طلال سلمان

خواتم أنسي الحاج…بدايات لويس الحاج

في البدايات من حياتي المهنية تعرفت إلى الصحافي الراحل لويس الحاج.
كنت قد تسلمت ادارة التحرير في مجلة »الاحد«، لصاحبها نقيب الصحافة الراحل رياض طه. وكان بين كتاب المجلة لويس الحاج، وكان يوقع باسم مستعار (سجيع فدعوس)، ويكتب بأسلوب نقدي كاريكاتوري يكمل فيه ما لا يقوله كله في »النهار«، حيث كان ينتج الجريدة من دون ان يكتب ما يوقعه، وإن كانت لمسته في العناوين والمقدمات تكشفه بأكثر من التوقيع.
وقد احببت أسلوبه الطريف الذي لا تخفي السخرية فيه اعماق بئر الحزن الذي تختزنه نفسه، ولعل هذا ما شدني إليه، وإن اعجزتني ظروفه وفارق السن عن ان نكون اصدقاء.
بعد ذلك، عرفت عدلي لويس الحاج، كزميل، قبل ان اعرف انسي لويس الحاج شاعراً وكاتباً مميزاً بأسلوبه وبدوره داخل »مؤسسة الشعر الحديث«، او داخل »مؤسسة الرحابنة«.
ولقد ذهبت الى مأتم لويس الحاج مدفوعاً باحترامي لهذا المهني المتنسك والماكر كشيطان، الذي ترك بصماته على الصفحات المحلية في صحف لبنان، وإعجابي بأسلوبه كما بانتاجه »البشري«.
ومع اعترافي بالعجز عن مواكبة »الشعر الحديث«، وافتراقي عن مدرسة مجلة »شعر«، فقد كنت اتابع نتاج انسي الحاج، مقدّراً إخلاصه لافكاره وانسجامه مع نفسه، ولعلني كنت اكثر إعجاباً بنثره منه بشعره.
في »خواتم 2« الذي صدر لانسي الحاج اخيراً، استوقفني، اكثر ما استوقفني، بعض ما كتبه في ابيه الراحل لويس الحاج، وبعدما انشأ الموت مسافة تصفو معها الرؤية وتهدأ العواطف. كتب انسي:
»حين ودّعت أبي اقترفت خطيئة التكبر: رفضت إظهار ألمي كي لا اثير الشفقة، واكتشفت في نفسي خطيئة غيرها: الحذر من ان يؤدي تعاطف الآخرين معي الى اختلاط عواطفنا.
»كان ابي نهارا وكنت ليلا. كان يحبني من دون ان اعرف، وكنت احبه من دون ان يعرف. وكان ذلك حسبنا.
»وأنا صغير، كنت اطمح الى الجلوس مثله الى طاولة لاكتب كما كتب، غير مهم ماذا، والسيجارة تشعلها السيجارة، والجو حروف تنهمر بعطف، وعبارات تنعقد مبتسمة وسط الفكر المبارك.
»وما ان بدأت بدوري احمل القلم حتى وجدتني غيره تماما. كان هو نهارا وكنت ليلا، وكان وكان، وكنت وكنت.
»ولعلي، لن يدري، لم اكن الا ما تركه لي لاكون…«.
أليس من القلب، يجيء الشعر؟!
وهل التهويم خارج ما هو انساني، اي رقيق ونبيل، اي عادي حتى الرتابة، وطبيعي حتى الاكتمال، ومبتذل لتوكيد السمو، واناني لإبراز الفرادة… هل ذلك هو الشعر؟!
في تقديري الشخصي ان لويس الحاج كان يختزن شاعرية فيها عذوبة نسمة ندية في ظهيرة صيفية، وان »المهنة« التي اغتنت برقة اسلوبه وجمال صوره وتلك البداهة التي تختزل فتوضح، قد امتصت الشاعر فيه حتى الثمالة… وان السياسة المحلية بمباذلها قد فتحت المجال وسيعا امام الساخر والشيطان الماكر، وحاصرت المتنسك حتى كاد يقضي نحبه متبخرا مع دخان سجائره.
آسف، كان القصد ان اكتب عن انسي، ولكنني فضلت المثال الاكثر قربا مني، ربما لانه ظل منقوصاً ولم يتسن له ان يحقق ذاته تماما، وجرفته عاديات السياسة اليومية وتردي الساسة وسقوط الحلم الى هوة الانطفاء مع كل شمس جديدة.
لا بد من قراءة جديدة، اذاً، لخواتم انسي الحاج، بعيدة عن »نهار« ابيه، وبعيدة عن »ليله« الذي جعله النقّاد مشعاً في نثره، كما في شعره، وقالوا في »خواتمه« الاولى ما لم يتبق بعده الكثير ليقولوه في الثانية.
ولعلني احتاج، قبل المباشرة بخواتم، الى ان اقرأ »الكتاب المقدس« مرة اخرى… فدائما كانت كتابات انسي الحاج تفرض عليّ مناخاً يقارب الطقس الديني حتى وهو يقول ما يشابه الكفر في نظر المتدينيين.
نصف متنسك نصف شيطان مقموع كان لويس الحاج
ولعل انسي هو النصف الآخر.
مَن قال ان الحب والتعبد للجمال وسكب المرأة قصيدة، تقع خارج دائرة التنسك… الشيطاني؟!
هنا مختارات من »خواتم« انسي الحاج تحكمت فيها المساحة:
} ضميرك الحي يسلب ضحيتك حقها في الشعور بالظلم حتى الثمالة.
ضميرك قاطع طريق.
} تكثفت انانيتك وبانت كالقلعة، فصرت كلما خارت قواي ألوذ بك حتى يبتلعني إعصار عبادتك لنفسك.
}… من اذا تجاهلت اساءتهم لم ترقَ الى درجة الصفح لفرط ما هم تافهون.
} المميت هو ما لا يترك مسافة بينك وبينه تسمح له باعادة اختراعه.
ينسحب هذا على امرأة كما ينسحب على فكرة او حلم او مساحة من الزمن.
} تستطيع ان تكتب عن هذا الكتاب الى ما لا نهاية، فهو من التلون والفراغ بحيث يتسع لكل الاسقاطات.
} أضع في كلمة شعر كل ما يقهرني.
} لا ادافع عن الماضي بل عن امي.
} فكرة الله تستحضر صورة العدم، وفكرة العدم تستحضر صورة الله.
} كارثة ان يكون المطلق مملا.
} التاريخ يحكمه الضجر.
} الجحيم… اعمق من الجنة.
} الله (في هذا وفي حكاية قايين وهابيل) اول زارعي الفتنة.

