طلال سلمان

خونة اوطانهم

صار »للخيانة« صور، ثابتة ومتحركة، صامتة وناطقة، بالألوان إضافة إلى الأبيض والأسود.
وصار »للخيانة« برامجها المعلنة، وباللغات الحية جميعا، الإنكليزية أساسا والفرنسية أحيانا، والعربية لمن أوصلته المقادير إلى الذروة قبل أن يتقن لغة العصر.
في نشرة أخبار واحدة يمكنك أن تتابع مسلسلاً من الانحرافات الوطنية العلنية، بلهجات تجمع بين المشرق والمغرب، وبتبريرات »فردية« أو »طائفية« أو »مذهبية« أو »عرقية« تنفي الوطن وتحقِّر الرباط القومي، وتفذلك العلاقة مع الأجنبي عموماً، ومع العدو القومي خصوصا فتسبغ عليها رداءً مزوراً حول حقوق الإنسان والديموقراطية وضرورة التضامن لمواجهة التعصب وإرهاب الأصولية والحكم الدكتاتوري أو الأوتوقراطي والذي غالباً ما يكون دمويا.
تتأمل وجوه »المناضلين من واشنطن« لتحرير العراق وهم يلتفون تغمرهم السعادة ويشد قاماتهم الاعتزاز (!!) من حول نائب الرئيس الأميركي المعروف بعواطفه »العربية« الصريحة، وقد نجحوا في تحريضه ضد أهلهم الأقربين في بلاد الرافدين.
وتستوقفك صورة هؤلاء »الصحافيين المبتدئين« الذين جاؤوا من قلب الجرح الجزائري إلى إسرائيل، وهم يحيطون بالدبلوماسي العريق الذي نادى بقتل الأطفال في لبنان، ديفيد ليفي، والمشهور في محيطه الضيق بلقب »الكذاب«، يستنصرونه ليدعمهم في نضالهم من أجل وقف المذابح في الجزائر، غافلين أو متغافلين عما فعلته وتفعله إسرائيل في فلسطين وفي لبنان وفي كل العرب على امتداد تاريخها، وكذلك عما قدمه »الجيش الإسرائيلي« من »خبرات« لجنرالات الموت في الجيش الجزائري (وربما لبعض الجماعات المسلحة هناك أيضا) من أجل تأجيج الفتنة واستمرار طوفان الدم!
ومن قبل، كنت قد تأملت موجع القلب دامع العين أرتال أولئك الذين هربوا من النصر على الاحتلال بالتحرير، في جنوب لبنان، ليلجأوا الى قتلة الأطفال والنساء والرجال مدمري المنازل والمدارس ومحرقي الأشجار والمواسم الزراعية والطيور والفراشات، حتى لا يحاسبوا على تعاونهم مع العدو، فتلقوا منه إهانة إضافية إذ عاملهم كما تكون معاملة »خونة أوطانهم«.
لشد ما اختلف الزمان، لشد ما تغيرت الدنيا، لشد ما تبدل نظام القيم والمبادئ والمفاهيم حتى امحت الحدود بين »الحلال« و»الحرام«.
في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، كانت تكفي شائعة مجرد شائعة عن علاقة لسياسي محترف او تنظيم او هيئة او حزب بالاجنبي، تكفي »لإحراقه« ودمغه بوصمة عار غالباً ما تنتهي به الى الاعتزال او تؤدي الى اغتياله جسدياً.
كانت حدود الوطن والمصالح الوطنية والقومية واضحة تماماً، يسيّجها الدين والاخلاق والمبادئ والخوف من الناس، فمن تجاوزها »نبذه« مجتمعه وابتعد عنه رفاقه وخلاّنه وأحيانا افراد عائلته ليبرأوا بأنفسهم من »عاره«، والعار الوطني تهمة قاتلة وإدانة تتجاوز الابناء الى الاحفاد.
وفي الذاكرة الجماهيرية في مختلف الاقطار العربية، ولا سيما في العراق وفي الجزائر، اسماء لا تنسى لبعض من ادينوا بخدمة الاجنبي والانحراف عن هدف التحرير والاستقلال، فصنفوا »خونة شعوبهم« ووُقِّع عليهم الحرم فطال ذريتهم، ولم يشفع لهم »إنجاز« على طريق التنمية او تطلع يتخذ شكل الالتحاق والتبعية بذريعة اقتباس الديموقراطية او توسيع الخطوات للحاق بركب المتقدمين.
وفي المثلين العراقي والجزائري لا تعني ادانة هؤلاء »الخونة« تبرئة النظام القائم او تبرير الخطايا والجرائم والفواحش التي ترتكب هنا او هناك… فالخطأ لا يجابه بخطيئة والعسف لا يواجه من موقع المرتزق، والدكتاتورية لا تواجه بالارتهان لإرادة »الحليف الموضوعي« للدكتاتور والمستفيد من وجوده والذي يتخذ منه ذريعة لتدمير الوطن والأمة وإذلالهما بالهيمنة الاسرائيلية تحت مظلة هيمنته الشاملة.
ان هؤلاء الخارجين على امتهم اسوأ من الحكام الذين يعترضون عليهم او يهربون من مواجهتهم، فهم بشكل ما يبررون للسفاحين والقتلة جرائمهم.
لا اليأس يبرر الجريمة، ولا وحشية النظام تبرر الارتماء في شدق الوحش الاكبر… انه هرب من موت محتمل الى موت محقق، وتنصل شخصي يلحق الاذى بالوطن كله. انه علاج للانحراف بالسقوط.
وهذه هي التجربة الغنية بالدروس في لبنان تؤكد ان الحل بالمواجهة لا بالهرب، وبالصمود لا بالانهيار والاستسلام للعدو.
ولعل »الصحافيين الهواة« الذين جاؤوا من الجزائر الى اسرائيل لمسوا فيها مدى الرعب من التجربة اللبنانية..
ولعلهم في الوقت ذاته لمسوا كم يحتقرهم »مضيفوهم« الإسرائيليين!
الخارج للخارج والداخل لأهله… او هكذا يجب أن يكون!

Exit mobile version