طلال سلمان

«خطابان» في ذكرى خامسة غياب سعد يستعيد خط رفيق حريري

استعادت صورة رفيق الحريري، أمس، وعبر الاحتفال بالذكرى الخامسة لتغييبه، بعضاً من ملامحها الأصلية كشهيد للوطن وأهله جميعاً، لا لفئة فيه أو لطائفة، لا لحزب أو لتيار بالذات، عبر خطاب نجله ووريثه الآتي تحت شعار «العمل لإكمال ما بدأه»: رئيس حكومة الوفاق الوطني، سعد الدين رفيق الحريري.
انتهى التيه في غمرة الاتجار بالدم المراق غيلة، وعاد الوعي بمرتكزات اليقين ليفرز فيميّز بين المصابين برصاص الاغتيال وتفجيراته، وبين مستثمري فوضى الضياع في غمرة الشعور بالفقد، ليقرروا للبنان، وللشهيد بالتالي، هوية لم تكن له، ولن تكون، وليحاصروه ـ والشعب كله ـ في طريق مسدودة لا تؤدي إلا إلى الفتنة والحرب الأهلية.
تبدت المزايدات الخطابية نافرة ورخيصة، تشبه بكاء المستأجرة والتي لا يمكنها أن تنضح بحزن الثاكل، وسمت صورة رفيق الحريري فوق أعلام الاستثمار السياسي والنفاق المأجور والشحن المذهبي، لتعود فتتألق كرجل دولة يرفعه سمو الشهادة وتاريخه الذي لما يغادر الذاكرة فوق الأغراض والمصالح والشهوة إلى السلطة…
كان البعض كمن يتحدث عن رفيق حريري آخر، لا يعرفه حتى نجله الذي جاء ليكمل وليس لينقض عهد أبيه، وليخرج استشهاده من سياقه فيضعه في مواجهة عروبة لبنان التي أعطاها عمره، وفي التضاد مع المقاومة المجاهدة من أجل تحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي عبر اجتياحاته المتكررة قبل النصر في أيار 2000 (حتى لا ننسى دوره في إنجاز تفاهم نيسان 1996، وهو أخطر وأجلّ من أن ينسى..)، ثم بعده.
ولقد كان بديهياً أن يغادر سعد الحريري موقع الطرف، المخاصِم، المطالِب بالثأر من أهله ومن شعبه ومن تاريخ أبيه، وأن يعود إلى موقعه في أحضان أهله الذين يطالبون بالعدالة كما يطالب، لأنها ضمانتهم في حياة كريمة وفي بلد مستقر أمنه «عربي» بالضرورة، وسوريا طرف أساسي فيه، لأن «العدو» واحد، وحربه مفتوحة بشهادة شبكات التجسس والتخريب التي تم اكتشافها خلال السنة الماضية، وكذلك التي سوف يتم كشفها في الآتي من الأيام.
ولأنه نأى بنفسه عن سياسة المحاور والخصومات المجانية، والتفت إلى المخاطر التي تتهدد لبنان، ومصدرها واحد لا يتغيّر، إسرائيل، واستفاد من النافذة التي فتحها أمامه الملك عبد الله بن عبد العزيز، فقد استطاع سعد الحريري أن يتوجه إلى دمشق لإعادة وصل ما انقطع، على أسس جديدة لا تقاربها «الأخطاء» ولا تتحكم بها الأغراض، وتكون القاعدة الثابتة فيها وحدة العدو، ثم وحدة المصالح.
كذلك استطاع سعد الحريري أن ينتبه إلى حقيقة أن لبنان هو أكبر متضرر من لعبة المحاور، خصوصاً أن المحور الطارئ الذي حاول أن يحتويه وأن يأسره خلال السنوات الخمس الماضية كاد يفرض عليه أن يبدل هويته وأن يزوّر لغته وأن يغترب عن أهله ومحيطه، بذريعة الثأر، بينما مطلبه العدالة، توكيداً للموقع الذي عاش فيه والده حتى يوم استشهاده.
