طلال سلمان

خطّة باريس: تسريبات وأكاذيب وطموحات

غزة ـ حلمي موسى

في اليوم الثاني والعشرين بعد المئة، لا يتزعزع الأمل بالفرج وبزوال الغمة وبأنّ هزيمة العدوان قريبة. فلكل ليل نهاية، وحق شعبنا واضح، وإصراره على نيل حقوقه لا حدود له. والاحتلال حتما إلى زوال.

***

بات واضحا أن صفقة التبادل، وفق مقترح باريس، هي مجرد خريطة طريق على ثلاث مراحل: الأولى منها تتضمّن بنودا عامّة معظمها غير مفصّلة، فيما من المقرر بحث المرحلتين الثانية والثالثة لاحقا، بعد انتهاء المرحلة الأولى.

وظاهريا، من المفترض أن تقود الخطة إلى تبادل للأسرى، لكنها، جوهريا، ترمي إلى إبعاد “حماس” عن الحكم ضمن خطة تلبي مطالب إسرائيل من ناحية، كما توجّه الوضع في “اليوم التالي” في اتّجاه مغاير لما تريده حكومة بنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي. وهكذا، تتميّز هذه الصفقة، وخلافا للهدن الأولى، بأنها ليست إنسانية بحتة، إذ لها أهداف سياسية واضحة.

لذلك، نرى قدرا كبيرا من الإحجام من جانب الطرفين عن المسارعة لقبول المقترح. فعلى الرغم من الضخّ الإعلامي المكثف طوال الأسابيع الماضية، إلّا أنّ “الناس تسمع جعجعة ولا ترى طحنا”.

وبديهي أن القادة السياسيين، من الطرفين، ليسوا هم أكثر المتضررين وإنما، وبالإساس، الجمهور المدني الفلسطيني الذي يتعرّض لمجازر يوميّة، ويتوق إلى انتهاء الحرب.

وفي الجانب الآخر، هناك أهالي المخطوفين الإسرائيليين الذين يعتبرون أن كل ساعة تمر بعد انتهاء الأشهر الأربعة الأولى تحمل لهم نذر أخبار سيئة، ويضغطون كل يوم من أجل جعل الإفراج عن أبنائهم أولوية لدى حكومة نتنياهو، وليقضوا بعدها على “حماس” والشعب الفلسطيني كله.

وتكمن المشكلة في أن للأطراف كلّها المشاركة في مقترح باريس، والذي غابت المقاومة عنه بكل معنى الكلمة، مصالح في إشاعة أجواء من التفاؤل بخصوص المداولات: الولايات المتّحدة بوصفها طرف ضاغط على إسرائيل ويرغب باستقرار المنطقة عبر إنهاء الحرب وإعادة ترتيب الأوراق، وإسرائيل بوصفها معنية في أن تثبت لجمهورها بأنها تعمل دبلوماسيا للإفراج عن مخطوفيها، إلى جانب استخدامها للقوة في غزة. وهناك أيضا الوسيطان المصري والقطري الذي يكفل لهما النجاح في تمرير المقترح مكانة الدول المؤثرة في استقرار المنطقة.

إلا أنّه لا بد من التشديد على أمرين في غاية الأهمية على هذا الصعيد. أولهما أن استمرار الحرب لأربعة شهور ونيف يعود إلى إيمان إسرائيل أن بوسعها، عبر المزيد من استخدام القوة والضغط العسكري، أن تقوض المقاومة من جهة، وأن تقلص ثمن تبادل الأسرى من جهة أخرى.

أمّا الأمر الثاني فيتعلّق بالمقاومة التي تعتبر أنها، بعد كل المجازر والدمار، ليست في وضع يسمح لها بالتنازل عن مطالبها المبدئية بشأن المعتقلين وبشأن الوقف التام لإطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع.

وقد قاد ذلك إلى موقفين متناقضين جدا من جانب كل من إسرائيل والمقاومة: فالأولى تريد مفاوضات تحت النار، والثانية ترفض المفاوضات قبل وقف النار، وهو ما يزيد الأمر برمّته تعقيدا.

