طلال سلمان

خطر التنافسية الاستراتيجية على أمن واستقلال الدول غير العظمى

أمريكا عادت. شعار تردده حكومة وأجهزة إعلام الرئيس بايدن يحمل في طياته سياسات ونوايا عديدة، بعضها غير معلن لاعتماده على ظروف وتطورات لم تنضج بعد. نفهم عودة أمريكا بمعنى أنها غابت، أو غيبت، خلال فترة حكم الرئيس دونالد ترامب، وأن محاولات جرت، منها فوز الرئيس بايدن، مهدت لمد يد الإصلاح إلى الجسد السياسي الأمريكي بعد أن أصيب بأعطاب تسببت فيها سياسات أو تشريعات بعينها. مرت شهور، وهي بالتأكيد فترة غير كافية للحكم على مدى صدقية هذا الشعار، بمعنى حصر عدد مناسب من الأمور التي تثبت أو تنفي إن كانت أمريكا عادت فعلا، وبأي درجة وكم تبقى منها غائبا لم يعد.
يكفي مثلا بحسابات الملاحظة المجردة القول بأن تطورات العلاقة مع روسيا في عهد الرئيس بايدن لا تشي بعودة كاملة لأمريكا. صحيح أن اللقاء الذي وقع بين الرئيسين الروسي والأمريكي في جنيف اختلف شكلا واتسم حسب التقارير الأمريكية ببعض الحدة إلا أنه لم ينبئ وقتها بعودة أكيدة إلى ممارسات من الزمن الماضي، زمن ما بعد الحرب الباردة، زمن لا يخلو من المشاكسات ولكن لا يخلو من تعاون مثمر كما بدا واضحا في تصرفات الطرفين في سوريا. المثير في هذا الموضوع تحديدا حدث عندما قررت واشنطن العودة إلى ممارسات ما كان يعرف في القرون الماضية بأسلوب دبلوماسية البوارج الحربية، أقصد استخدام قطع من الأسطول في مظاهرة بحرية على مقربة من الحدود الإقليمية لروسيا وأوكرانيا في البحر الأسود. اعتبرت روسيا هذه المظاهرة نوعا من التحرش والاستفزاز تحت اسم مناورة للقوات البحرية لعدد من الدول، وتعاملت معها على أساس أنها عودة إلى أساليب الحرب الباردة.
•••
لا يقتصر الأمر عند هذا الحد، فالدرس واضح. يبدو أنه تقرر، بعد أن كان مجرد توصية موجهة لحكومة بايدن إن هي قررت استعادة أمريكا. تقرر أن تقوم الولايات المتحدة بتنويع نظم التحالفات بعد أن اعتمدت نظاما أوحد، وهو نظام الأحلاف الكبرى مثل تحالف الأطلنطي والتحالف الباسيفيكي. يمكن الآن إقامة أحلاف نوعية وأحلاف مؤقتة وأحلاف قضايا تنفض بعد إتمام مهماتها. على سبيل المثال وتحت اسم المناورة البحرية دعت الولايات المتحدة دولا لا تنتمي لحلف من الأحلاف الكبرى إلى مناورة تجري في البحر الأسود. لاشك أن دولا صغيرة قبلت الدعوة للاستفادة ربما ولكن أيضا لإرضاء واشنطن، بعض هذه الدول ربما لم تعرف أن المناورة قرب المياه الروسية الأوكرانية تخدم أغراضا أمريكية، أهمها تثبيت وتأكيد قرار عودة أمريكا إلى ساحة التنافسية الاستراتيجية، الساحة التي تضمها إلى روسيا القطب الأعظم الآخر في مرحلة القطبية الثنائية، وتضمها الآن إلى الصين القطب الصاعد بقوة وبسرعة إلى مرتبة “الأعظم”. هذه الدول الصغرى ربما لم تخمن أن الطرف الآخر وهو روسيا لن يغفر ببساطة انضمامها إلى مناورة هي في الحساب الحقيقي جولة من جولات التنافسية الاستراتيجية، وبكلمة أخرى أكثر وضوحا، جولة من جولات الحرب الباردة الجديدة.