 

الغد الذي أضاع إسمه

يجيئك الوجع من الباب المفتوح للفرح.
يجيء متعجلاً، يخشى إن هو تأخر أن تلعلع زغاريد النشوة بعدما اكتسب العمر المعنى، فتسد عليه الطريق وتزهر الاحلام في الارض الخراب.
أحرام أن تكتمل انسانيتك؟
من فتح ابواب الجحيم لروح الانتقام تهب عليك عاصفة عاتية تؤدبك وتسقط اوهامك بأنك قد تحررت للحظة من الخوف والفقر والفشل والعجز، وبأن الوعد قد تدلى مقترباً من مدى يديك؟!
وعمرك الوعد، بأمسك المضني ويومك المرتهن لغدك الذي جلست تنتظره عند باب الاحلام وفي يدك ضمة من امنياتك وجراح الصمود.
تنتصب امامك غابة الاسئلة كثيفة، ويهبط عليك ليل الشقاء فتتخبط بين اخيلتك الساذجة وادعاءاتك التي تتساقط عليك الآن لتشهِّر بفشلك: اهذا ما افترضت انه كمالك؟! اهذه تذكرة سفرك الى المستقبل؟! أهذه هي الحصيلة النهائية لعذاب امتهان الذات والانكسار على ابواب الصلف والغرور والقرش المثقوب؟!
تشق صدر ايامك. تحرث لياليك. تستحضر خطاياك جميعا وتسامرها لتفحصها. تنصّب نفسك لنفسك ديّانا: قايين قايين، اين تركت اخاك؟!
لعلك اهملت. لعلك بالغت. لعلك قصّرت. لعلك قد اسرفت في تقدير ما عملت. لعلك كنت لا ترى إلا نفسك، وتوزع منها صوراً على الآخرين. لعلك لم تعترف بأحد غيرك. لعلك نسيت نفسك مندفعا إلى ذروة الانانية. لعلك…
دع الغير الآن. إسحقْ غرورك بيديك وانثرْه هباء. لا تقل: كنت احسب… او انني قدّرت او خمنت او افترضت. انظر إلى ذاتك الشوهاء. انظر حولك. كيفما التفت سيطالعك قصورك. لم تتمَّ ابداً شيئاً بدأته… كل ما حولك بدايات فات أوان اكتمالها.
ها هي بعض البدايات تكمل ذاتها بذاتها بعيداً عنك…
كنت تقول دائماً: غداً… ثم تمطّ الغد حتى يغدو عمرا كاملا مدفونا في الامس المضيع.
ها هو »الغد« يستكمل ذاته بعيداً عنك، بل انه ينهشك نهشاً ليكتمل. ستتهمه بالتشوه؟! ولكن، أليس النقص تشوهاً؟!
هل هي انانيتك قد استولدت انانية اخرى؟!
الانانيتان لا تصنعان حباً.
أنانية واحدة تكفي للتدمير، فكيف اذا ما تصادمت الانانيات في غرفة ضيقة؟
مَن يكره نفسه فأناني ايضاً.
انه يرفض حب الآخرين.
لا يقبل من حبهم إلا ما يغذي رفضه لهم؛ ما يؤكد انه وحده الصح، وكل من عداه مجموعة من الخاطئين والكارهين.
ظللت تبشّر بأن الناس جميعاً من الملائكة. تفضلْ فتحمل الآن نتائج نظريتك: مَن خاب امله في واحد انتقل الى النقيض تماماً، فرأى جميع الناس شياطين تتربص به لتهلكه.
الخطأ ولود، والطيبة عاقر.
اينما التفت يطالعْك ابناء الخطأ، أما الطيبة فتتوارى مهزومة وراء استار الخيبة، ولا ينفع في إنقاذها أن تلوم الظروف.
الباب المفتوح للفرح صار اشبه بقنطرة اثرية مفتوحة على فراغ الصحراء واليباب والاحلام المجهضة…
والطريق تأخذك بعيداً عن مقصدك.
اين مقصدك؟!
اختلطت عليك الامور فلم تعد تستطيع التمييز بين البدايات والنهايات.
لو انك تملك قليلاً من الوقت لتقرر…
لكنك تملك من الوقت اكثر مما يحتاج القرار.
فامضغ اوهامك وانت تنتظر عند باب الفرح الموعود غدك الذي اضاع العنوان، فتاه يسأل عن اسمه، بينما اسمه منقوش في قلب الشمس.

