طلال سلمان

خطاب وداع امام انصاف سابقين

في «عاصمة المتصرفية»، بعبدا، التي قررتها «الدول» مركزاً لتلك «الدويلة» المستقطعة من «أعمال السلطنة» بذريعة الفتنة الطائفية، والتي كان استيلادها تمريناً عملياً وعلى الأرض لتمزيق وحدة هذه البلاد بالكيانات الطوائفية، وقف رئيس الجمهورية، يوم أمس الأول، السبت، وعشية انتهاء ولايته، أمام تماثيل نصفية لاثني عشر من أسلافه الذين تعاقبوا على سدة الرئاسة منذ الاستقلال في 22 تشرين الثاني 1943، يكرز على سامعيه خلاصة تجربته المختلفة في بدايتها الاستثنائية كما في سياقها، عن تجاربهم، في ما يشبه خطاب الوداع، وإن رأى فيه بعض المستريبين من قارئي النيات أنه أقرب إلى إعلان النية أو الرغبة في البقاء في موقعه بقامته كاملة وليس بتمثال نصفي.
وكانت مفارقة لافتة أن يستهل الرئيس خطابه بفقرة ممتازة الصياغة في تأبين القائد الذي لا مثيل له ولا شبيه في التاريخ الإنساني هو نلسون مانديلا «الذي هندس مصير بلده على قياس حلمه فحوّل مجرى التاريخ في أفريقيا والعالم»… وإن تضمنت خاتمة الاستذكار مفارقة نافرة هي تشبيه جنوب أفريقيا بلبنان… وكأنه، مثلها، «أمة قوس قزح التي تعيش بسلام مع نفسها والعالم»، قافزاً من فوق حقيقة أن أهل البلاد ليسوا كما المستوطنين الذين جاء بهم الاستعمار الذي امتد ثلاثمائة سنة، والذين استمروا بعد الاستقلال «مواطنين فيها» مثلهم مثل اللبنانيين بجماعاتهم المتعددة وبقدر بلادهم الصعب ورسالته الأصعب؟!
… ولسنا نعرف بالضبط من هم «المستوطنون» الذين استبقاهم الاستعمار في لبنان ثم أكرمناهم بجنسية البلاد وقبلناهم كأهلها.
لقد حرّك الرئيس «التاريخ الساكن في حجارة صرح بعبدا»، عبر تماثيل نصفية للرؤساء السابقين طيلة سبعين سنة، «وهي مشهدية لم نلحظها إلا في لبنان»، حيث تستحيل المحاسبة ويستوي من «جاء بهم الأجنبي» مع «من جاء بهم الشعب» على حد تعبير الراحل الكبير كمال جنبلاط في إطلاق الثورة على الرئيس الأول ـ بطل الاستقلال، الذي أصر على تمديد ولايته عبر المجلس المزورة انتخاباته، والذي منعته الإرادة الشعبية من إكمالها واضطرته إلى الاستقالة في منتصفها.
أما الرئيس الثاني فقد اختتمت ولايته التي كان يرغب في تمديدها، أيضاً، وعبر انتخابات مزورة بتقسيم الدوائر، وتقصّد إسقاط «الكبار» من أهل الحضور الشعبي فيها، بثورة 1958، وبعد «استدعاء» بالطلب للأسطول الأميركي السادس إلى شواطئ لبنان والذي جاء فعلاً، في محاولة لمنع انتشار مناخ الثورة التي تفجّرت في العراق في 14 تموز 1958… وبعد شهور قليلة من وحدة مصر وسوريا في دولة واحدة هي الجمهورية العربية المتحدة، التي لم تعمّر طويلاً.
وإذا كان الرئيس الثالث قد رفض تجديد ولايته، فإن الرئيس الرابع قد ترك البلاد على شفا حرب أهلية سرعان ما انفجرت بالثورة الفلسطينية الوافدة مما اضطر الرئيس الخامس إلى ترك القصر الرئاسي في بعبدا إلى «العرين الحصين» في «قلب لبنان»، كما أطلق أمين الريحاني على كسروان.
