهر«.
صار واحدنا، اذا ما ذهب الى »قطر« آخر، يقصد بيتا بالذات يتلخص فيه القطر الذي كان لنا ثم ضيّعته منا بعد إقامة »الدولة« فيه مصالح الحكام وعجز الشعوب التي تزايد قهرها حتى باتت تنكر انتماءها »القومي« متحصنة في قوقعة كيانيتها المعتمة متدرجة نحو شيء من »العنصرية« المعادية لفكرة العروبة وللجنس العربي بالمطلق (حتى لو كان بطل الحكاية يكلل رأسه بالكوفية والعقال ويتعثر بدشداشته او بعباءته المن حرير).
تخطى بهجت حجم »الشخص«، وتجاوز أفق »المبدع« مكتسبا الكثير من وهج الرمز.
وشكل انتقال بهجت مع أحمد بهاء الدين من »روز اليوسف« و»صباح الخير« الى »المصور« مرحلة جديدة أغنى وأكثر اكتمالا من بداياته، خصوصا عندما أعطاه »بهاء« صفحتي الوسط في المجلة »ليكتب« فيها موضوعه الملحمي الأغنى من أي مقال، والأدق في اجمال الموقف من كتاب والاسرع وصولا بأفكاره وتحريضه من قناة فضائية.
وحين هبط ليل السادات على مصر، رحلت »الاقلية العربية« الى خارج كنانة الله في أرضه، فلجأ أحمد بهاء الدين الى مجلة »العربي« في الكويت مصطحبا معه بعض رفاق سلاحه وشبابه وأحلامه، وكان ان بدأ »بهجت« تحوله في اتجاه جيل الأمل، من الفتية، فصار يرسم »العربي الصغير« كملحق جميل للمجلة الاخطر من حزب والاوسع تأثيرا من جامعة.
وصار لبهجت مؤيدون وأنصار ومحازبون في مختلف الأقطار العربية… وأخذ يطوف بين أقاصي المغرب وأداني المشرق حتى عرفها جميعا، متخذا من »قواعده« في كل قطر منطلقات للتبشير ومقارعة اليأس الذي كان يتعاظم بوتيرة سرطانية ما بين المحيط (الذي كان هادرا فهمد) والخليج (الذي كان ثائرا فانطفأ)..
لا بد اذاً من تغيير السلاح، لا بد من تغيير الاستهداف، لا بد من طي صفحة اليوم الذي غرق في الظلام والمراهنة على غد، لا يهم مدى بعده، المهم الا يجيء امتدادا ممقوتا لهذا السلوك السياسي الثقافي الاجتماعي المرفوض.
واتخذ بهجت قراره الفذ فهجر الكاريكاتور ليتفرغ للرسم للاطفال: رسم لهم تاريخهم الواحد الموحد، ورسم لهم أحلامهم الجامعة، ورسم لهم همومهم الثقيلة التي يتوجب عليهم ان يواجهوها.
كان اذا تعب من الرسم قرأ، واذا تعب من القراءة كتب، فاذا تعب من ذلك جميعا هرب الى الاصيل من الموسيقى والغناء، وفي هذا السياق أسس الحزب »الفيروزي« في مصر، كما أسس حزب محمد عثمان في المغرب وفي اليمن، وحزب زكريا احمد وسيد مكاوي تحت راية سيد درويش طبعا في كل أرجاء الوطن العربي.
لم يعد المبشر، صار البشارة.
ولم يعد الداعية صار الدعوة…
وحين أكمل »رسالته« طاف ببعض أرجاء وطنه الكبير مودعا، ثم واعدنا على لقاء جديد ومضى بهدوء من يدخل التاريخ.

Exit mobile version