لقد تبدى الافتراق واضحاً بين منهجين ولغتين لفريقين سياسيين جمعتهما المصادفات «الدموية»، وكاد المهرجان ينشطر إلى احتفالين بلغتين متقابلتين: إحداهما تحاول أن تفتح الطريق إلى المستقبل، خارج لوثة الانتقام والكيد ومعاداة الأخ الشقيق ومواجهة الشريك في الوطن، بأفراحه ومآسيه، بانتصاراته التي أعادت إلى الوطن عزته، وأكدت الاحتياج إلى الدولة التي كادت تذهب بها عواصف الفتن، طائفية ومذهبية… أما اللغة الثانيـة فتـصر على «اعتقال» الدولة والشعب في ماضي المخاصمة المستحدثة إلى حد الاشتباك المدمر للثوابت والبديهيات.
ولأن «النافذة المفتوحة» سعودية فقد امتنع «صقور الاحتفال الثاني» عن الهجوم على سوريا التي استقبلت سعد الحريري وافتتحت معه مرحلة المكاشفة والمصارحة حول الماضي والمستقبل، وركزوا هجومهم على سلاح المقاومة، متبنين المنطق الإسرائيلي حرفياً، في محاولة لإفادة أخيرة من التلاقي الاضطراري في مهرجان الذكرى الخامسة لاستشهاد رفيق الحريري.
[ [ [
غداً يوم آخر…
لقد غدا الحديث عن جريمة الاغتيال مضبوطاً بتحقق المطالبة بقيام المحكمة الدولية، خصوصاً وقد تغاضى اللبنانيون عموماً عما رافق السعي لإقامتها من محاولات خبيثة لاستثمارها في إشعال نار الفتنة في الداخل، أو لتدمير علاقات الأخوة مع سوريا خصوصاً ومع الهوية العربية جميعاً، عبر رفع الشعار الكياني المثير للدهشة «لبنان أولاً»… فهذا الشعار يكاد يزوّر للبنان موقعاً وهوية ودوراً لا يخدم في نهاية الأمر إلا إسرائيل ومشروع الهيمنة الأميركية على المنطقة… وهو ما شهدناه وخبرناه في أقطار عربية أخرى رفعت هذا الشعار بالذات، في مواجهة المعترضين على الانحراف السياسي الذي ضيّع الهوية والسيادة والاستقلال، وأعطى «شرعية» معينة لمنطق إسرائيل القائم على استفراد كل دولة عربية على حدة، بما ينفي عنها حقيقة عدائها للكل، دولاً وشعوباً ومجتمعات، وليس لشعب فلسطين وحده، وهو المستهدف بالتذويب تشريداً وقتلاً وتهجيراً وحرماناً من أبسط حقوقه في أرضه.
لقد تحدث سعد الحريري من موقعه كرئيس لحكومة الوفاق الوطني، وهو هدف كان عزيزاً جداً على والده الشهيد، الذي لا يمكن نسيان دوره في إسقاط «اتفاق العار» (17 أيار 1983) مع العدو الإسرائيلي، ولا دوره الأساسي في تأمين النصاب السياسي لمؤتمرات جنيف ولوزان ثم الطائف للوصول إلى الاتفاق السياسي الذي أرسى دعائم الحكم ومؤسساته في هذه الجمهورية التي تعوّدت أن تعيش في مهب العواصف السياسية التي تخلخل دعائم الاستقرار في المنطقة عموماً، ولمصلحة إسرائيل والهيمنة الأجنبية دائماً.
وتبدى سائر الخطباء وكأنهم أقرب إلى «المعارضة»، برغم أنهم شركاء في هذه الحكومة، وبين كبار المستفيدين من اتفاق الطائف، ثم من «النافذة» التي فتحتها السعودية في جدار الخصومة المقررة مع سوريا، لأسباب لا علاقة لها بمصالح لبنان في الحاضر والمستقبل.
لكن تراث رفيق الحريري سيصمد لهذه المحاولات، وسيكون هو الموجّه لخطى سعد الحريري على طريق الوفاق الوطني الذي جعله زعيماً شعبياً ورئيساً لحكومة الوحدة الوطنية.

Exit mobile version