طلال سلمان

خطب نهار ومبادرة ليل

تنفس اللبنانيون الصعداء، مع غروب شمس أمس، بعدما انتهت مراسم وداع الشهيد بيار أمين الجميل، بهدوء، بعد يوم طويل من التوتر والشحن التعبوي والخطابات المحمومة بالتحديات التي حفلت بها والتي كادت تتجاوز ما هو سياسي لتمس ما لا يمس.
كان اللبنانيون في حال حزن على فتى الكتائب الأغر ، فشهادته جبّت أي نقاش لمواقفه السياسية التي لا يمكن مهما اختلفوا معه فيها وعليها ان تجعلهم يقبلون بأن تمس شعرة في رأسه بسببها… فلكل رأيه وأسلوبه في التعبير عنه، وما زال اللبنانيون ولله الحمد يسلّمون لبعضهم البعض بحق الاختلاف.
وقد زاد من حزنهم ان ما سمعوه من قادة 14 آذار، في مهرجانهم الخطابي الذي واكب التشييع، قد تجاوز في حالات كثيرة حدود الخصومة السياسية إلى ما يجب أن يصان من كرامات كل من لا يقول قولهم ولا يرى رأيهم في المسائل المطروحة والقابلة للتأويل والتفسيرات المتعددة.
فما هو سياسي سياسي، أما ما يتجاوز ذلك فكلام غير مسؤول يهدد السلامة الوطنية عموماً، ولا سيما أن بعضه يمس المقدس عند المختلفين، وبالتالي فهو قد يتسبب في نقل الخلاف إلى خانة الفتنة، والتي نفترض ان لا أحد قادراً على حصرها في نطاق توظيفها لغرضه، بل هي يمكن ان تصيبه كما تصيب الآخرين… وفي كل الحالات فهي أقصر الطرق لتدمير الدولة جميعاً والوطن الصغير.
ربما لهذا اعتبر اللبنانيون ان الرئيس فؤاد السنيورة قد يكون تسرع في إطلاق دعوته التمني لعودة الوزراء المستقيلين إلى حكومته،.. فخطابات النهار، فضلاً عن الشعارات والهتافات وسائر التصرفات الصبيانية، لا تسمح بأن تلقى آذانا صاغية.
أما دعوته الرئيس نبيه بري إلى تجديد الدعوة لاستئناف الحوار فهي أشبه برمي كرة النار إلى رئيس المجلس… وهي، إذا ما عدنا إلى النوايا، محاولة استنجاد بمن أثبت قدرته على ابتكار أسباب التواصل بين المتخاصمين، أما في السياسة فهي محاولة لرمي الحجّة على الطرف المخاصم، على قاعدة: طلبنا فلم تستجيبوا، وعرضنا فرفضتم، وعلى هذا فأنتم المسؤولون عن النتائج!
لكن المسألة ان ما قيل نهاراً لم يعطل فقط أي دور محتمل لوسطاء الخير، بل انه طرح مسائل خطيرة جداً تداني إسقاط اتفاق الطائف والعودة إلى صيغة ما قبله، وهي الصيغة التي تعثرت بعد سنوات قليلة من الاستقلال في العام ,1943 ثم سقطت بالضربة القاضية في الحرب الأهلية ,1975 وعاشت البلاد سلسلة من الانتفاضات والردات حتى سلّم الجميع بضرورة إعادة النظر في الصيغة ، فكان اتفاق الطائف الذي ما كان ليمر لولا الضمانات العربية والدولية التي أعطيت لتثبيت التوازن الجديد.وبالتالي فإن كلام النهار يكاد يوحي بقرب اكتمال الانقلاب، وإذا أحسنا فهم مضامين بعض الخطب الرئاسية فإن ساعة الصفر قاب قوسين أو أدنى…
ولأنه لم يعرف عن الرئيس السنيورة السذاجة، فإنه يدرك تماماً مدى الافتراق بين كلام النهار الذي لا يمكن تجاوزه بهذه السرعة وبين مبادرة المساء، في حين أن ردود فعل من شعروا بالمهانة نتيجة ما سمعوه في خطابات مهرجان التشييع تتوالى ويكاد يصعب ضبطها إلا بتدخل مرجعي حاسم.
اللهم إلا إذا كان القصد من مبادرة الليل تغطية القرار باستعادة الوزير الذي استقال ولم يستقل إلى الحكومة لتعويض صوت الشهيد الجميل الذي أودى به الاغتيال.
ومع أن للموت جلاله، وللشهيد كرامته، فالأزمة أشد تعقيداً بل خطورة من ان تنهيها دعوة لتجاوز ما كان بتبويس اللحى، واستئناف الشراكة التي يبدو واضحاً أنها باتت من الماضي…

Exit mobile version