ولذلك، لم يكن كلام مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، لشبكة “آي. بي. سي” التلفزيونية الأميركية كلاما عابرا حين قال إن “الاتفاق على إطلاق سراح المختطفين في قطاع غزة ليس قاب قوسين أو أدنى”. أضاف سوليفان، الذي ناصر هو وإدارته إسرائيل على طول الخط، أن الولايات المتحدة تضغط على كل من مصر وقطر للضغط على “حماس” لقبول العرض الذي تم تقديمه، موضحا “نريد التوصل إلى صفقة رهائن في أقرب وقت ممكن، لكن الأمر يعتمد على حماس. لا أستطيع أن أقول إن ذلك سيحدث في الإطار الزمني القريب، لكن هذا النوع من المفاوضات يتحرك ببطء ثمّ يتحرك فجأة بسرعة …. لا أستطيع اليوم أن أقول إن الأمر بات قاب قوسين أو أدنى”.

وبعيدا عن الجدل حول الطرف الذي يماطل في الرد، يمكن القول أن أيا من قيادات المقاومة لم يعلن رفضه مقترح باريس، وإن كان كل منهم وضع شرطين لقبوله: أن يترافق مع ضمانات بعودة النازحين وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع. ومع ذلك، تسعى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل إلصاق تهمة رفض المقترح بالمقاومة، لتحرير نتنياهو وحكومته اليمينية من أعباء هذا الرفض داخليا وخارجيا.

وأكثرت صحف أميركية من نشر مزاعم مفادها أن العقبة أمام الصفقة تتمثل في الخلاف بين قيادتي الداخل والخارج في “حماس”. ولم يلتفت كثيرون إلى واقع أن هذا الزعم هو جزء من حرب نفسية هدفها تحميل “حماس” المسؤولية عن عرقلة الصفقة وتبرئة إسرائيل منها.

وقد انجرّت وسائل إعلام كثيرة، بينها طبعا وسائل عربية، إلى الرواية ذاتها، برغم عدم وجود أي دليل أو كلام رسمي لمسؤولي حماس أو المقربين منهم بهذا الشأن.

وهكذا، ركّزت هذه الوسائل على الادعاءات بوجود خلافات في “حماس” وتجاهلت آلاف البينات من تقارير وتصريحات وتسريبات في وسائل الإعلام الإسرائيلية عن رفض الصفقة، ليس من وزراء هامشيين فحسب، وإنما أيضا من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نفسه.

وعرض عاموس هارئيل، المراسل العسكري في صحيفة “هآرتس” أمس لجانب من نقاشات المجلس الوزاري السياسي الأمني حول مقترح باريس، مبيّنا حقيقة أن جانبا مما زال مجهولا في الموضوع يدور حول عدد المعتقلين الفلسطينيين المراد الإفراج عنهم مقابل كل مخطوف إسرائيلي، ونوعية أولئك المعتقلين.

مع ذلك، يواصل كل من نتنياهو ووزراء الليكود وأحزاب اليمين المتطرف بث خطاب موحد وهو أن إسرائيل لن توقف الحرب ولن تطلق سراح آلاف السجناء.

وفي نظر هارئيل، فإن مقترح باريس هو اقتراح مصري – قطري تؤيده الولايات المتحدة، الذي تسوق له الآن كجزء من صفقة إقليمية كبيرة تشمل الأمور العالقة كلّها.

وتطمح الإدارة الأميركية للوصول إلى صفقة تشمل، إلى جانب حل قضيّة الأسرى، إقامة نظام جديد في القطاع بالتعاون مع السلطة الفلسطينية، والدفع قدما من جديد بحل الدولتين، وتحقيق التطبيع بين إسرائيل وبين السعودية، وتأسيس محور إقليمي قوي لصدّ إيران. وقد وصل وزير الخارجية الأميركية انطوني بلينكن إلى المنطقة أمس للدفع قدما بهذه المبادرة.

ولاحظ هارئيل أن الجدول الزمني لعمل الإدارة الأميركية مكتظ.

فبداية، هناك الدول العربية التي تضغط لوقف الحرب في القطاع قبل شهر رمضان الذي يبدأ في الأسبوع الثاني من شهر آذار المقبل.

