طلال سلمان

خلافات قمة وكلفتها ثقيلة

هل سيستعيد الحكم نصابه مع التئام مجلس الوزراء اليوم، بعد طول انقطاع، أم سيبقى جبهات محتربة توجه كل منها إلى الأخرى اتهامات يمكن أن تذهب بأمبراطورية راسخة فكيف بدولة صغيرة، تحت التأسيس دائما، تتهددها مخاطر التوسع الإسرائيلي، وتفاقم أزمتها الاقتصادية بتداعياتها الاجتماعية التي يسهل استثمارها طائفيا ومذهبيا بحيث تكون فتنة والعياذ بالله…
وفي القريب القريب منا، على مسافة بندقية يتساقط القادة شهداء حلم الوطن… يتركون منافيهم الآمنة والمريحة ليعودوا إلى الأرض فإن تعذر عليهم أن يعيشوا فيها ولها سقوها بدمائهم ثم انغرسوا فيها ليستحقوا الجدارة بالانتماء إليها.
أما في لبنان فتكاد لا تجد، تحت أو فوق، من هو مسلّم بوطنيته وبإخلاصه لأرضه.
رئيس الجمهورية متهم من طرف بعض شركائه في الحكم بأنه يريد »عسكرة« البلاد، وأنه يطلق يد »الأجهزة« لمراقبة الشعب وضبط حركته سواء في الشارع أو في البيوت، عبر »التنصت«، وبالتالي فهو يهدد الحريات العامة والنظام الديموقراطي الذي رفعه إلى سدة السلطة!
ورئيس المجلس النيابي متهم بالتفريط بدور المجلس في التشريع وحماية الحريات والقانون، وبالتالي فهو »مخرّب« للنظام البرلماني وللديموقراطية التي هي أساس وجود هذا الكيان الفريد!
ورئيس الحكومة متهم بأنه قد أثقل كاهل البلاد بالديون وما زال يزيد من أثقالها، في حين أن كفاءته الأصلية التي فتحت له طريق الحكم أنه يعرف كيف يأتي بالمال، وليس أنه يعرف كيف ينفقه، فلبنان مزدحم بعباقرة الإنفاق لا سيما في الوهمي وغير المجدي من المشاريع التي تبدأ ولا تنتهي، أو تُرسم ولا تُنفذ، أو يتخيّلها المتخيلون وتعقد لهم النفقات ثم لا يُسألون.
قائد الجيش يكاد يتهم في ولائه الوطني.
ورؤساء الأجهزة الأمنية متهمون بعداء الشعب، والمطالبة عالية الصوت بأن يحاكموا أو أقله يحالوا إلى المعاش عقابا لهم على تحقيرهم الإرادة الشعبية وتصديهم بالقوة لشباب لبنان وفتياته واعتقالهم وزجهم في السجون بغير وجه حق.
أما الشعوب اللبنانية فبعضها يتهم البعض الآخر بنقص الوطنية، والبعض الآخر يتهم البعض الأول بالخنوع والاستكانة للذل، والكل يتهم الكل بالهوس الطائفي وبالتعصب المذهبي، فإن أريد تخفيف الاتهامات أدين »الجبليون« بالعنصرية، بينما تمت إدانة أهل الأطراف بنقص الولاء الوطني، بينما يزدحم الجميع متنافسين أيضاً على أبواب السفارات الأجنبية إشهاراً لتفضيلهم المنفى على وطن الأرز.
* * *
يتمنى اللبنانيون أن تكون قياداتهم جميعاً قد استوعبت كم أن خلافاتهم مكلفة، وكم أن »الصفاء« في ما بينهم »ثمين« حتى ليمكن القول إنه أغلى من الذهب وجواهر الأرض جميعاً.
على أن التمنيات لن تبدل كثيراً في ما كتب.
ولن يبدأ »التاريخ الجديد« للبنان ما بعد العواصف الرئاسية، اليوم. فالرؤساء هم هم، بأمزجتهم المعروفة وادعاءاتهم المألوفة وخلافاتهم التي تبقى وإن طمست هي هي… والحكومة، حتى لو رفعت المتاريس من على طاولة مجلس الوزراء، هي هي، تكاد لا تتفق على أمر إلا بالأمر، والمجلس النيابي الغائب حاضراً والحاضر غائباً أو مغيباً هو هو..
في ما عدا هذه »الثوابت«، فكل من وما في لبنان اليوم هو غيره أو على غير حاله بالأمس، عندما بدأ مسلسل الأزمات يتفجر داخل المجلس النيابي ثم داخل مجلس الوزراء ثم في الشارع ثم في المصارف وسائر المرافق الاقتصادية، حتى إن المواطنين يمشون ويتصرفون ويتحدثون كالسكارى وما هم بسكارى.
مرة أخرى دفع هؤلاء المواطنون، بالدولار العزيز جداً، ثمن عاصفة جديدة من عواصف الخلافات على قمة السلطة.
