طلال سلمان

خروج من نفق ارهاب دولي

لم تنفع التزكية العلنية التي منحها الرئيس الأميركي باراك أوباما للرئيس سعد الحريري باستقباله في البيت الأبيض، قبل أسبوعين، إلا في التعجيل بإسقاط حكومته، إذ خرج من لدنه رئيساً سابقاً لحكومة لم تعد قائمة.
لعلها المرة الأولى، أقله في تاريخ لبنان، التي تتسبّب فيها مبالغة واشنطن في تأييد مَن تعتمده صديقاً، حتى لا نقول حليفاً، بإخراجه من دست الحكم إلى شارع المعارضة عبر «يوم الغضب».
كذلك فإن الحمايات العربية التي اتخذت طابع التهويل بالفتنة ومخاطر تقسيم هذا الوطن الصغير بين طوائفه ومذاهبه و«قومياته»؟؟ لم تنفع في تأمين الاستمرار لحكومة أسقطها الخروج على علة وجودها، أي التوافق بين أطرافها من القوى السياسية المتعارضة التوجهات.
أما التهديدات الإسرائيلية التي ركزت على تخويف لبنان من اجتياح «حزب الله» الحكم، بل البلاد، لإقامة «دولة ولي الفقيه» بالاتكاء على إيران وبحماية «التواطؤ السوري» فلم تجد لها صدى إلا على ألسنة بعض سياسيي الأطراف ممّن يشكّل التطرف المذهبي والجهوي علة وجودهم ومصدر «جماهيريتهم»، سياسياً.
لقد ألجأ غياب المشروع السياسي والحرص على حماية الممارسات الفاضحة في سنوات التفرد بالسلطة إلى الاستقواء «بالدول» ومنتجاتها السامة عبر التحقيق الدولي (الموجّه) على طريق «المحكمة الدولية» التي احتجزت لبنان كله (بشعبه ودولته ومؤسساتها جميعاً، القضائية والأمنية فضلاً عن الحياة السياسية) في معتقل «القرار الاتهامي» الذي تحوّل إلى سلاح للابتزاز السياسي وبالتالي للتفرد بالسلطة… فكل معارض أو معترض أو مجادل متواطئ، على الأقل، أو متستر على المجرمين أو ربما مشارك في الجريمة الأخطر والأكبر والأفظع من أن تكون استثماراً مجزياً… للطامحين إلى وراثة سلطة ملطخة بدماء الضحايا ومرتهنة لمستثمري الاغتيال الذي أصاب الوطن جميعاً بدولته ومؤسساته وشعبه المُدان بالجريمة التي استهدفته.
كان لا بد من الخروج من هذه الحلقة الجهنمية المقفلة بمصالح «الدول» وأغراضها.
كان لا بد من إعادة الروح إلى البلاد عبر إعادة الاعتبار إلى الحياة السياسية.
كان لا بد من تحرير السلطة من سجنها الانفرادي: تكون بالحاكم الأوحد أو لا تكون… فلقد كان الجميع يدورون في الحلقة المفرغة ولا خيار خارج الأمر الواقع الذي تحوّل إلى إرهاب… فمَن يسعى لتغيير في السلطة، أو حتى للمشاركة جدياً في القرار هو شريك في الجريمة، بالتستر أو بالانتفاع. للحكومة رئيس أوحد، وأكثريتها المطلقة لحلفائه وشركائه، كل بنسبة ولائه، ولا سلاح في الاعتراض إلا بخروج المعترض من جنة الحكم مطارداً بالاتهام بالضلوع في الجريمة.
[ [ [
هي مرحلة جديدة، إذن. لقد تمّ إسقاط الإرهاب بالديموقراطية التي افترض مَن كانوا في السلطة أنها من ضمن الإرث العائلي الذي حصّنته «الدول» بالقرار الهمايوني الذي أخضع التحقيق والقرار الاتهامي والمحكمة لوصايتها، بعيداً عن لبنان وسلامه الداخلي وهو ضمانة وجوده.
سيقول البعض، في الداخل أساساً وفي بعض الخارج، إنه انقلاب. وهو بالفعل انقلاب أبيض بسلاح الديموقراطية التي أساء أهل السلطة بالأمس استخدامها فمضوا اليوم يبكون ملكاً لم يعرفوا كيف يحفظونه.
إنها لحظة الخروج من نفق الارتهان للإرادة الخارجية التي حكمت مسيرة السلطة خلال السنوات الست الماضية.
إنها لحظة إعادة الاعتبار إلى العمل السياسي عبر تحريره من إرهاب الابتزاز بالتحقيق الدولي وقرار الاتهام الدولي والمحكمة الدولية والبند السابع!
وهي فرصة استثنائية لعودة الروح إلى هذا الوطن الصغير الذي تدفع أزماته السياسية المتوالدة من ذاتها تحت ضغط التدخل الدولي، أهله إلى الخروج منه إلى أي مكان في العالم الواسع استنقاذاً لأبنائهم من أن يعيشوا أعمارهم في ظل أزمة مستديمة جعلها استثمار التحقيق الدولي والقرار الاتهامي ومن ثم المحكمة الدولية تقلب المقاييس والمعايير والحقائق فإذا المقاومة التي صنعت بدماء مجاهديها أنصع صفحة في تاريخ لبنان متهمة بشبهة التورط في جريمة فظيعة تصل خطورتها إلى حد تدمير وطن بكامله.
لقد انحدر الخطاب السياسي إلى المستنقعات الطائفية والمذهبية كما لم يحدث في أية مرحلة سابقة. صار التنابذ بالمذاهب من فنون الإبداع في استعجال الزعامة الشعبية ولو على حساب وحدة الوطن ودولته وأمنها القومي.
وليس سراً أن العدو الإسرائيلي هو المستفيد الأعظم من مثل هذا التردي في الخطاب السياسي، فكيف إذا ما استولد هذا الخطاب الفتنة التي تجوس أشباحها السوداء في أفق هذا الوطن الصغير؟
لقد انتهت مرحلة كالحة، وأطلت مقدمات مرحلة جديدة ليست هي الثورة، وليست هي الانقلاب، ولكنها لحظة تصحيح المسار في اتجاه الوحدة الوطنية التي وحدها تحصّن لبنان وتحميه من «تآمر» الخارج ومن سوء استثمار السلطة في الداخل.
ها نحن نحاول أن نباشر الخطوة الأولى من قلب الصعوبة في اتجاه العودة إلى الصح. والحكومة الجديدة بحاجة إلى الكثير من الدعوات الصالحة للتمكن من اختراق الصعب إلى النجاح الممكن.

Exit mobile version