 

شجار الزمن الماضي

قالت الارملة للمطلقة: اتركيه لي، فلقد ارتويت وأنا العطشى.
قالت المطلقة للارملة: خذيه، فلو انه يروي لما تركته.
قالت الارملة للمطلقة: لعلك لم تعرفي كيف، لعلك لم تعطهِ ما يكفيه.
قالت المطلقة للارملة: اما أنت فأعطيته اكثر مما يجب، فأرسلته الى العالم الآخر قبل الاوان. أأنت من يعرف كيف ومتى واين وكم؟!
قالت الارملة للمطلقة: بين الرجال مَن لا يعرفون كيف يأخذون.
قالت المطلقة للارملة: وبين النساء من لا يعرفن كيف يعطين! وبعض العطاء هو أخذ مطلق! احيانا نوهم الرجال بانهم يأخذون في حين اننا نمتصهم حتى الثمالة! ثم اننا لا نشبع… وها أنت تدورين على رجال غيرك لتأخذي بعدُ…
قالت الارملة للمطلقة: كاذبة كل امرأة تدّعي انها شبعت، او انها يمكن ان تشبع. ليس بين الرجال واحد يستطيع الادعاء انه قادر على إشباع امرأة سوية!
قالت المطلقة للارملة: هذا منطق رجالي مقلوب! لعله تركة المرحوم!
قالت الارملة للمطلقة: اما أنت فإنك تريدين الانتقام ممن انكر عليك قدرتك على اشباعه فتركك! ليس تعلقك بعشيقي حباً له، انه مجرد وسيلة لانتقامك، فأنت غير موجودة خارج دائرة انتقامك… اما أنا فأطلب التعويض.
قالت المطلقة للارملة: والتعويض انتقام متأخر! لو قدرت على خيانته في حياته لما انتظرت حتى اليوم!
قالت الارملة للمطلقة: رحمة الله عليه، لم يكن يستحقني! كان يريد الأقل، وقد أحرجته لانني الاكثر!
قالت المطلقة للارملة: أنت طماعة! لا تريدين الانتقام فحسب، بل انك تريدين شهادة متأخرة بانك كنت مظلومة، ولم تكوني تستحقين ما لاقيته، في حين انه هو الذي مات لا أنتِ!! انك تريدين قتله مرة ثانية!
قالت الارملة للمطلقة: هذا يعني ان رجُلك قد انقذ نفسه في الوقت المناسب…
احتدم الجدل، ووقفتا للشجار وقد مدت كل منهما اظافرها لتنشبها في وجه الاخرى، لكن »حركة« من حولهما اوقفتهما وجعلتهما تلتفتان لاستطلاع مصدرها.
كان »رجُلهما« يقتحم المقهى وقد تعلقت بذراعه جميلة اصغر من ابناء كل منهما!

 

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا يمكن للمحب أن يحمي حبيبه بكراهية الآخرين. الحب كالنور يسري في مدى النظر، بل هو يمد مدى النظر فيرى المحب ما لا يُرى.
اعظم ما في الحب انه ينسيك الخوف، ويمدك بقوة هائلة لمواجهة الآخرين، اما اذا اشعرتك عاطفتك بأنها اضعف من ان تدافِع عنها وتحميها فلن تكون، اذاً، حباً.
هممت بأن اقول شيئاً، لكن »نسمة« تابع يقول كمن يحدث نفسه:
لا يأتي الحب من قلب الغيرة او الرغبة في تقليد الآخرين. لا يأتي الحب من قلب النكاية وروح الانتقام. يأتي الحب عندما يأتي، لا يقدمه الإلحاح ولا يؤخره الزجر… فاذا ما جاء غمر الجمال كل شيء، وصار الناس يساعدون على حمايته ليعطيهم فرح الايام الآتية.

Exit mobile version