لقد ذهبت الخلافات الرئاسية في شهر آب اللهاب بالمزيد من الاحتياط الاستراتيجي لمصرف لبنان، وتناقصت السيولة بشكل دراماتيكي وتناقصت معها »المناعة«، وتزايد حجم العجز في الموازنة، وتزايدت كلفة خدمة الدين فضلاً عن أن الدين نفسه يتابع تعاظمه ملتهماً مواردنا الشحيحة أصلاً بما في ذلك المدخر منها للطوارئ أو للجليل من المهمات.. الوطنية!
وبحسبة بسيطة، وعلى طريقة الفلاحين، تنكشف حقائق مخيفة، يتبين ان لبنان قد دفع (ويدفع) ثمن الخلافات الرئاسية أكثر بكثير مما تكبده من خسائر في بنيته التحتية وفي أرزاق مواطنيه بنتيجة الاعتداءات الإسرائيلية.
لا إعادة بناء محطات التحويل الكهربائية، ولا الجسور، ولا البيوت والمواسم المحروقة، وسائر ما دفعه مجلس الجنوب كتعويضات (مع استثناء الأسرى لأن وضعهم ما زال معلقا!)، كلفتنا مثل ما تكبدناه من خسائر مادية (ولنترك المعنوية لحساب آخر) في أسبوع أزمة المواجهة في مجلس الوزراء، ثم في أسبوع المواجهة في الشارع، وأخيرا في أسبوع المواجهات عبر الحدود والبحار والجزر البعيدة!
أكثر من ذلك وأدهى وأمرّ:
على امتداد السنوات الأخيرة، التي يحلو للبعض أن يجعل من التمديد »اليوم الصفر« لها، أي منذ أواسط 1995، تكبدت الخزينة العامة مليارات من الدولارات في أزمات سياسية داخلية، معظمها على القمة وفي صراع الرئاسات، بينما لم نتكبد نتيجة المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، سواء في الميدان أو نتيجة للاعتداءات الإسرائيلية، ما يصل إلى ربع تلك الكلفة المفروضة بنيران العدو.
أي إن الحروب الرئاسية أعظم كلفة من المواجهة مع الاحتلال.
أكثر من ذلك، مما يستدعيه التذكر: أنه في عز أيام المقاومة والمواجهة المفتوحة والاعتداءات الإسرائيلية اليومية التي طالت مواقع إنتاج متعددة في ضواحي العاصمة وأنحاء أخرى من لبنان شملت البقاع والشمال إضافة إلى الجنوب حيث الجبهة الملتهبة…
في عز تلك الأيام الصعبة دخل لبنان من المال الكثير الكثير، سواء على شكل ودائع أو استثمارات أو قروض ميسرة…
أما في ظل الخلافات الرئاسية، من قبل كما اليوم، فلقد خرج من لبنان الكثير الكثير من الودائع، وأصاب الجمود حركة الاستثمار، وصار علينا أن نقدم ما يشبه »الرشى« للحصول على قروض جديدة لسداد فوائد الدين العام!
* * *
إن اللبنانيين يحبون رؤساءهم اليوم أقل مما أحبوهم في أي يوم!
.. وهؤلاء اللبنانيون الذين يفتشون عن مهاجر جديدة وعن فرص للحياة بعيدا عن دولتهم المشتبكة رئاساتها في حرب مفتوحة، فقدوا الثقة بحكومتهم وبمجلسهم النيابي وبسائر المؤسسات.
أما ليرتهم فقد باتت مجرد ذكرى من »الزمن الجميل«.
إن هؤلاء اللبنانيين لا يريدون ولا يطلبون من رؤسائهم (وقياداتهم ومرجعياتهم) ان يوفروا لهم العز والازدهار وفرص العمل والإدارة الصالحة والحياة الهانئة الخ…
لقد تواضعت أحلامهم حتى صار أعظمها أن يسود الهدوء القمة ليستطيعوا هم أن يواصلوا بؤس حياتهم في القاع.
إنهم مستعدون لأن يقبلوا أن يتفق رؤساؤهم عليهم فذلك أقل كلفة من أن يختلفوا على »خدمتهم«، وأي الأساليب أجدى وأكرم وأعظم فائدة!
لقد بات لسان حال اللبنانيين، اليوم: اللهم إننا لا نسألك رد القضاء، ولكننا نسألك اللطف فيه!
… ولنأمل أن يكون الرؤساء العائدون إلى التلاقي وكل قادم نحو الآخر من البعيد البعيد، قد اقتنعوا بأن من المستحيل على أحدهم أن يربح على الآخر، وأن الخاسر الوحيد من كل معاركهم التي لا تبدل حرفا في »المكتوب« هو مواطنهم الصابر، لأنه لا يملك ثمن تذكرة تقوده إلى منفى يرضى باستقبال هذا الشعب العنيد!
إن أيامنا تحتسب بالدولارات…
فلنحسن الحساب حتى لا تستمر المعارك بين مفلسين!

Exit mobile version