طلال سلمان

داخل حلم امام حملة منظمة لتشوية نصر

تقف على شفا الحلم: ها أنت، أخيرا، تتجول مسحورا وخفيفا كأنما فوق جناح الفرح اليتيم، في القرى المنسية والتي لم يكن يسلك طرقاتها الضيقة والمتعرجة غير أهلها الذين لا يملكون إلا فيها، والذين كان عليهم أن يستنبتوا الصخر والتراب المحروق بالجفاف فلم يعرف الخصب ولم يقو على النمو فيه إلا الزيتونة المباركة والا شتلة التبغ التي تستهلك من جهد العائلة ما كان يمكن أن يصنع ثروات لو أتيح له أن يصرف في مجال آخر.
هي هي هذه القرى التي غدت أسماؤها كالتمائم والأيقونات والآيات المعلقة على صدور الأطفال لحمايتهم من الشيطان وعين الحسود، فعرفها العالم كله من دون أن يراها، وترددت أسماؤها الصعبة في الإذاعات والفضائيات وشبكات التلفزة العالمية وكأنها من العواصم الأكبر والأهم لمساهمتها الجدية في صناعة التاريخ الحديث للمنطقة: أليس ناسها الفقراء، البسطاء، الذين شردتهم التعاسة والإصرار على قهر التعاسة واللحاق بالزمن في أربع رياح الأرض… أليس أهلها الذين لا يملكون غير دمائهم والإرادة هم الذين واجهوا إسرائيل الأسطورة وموضع الرعاية الكونية فهزموها وأذلوا جيشها الذي لا يُقهر؟!
تقف على شفا الحلم: تتأمل الوجوه الطيبة والمنداة بدمع الفرح لهؤلاء الذين عادوا إلى أرضهم على وقع دمائهم، ووقفوا عند الشريط الحد الحاجز يواجهون (أخيرا؟!) أولئك الجنود الذين طالما قاتلوهم من دون أن يروا وجوههم، والذين استطاعوا بشجاعة الإيمان وصلابة الحق أن يجردوهم من مهابتهم وغطرستهم وجعلوهم يبكون ويستغيثون بنيران طائراتهم والصواريخ والمدافع والدبابات لكي تحمي هربهم وتغطي اندحارهم أمام هؤلاء الفتية المبتسمين بثقة من ينطق باسم العدالة وينفذها تحقيقا لإرادة الله،
تقف على شفا الحلم: أرضك الحرية، تتطلع إلى المباركة فلسطين في أصفادها، وسهل الحولة ينداح كوجه طفلك الأول، تحت، بقراه التي تعرفها وخيره الذي طالما سمعت عنه، ومستعمرات أولئك الذين استقدموا فأخذوا أرضه من أهلها، ثم التفتوا إليك بأطماعهم فحوّلوا أمنك إلى جيرة الأخ والخير المشترك إلى خوف من طمع الوافد الطارئ حامل الموت وناشره من حوله لكي تكون له وحده الحياة ويكون له المستقبل.
* * *
تقف على شفا الحلم: … وتأتيك أصوات الأحبة الذين غابوا وما غابوا شاكية من ندرة الطائرات التي يحتاجونها لكي لا يحسبهم عيد التحرير متغيبين، فيؤكدون أنهم استأجروا رحلات خاصة لتحملهم من بقاع الاغتراب في أميركا الشمالية ومن استراليا وأفريقيا ليعودوا فيكونوا مع أهلهم في تلك القرى الفقيرة والقليلة الخصب، خصوصا أنهم قد بذلوا من مالهم وحركتهم والتضحيات ما أعطاهم في النصر نصيب…
تجول في القرى التي تعرفها غيبا كصفحة وجهك، وتجلس الى أهلها تستكشف هواجسهم وهموم الغد، متهيبا ومتفكرا في ثقل الأعباء التي سيواجهون، بعد العودة وبعد انقضاء عطلة العيد، ولا سيما همّ الصمود في مواجهة النموذج المتحدي والذي لا بد من الاعتراف بنجاحه وبقوته خلف الشريط.
لكم قطع هؤلاء البسطاء الطيبون الطريق نازحين، مهجرين بقوة النار من أرضهم، ثم عادوا الى بيوتهم المهدمة، ومواسمهم المحروقة، فجددوا الغرس، ورمموا غرفة او غرفتين، أو أقاموا خيمة ليسكنوا ويثبتوا في جيرة الموت رافضين الاقتلاع والاندثار وترك الأرض للعدو.
في الطريق اليهم تأتيك أصوات عبر الاذاعات بأخبار لا ترى لها اثرا، وحوادث يكذبها اصحاب العلاقة: هذه هي عيتا الشعب وواجهات بيوتها حقول من الورد، وهذه هي الناقورة وكل دكاكينها سليمة لم تمس، بما فيها تلك التي يعرف الجميع انها لعميل مكشوف وشريك معروف لبعض كبار الضباط الاسرائيليين في عمليات التهريب الضخمة، وهذه زوجته تشرف على المخازن الضخمة للتجارة الحرام… وهذه رميش هادئة،الا من تأثير ما يسمعه أهلها عنهم وعما أصاب بلدتهم من تدمير واستباحة، فيستغربون أن تكون بلدتهم قد باتت خبرا عالميا! وهذه إبل السقي والقليعة ومرجعيون شأنها شأن كفركلا وعديسة والطيبة، شأنها شأن بنت جبيل وعيناتا وسائر القرى المحررة؛ ينزاح عنها الخوف والانبهار تدريجيا وتعود اليها الطمأنينة والفرح..