ثانيا، يجب انطلاق الخطة الإقليمية الطموحة خلال الربيع، قبل الدخول في الأشهر الأخيرة لسباق الانتخابات على الرئاسة الأميركية المقرّرة في تشرين الثاني.

وقد بدأ رجال الرئيس الأميركي حملات شرح طويلة في أوساط المحللين الكبار في وسائل الإعلام الأميركية من أجل عرض المبادرة، التي يتم وصفها على أنها نظرية بايدن للشرق الاوسط. وبرغم أن الخطة معقدة جدا، ومليئة بالعوامل المختلفة، وتعتمد على حسن نية الاطراف (وهو الأمر المشكوك فيه) إلا أن البيت الابيض يحاول اظهار التفاؤل إزاءها.

وهناك افتراض في واشنطن أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يريد التوقيع على حلف دفاع مع الولايات المتحدة الى جانب اتفاق التطبيع مع إسرائيل، حتى قبل موعد الانتخابات في تشرين الثاني. في الوقت نفسه، هم يعتبرون أن المبادرة الإقليمية هي بمثابة حبل نجاة محتمل لنتنياهو، الذي ضعفت شعبيته كثيرا بعد 7 اكتوبر.

أما نتنياهو، فهو الآن ينشر فكرة معاكسة تفيد بأنه هو الذي سيمنع، بكل الطرق، إقامة دولة فلسطينية وسيُفشل أي محاولة لدمج السلطة الفلسطينية في حل “اليوم التالي” في القطاع.

في المقابل، كتب يؤآف ليمور، المعلق العسكري لصحيفة “إسرائيل اليوم”، خبرا يناقض نفسه فيه، يقول إنّه “في نهاية الأسبوع، عُلم عن خلاف بين “حماس غزة” بقيادة يحيى السنوار وبين “حماس الخارج” بقيادة إسماعيل هنية”، مضيفا أن “الغزّيون يريدون صفقة الآن؛ إلا أنهم في الخارج يشترطونها بوقف تام للقتال.”!

واعتبر ليمور أنه “إذا كانت هذه التقارير صحيحة، ففيها مؤشر مشجع. يمكن أن نتعرف منها على أن السنوار والقيادة من حوله تعبوا من القتال ويحتاجون الى هدنة. وستدّعي إسرائيل، على أي حال، بأن هذا يشهد على أن مقاتلي حماس بدأوا يتأثرون بالضغط العسكري، بل وربما يخشون على حياتهم، ويأملون في أن تتيح لهم الهدنة إعادة البناء وجمع القوى للمواصلة. أمّا من يعارضون الصفقة فسيقولون إنه التوقف الآن بالذات محظور تماما، معتبرين أنّه مع قليل من الضغط الإضافي، فإن حماس ستنهار.”

ومضى قائلا “إلّا أن التقديرات المهنية تفيد خلاف ذلك. فحماس بعيدة عن الانهيار. صحيح أن الجيش الإسرائيلي يضغط بقوة في خانيونس، لكنه لا ينجح بعد في المس بكبار مسؤولي المنظمة. كما أن الجيش عاد ليعمل مجددا، في الأيام الأخيرة، في شمالي القطاع، حيث عادت حماس لتبدي بوادر حكم متجدد – من خلال نشر أفراد شرطة في الشوارع، كلهم من رجالها.”

وختم بقوله إنه “بالإضافة إلى ذلك كلّه، لم تتم بعد معالجة رفح ومحور فيلادلفي، حيث يتطلّب الأمر أشهر عدّة على الأقل حتى تنتهي المعركة في غزة.”

في جميع الأحول، باتت معارضة القوى الحاكمة في إسرائيل لمقترح باريس واضحة، على الرغم من عدم صدور أي ردّ رسمي عليه بعد.

ونقلت صحيفة “إسرائيل اليوم” عن مصادر مطلعة قولها إن الهجوم الكبير الذي شنه وزراء الليكود في اجتماع مجلس الوزراء الأخير ضد الخطوط العريضة لصفقة باريس قد نشر بشكل جيد. كما طُلب من العديد من الوزراء التحدث علناً في وسائل الإعلام ضد نقاط معينة من الصفقة، وتسريب مواقفهم من دون توريط الحكومة بموقف رسمي.

Exit mobile version