وأما الرئيس السادس فقد عاش في ظلال الحرب الأهلية التي جاء ختامها الاجتياح الإسرائيلي للبنان، في حزيران 1982، ممهداً الطريق للرئيس السابع الذي كان قد تورط في علاقة مع العدو الإسرائيلي مكّنته من القفز إلى القصر وإن تعذر عليه بلوغه إذ أودى به الاغتيال، فجيء بشقيقه الذي كان يخافه إلى السدة… ومن القصر الجمهوري، العرين، رأس الحربة في بعبدا، وبسبب «اتفاق العار» مع العدو الإسرائيلي، تفجرت الحرب الأهلية مجدداً، مستدعية «الدول» إلى «مؤتمرات الوفاق الوطني، في جنيف ثم في لوزان وأخيراً في الطائف، بعدما كان الرئيس الثامن قد ترك السدة فارغة، لأنه ظل يناور ـ حتى اللحظة الأخيرة ـ طامعاً بالتمديد أو التجديد، فتفجرت بدل الحرب الأهلية حربان أهليتان، إحداهما «عامة» والثانية «داخل الطائفة الرئاسية» ذاتها.
بعد الطائف، وفي ظلال «حرب الأخوة» تم انتخاب الرئيس التاسع في ثكنة عسكرية في القليعات، لكنه لم يمكّن من الصعود إلى القصر الرئاسي في بعبدا إذ اغتيل في ذكرى عيد الاستقلال في «السرايا الحكومية» في بيروت.
مع الرئيس العاشر دخلنا عصر التمديد بنصف ولاية لرئيس الجمهورية، وكذلك كان الحال مع الرئيس الحادي عشر… ثم عرفنا بعده «الفراغ» في السدة حتى جاء «العالم» جميعاً فاحتشد داخل المجلس النيابي لينتخب لنا الرئيس الثاني عشر الذي يفترض أن يضاف تمثاله النصفي إلى السابقين بعد ستة شهور، إذا ما نجح في استنطاق تجارب أسلافه من الرؤساء وابتعد عن هذا المنصب مستخلصاً العبر من العهود والأزمات التي توالت عبرها.
بين الدروس والعبر المستفادة يحدد الرئيس «مشكلة الهوية التي رافقت سنوات التأسيس وأدت إلى «نزاعات وصراعات استدرجت تدخلات خارجية نتيجة التعثر بل الإخفاق في إنجاز بناء الوطنية اللبنانية والتحصن داخل الكيانية اللبنانية الصافية والتمسك بفرض اللبننة على الشريك الآخر الذي استنهض عروبة حادة عابرة للحدود فتشابكت مطالب الشراكة بمقتضيات السيادة فانقلبت الانتفاضات والأزمات الداخلية إلى أزمات إقليمية ودولية متواترة».
يخلص خطاب الرئيس إلى التذكير بمقولة «حياد لبنان الإيجابي» لاستنقاذه من صحوة الولاءات الدينية والمذهبية المهيمنة على حساب الهوية اللبنانية والعروبة والدولة الوطنية في آن..»،
ولا ينسى الخطاب الإشارة إلى «ازدواجية السيادة وإمرة السلاح على أرض واحدة وفي ظل دولة واحدة»، مذكراً باتفاق القاهرة حيث «تداخلت عناصر الاحتلال (من دون تحديد هويته الإسرائيلية) وتناسلت الحروب»، وإن لم ينتقص هذا الموقف من «مقدار الاعتزاز والافتخار بما تمّ إنجازه من تحرير على يد المقاومة في ربيع العام 2000… وأدهى ما كشفته المراحل السابقة أن أي سلاح خارج منظومة الدولة ووحدة قرارها يتحول جزءاً من أدوات الصراع على السلطة أو الهيمنة».
ويختم الخطاب مذكراً بأن «الفراغ يفتح الباب لتسلل الفوضى الأمنية والسياسية والدستورية».. تماماً كما هي حالنا الآن، مذكراً بضرورة توضيح الصلاحيات المنوطة برئيس الجمهورية، مؤكداً أن رئيس لبنان يستمد قوته من هذه المبادئ وليس من طائفته أو حزبه، وليس من الشارع أو تحالفات الخارج».
بعض الخبثاء أو العالمين بالسريرة وأسرارها لم يقرأوا هذا النص البديع باعتباره خطاب وداع، بل ربما استكشفوا في ما وراء السطور أنه خطاب تجديد أو تمديد تحاشياً للفراغ الذي طالما استولد رؤساء بالضرورة وليس بالكفاءة.
… والشهور الستة المقبلة كافية للحكم على خطاب لم يقيض لتماثيل السابقين من الرؤساء أن تسمعه، ولا للمتصرفين الذين كانوا بغالبيتهم من الأشقاء الأرمن تختارهم «الدول» و«يوافق» عليهم «السلطان»، ليحكموا جبل لبنان.
وأما «الدول» فموجودة، يبقى أن نعثر على السلطان!

Exit mobile version