إنها حملة سياسية منظمة لتشويه النصر العظيم، يقولون لك!
كان الخوف عظيما. فحجم »التعامل« كان يتخطى كل التقديرات، ثم ان للتعامل تاريخا يناهز ربع قرن. لقد ولد جيل كامل في حضن التعامل، وفرض عليه ان يعيش خاضعا للإرادة الاسرائيلية. كانت اسرائيل، في الغالب الأعم، المصدر الوحيد للدخل: العمل لها، او العمل فيها، واحيانا المياه منها والكهرباء منها، وفي كل الحالات فإن الأمن منها.
ولم يكن »للتعامل« دين أو طائفة أو مذهب. لقد وقع في شبكته، في ضروراته، أو في إغراءاته، شباب من مختلف الأديان والطوائف والمذاهب. بعضهم بالحاجة، وبعضهم بالارغام، وبعضهم بطلب الامن والخبز كفاف يومهم.
لماذا إذن هذا التركيز على قرى بالذات، من لون طائفي معين؟!
لقد دللت المقاومة، عموما، على رقي وتحضر ووطنية ورأفة نادرة المثال.
بل ان هؤلاء الفقراء الطيبين الذين عادوا من قلب قهر التهجير واليتم والتشرد قد رموا مشاعر الانتقام خلفهم، وداسوا على ذكرياتهم المرة، وقرروا ان ينسوا كل الآلام وكل العذابات وان يستعيدوا مع قراهم أهلهم، ومع أرضهم اخوتهم لكل شركائهم فيها، تاركين للدولة ان تحاسب المخطئ وأن تعاقب من حمل السلاح ضد بلاده وجيشها والشعب.
هذا لا يعني أبدا أنه لم تقع بعض الاعتداءات الفردية، أو بعض حالات الانتقام الثأرية ضد ممتلكات بعض المتعاملين المعروفين… لكن حجمها الفعلي أقل من أن يستحق خبرا في صفحة الحوادث في أي جريدة محلية، فكيف صار خبرا عالميا يصور التحرير وكأنه إعلان أو تمهيد لحرب اهلية جديدة، شعارها طائفي، وهدفها سياسي مكشوف، والمستفيد الوحيد والعلني منها هو اسرائيل، بغير شريك، حتى من هؤلاء الذين لم يتعظوا بعد من درس التعامل الاسرائيلي مع المتعاملين، والذي تمكن قراءته مجدداً في الكتابات التي تملأ صفحات الصحف الاسرائيلية!
كم متعاملا قتل او اغتيل من بين آلاف معظمهم معروف ومكشوف؟
كم بيتاً نسف او نهب في مختلف القرى المحررة؟!
كم اعتداء وقع على عائلات، سواء أكانت من اهل الشريط ام من مهجري مناطق اخرى (شرقي صيدا، مثلا)، وكم عائلة اخرجت من منزل ليس لها ورميت في الشارع؟!
***
انهم يفسدون النصر ويشوهون صورة المنتصرين، اي يسيئون الى شرف لبنان ويهينون شعبه.
ان هذه الحملة المنظمة من الاتهامات والشائعات الكاذبة والاخبار الملفقة لم تعد تطال او تتناول فرداً او افراداً، او حزباً او احزاباً، او طائفة بالذات، بل هي اتهامات تمس الشعب كله في اعظم انجاز حققه، وتطال الدولة كلها في اشرف موقف وقفته،
انها افتراءات تطال شرف الرسالة وتشوه معنى الوطنية والانتماء الى الارض.
انه فعل خيانة يكمل ما كان يرتكبه »المتعاونون« ويضيف اليه ما لا تستطيع اسرائيل ان تلحقه من اذى بلبنان شعباً ومؤسسات.
ان الافتراء هنا لا يقل خطورة عن التعامل، بل انه أعلى درجات خدمة العدو.
انها محاولة لتزيين وتجميل صورة اسرائيل على حساب الوطن والمواطن.
انهم يريدون ان يصوروا للعالم وكأن اسرائيل كانت مصدر الازدهار والامن والاطمئنان ورغد العيش… وان اسرائيل هي ضمانة السلم الاهلي في لبنان… وان هؤلاء الذين اتى بهم التعصب واعلنوا انهم عنصريون بوصفهم »شعب الله المختار« اعظم تسامحاً من الاهل الاقربين!
فهم يقولون ان اسرائيل افضل وارحم واكرم من شعبهم ودولتهم.
انها اعظم مطالعة دفاع عن اسرائيل، بينما الاسرائيليون انفسهم يدينون حكومتهم مرة بسبب من »تعاطفها« مع هؤلاء العملاء، ومرة ثانية بسبب من تخليها عنهم.
ان هؤلاء »المتعاملين« او »المتعاونين«، الذين نرحمهم بالمحاكمة، يتحولون تدريجياً وتحت ستار »الظلم الطائفي« الى »نيابة عامة« ضد شعبهم ودولتهم، بينما هم المدانون والذين في بلاد العالم ينبذون ويعزلون حتى لا نذكر بعدد الاعدامات التي تناولت »امثالهم« واشباههم في فرنسا وغيرها.
على اننا يجب الا نساهم مع هؤلاء في افساد العيد، فلنعش لحظات الفرح حتى الثمالة، تاركين للدولة ان تتصرف، واثقين من شعبنا واخلاقه…
ولنقف، مجدداً، على شفا الحلم، متطلعين الى المباركة فلسطين، بعدما كانت اسرائيل قد حرمتنا من ان ندخل بيوتنا وأنستنا الفرح. وأجبرتنا على العيش داخل الجرح.

Exit mobile version