تذكرت هذه المعضلة التي سوف تواجه مرة بعد أخرى الدول الصغرى، وكل الدول غير المنضمة إلى أحلاف كبرى رسمية، تذكرتها بينما كنت أتابع آخر جولة من جولات التصعيد في المنافسة الاستراتيجية بين الصين والولايات المتحدة. فجأة قررت أمريكا أن تتبنى شكوى ماليزيا واندونيسيا وفيتنام وبروناي والفيليبين من الصين التي تكاد تتعامل مع بحر الصين الجنوبي باعتباره بحرا داخليا. هذه الدول المطلة على البحر يحق لها حسب دعواها أن يكون لها مياه إقليمية وحقوق صيد وانتفاع لا تنازعها عليها الصين. الفيليبين بخاصة حصلت على تحكيم من محكمة دولية يؤيد حق الفيليبين في أربعة عشر موقعا من خمسة عشر تعتبرها ملكا لها وترفض ادعاءات الصين بأن لها صخورا وجزرا صغيرة بين هذه المواقع لها حق السيادة عليها وعلى ما بينها من مياه وأسماك ونفط وغاز. تقدم الصين حجة في شكل خريطة رسمية صينية بتاريخ 1947.
هذه الدول لها مصالح تجارية وثقافية وعمالية واستثمارات مع الصين جعلتها على امتداد الزمن تتريث في الدخول في صراع من النوع الذي تدفعها أمريكا للدخول فيه. فيتنام ولها مع الصين تاريخ طويل من الصراع والخلافات تحاشت خلال السنوات الأخيرة إثارة مواضيع خلافية مع الصين حول جزر ومياه بحر الصين الجنوبي. الصين من جانبها، وفي كل قضاياها الداخلية والخارجية تتمسك بما تسميه شرعية التاريخ. أذكر مثلا موقف القيادة الحالية للحزب الشيوعي الصيني من الحملات الدورية التي تشن ضد مرحلة الثورة الثقافية، الثورة التي شهدت أقصى درجات العنف من جانب الشباب ضد الجيل الأقدم من السياسيين وأساتذة الجامعات وكثيرين من أعضاء مختلف النخب. يتلخص موقف القيادة الحالية في أن الحملات المتكررة ضد الثورة الثقافية تعتبر من قبيل العدمية التاريخية. نقد الماضي ممكن وضروري بشرط ألا يمس جوهر التاريخ وقدسيته. لا شرعية كاملة لنظام سياسي انقطعت صلته بالتاريخ، فمن الاستمرارية التاريخية يكتسب القائد السياسي والنظام السياسي والأمة الجانب الأعظم من شرعيته وشرعيتها. هكذا تنظر الصين إلى هذا البحر وإلى تجارب هيمنتها المتصلة تاريخيا عليه وعلى الجزر المنتشرة فيه والثروات المعدنية في أعماقه. لا أظن أن الصين تتخلى عن سيطرتها على هذا البحر، ولا أظن أن أمريكا تتخلى عن خطتها شن تنافسية استراتيجية على الصين وهذا البحر هو أحد أهم بنودها، يبقى أمامهما، أي أمام الصين وأمريكا، البند الأهم على الإطلاق وهو جزيرة تايوان أو المعروفة قبل الحرب العالمية باسمها تحت حكم اليابان، فورموزا. هل تواصل أمريكا مسلسل العودة فتعود إلى مجرد الحرب الكلامية العنيفة مع الصين أم تعود إلى عهد تواجدت فيه أعظم بوارجها وحاملات طائراتها تجوب مياه جنوب شرقي الصين في استفزاز واضح للحكومة في بكين وإثارة مشاعر المؤسسة العسكرية الصينية وقيادة الحزب؟
•••
من ناحيتنا، نحن شعوب الدول غير المنضوية تحت لواء هذه الدولة العظمى أو تلك، نشعر بأننا ننجر إلى ارتكاب أعمال تعتبرها دولة عظمى أو أخرى عمليات استفزاز، أو في أسوأ الأحوال أطرافا في أحلاف مضادة. مصالحنا في ظل هذه الأجواء الملتهبة غير مضمونة ولا آمنة. مرة أخرى يجوز أن نعود نحن أيضا إلى ماض تكالبت علينا فيه قوتان أعظم فاجتمعنا في باندونج ثم في بلغراد لنقرر اختيار طريق ثالث يقينا شرور الأحلاف الكبرى وعصبية الدول العظمى. وبالمناسبة كانت الصين دولة رائدة قادت مع دول قليلة تيارا عالميا يقاوم الانحياز ويمجد الاستقلال الوطني.

ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق

Exit mobile version