طلال سلمان

»خديجة« تستعيد التاريخ

لم يعد »العربي« يستطيع ان يتحمل مع »العيش« قضية…
انهما ثقلان يعجز عن النهوض بهما.
والخيار شكلي فهو محكوم بالعيش، فإذا ما عاش انسته تكاليف العيش »القضية«.
صارت »القضية« وكأنها الاسم الحركي للانتحار، او للعبث، او للتهويم خارج حقائق الحياة: اشبه بمغامرة خارج نطاق المأولف والمقبول.
وصار من له »قضية« يؤمن بها حقا يتصرف كالمهرب، او كمخرب اللذات، يتسلل بها خفية، ويموِّه طرحه بقليل من السكر المخدِّر قبل ان يفاجئ بها الناس الهاربين من الخيبة إلى اليأس باعتباره احدى الراحتين.
محمد جبر الحربي شاعر عربي من الجزيرة العربية،
وهو قد اختار لتهريب »قضيته« اسم »حبيبته«: خديجة.
وفي صفحة داخلية، بعيداً عن العنوان والغلاف، اطلق اعترافه صريحاً:»قصائد حب وشهادة للوطن الكبير«… ثم باشر ديوانه بقصيدتين قصيرتين: الوطن و»شهيد«… مقدما نفسه وشعره بلا حجاب.
»رأسه في يدي
»ودمي في يديه
»أينا كان، عند المصب، القتيل«؟!
هذه هي صورة »المثقف«، فإذا ما جاء »التعقل« لم يغب القتل ولا القتيل:
»أقبِّل هذا التراب،
وأقبل كل العذاب
وأقبل ها ساحة القتل جاهزة لسنيني
… ليبدع هذا الدم اللوحة الازلية
بوح الجنون
وقتل الجنون
وماذا يظل من الشعر
غير الجنون؟!«
اما المثل فمتعدد مع انه واحد: الفارابي، ابن باجة، أمل دنقل، وطابور من الذين قطعت رؤوسهم فلم تسقط الاسماء:
»وحده يبني
ويخلق في فضاء الله
مشروع الولاده«.
مع أمل دنقل يتدفق الحنين ويسري في الافق عبق الشهادة:
»كل الايام حداد/ لو زرتك في الصبح/ لكنت الاعياد/ لو زرتك في منتصف الليل/ لكنت الأول من بغداد،
يا سيد من كانت مصر على شفتيه رمادا
يا مد النيل/ وسيد كل الاسياد
وعلى بعد البعد/ ومفرق راس الشمس/ رمى بقياد
قطعة خبز كان/ قطرة ماء/ ظلا في الشمس/ وشمسا في العتمة…
منديلا علق للريح لكي تعبر وتمر بلاد…«
اما صنعاء التي زارها ضمن جولة في تاريخه الشخصي الذي غدا أسماء لأمكنة غادرها الزمان، فتربكه:
»هو الوقت: نصف عذول، ونصف خليل
وبينهما يلتقي العاشقان
… ببابك اوقفت عيني/ ثم ارتحلت/ فأنّى حللت
تبدى لي الحسن بابا
تبدت لي المدن الآخريات دخان…!
مع »خديجة« ينكشف السر وتكتمل الدائرة:
»جاءت خديجة.
طلعت فتاة الليل من صبح الهواء فأورقت تينا وزيتونا وألقت للنخيل تحية الآتين من سفر فاينعت الوجوه شقائقاً ونمت حبيبات الندى مطراً على تعب القرى.
جاءت فتاة الليل من صبح الهواء فأسفرت
دخلت على الاطفال موالا،ً ومالت للحديث فازهرت
قرأت كتاب الله وانتثرت على الكلمات دفئاً اسمراً…
قمرا ًعلى وجع القمر
… صرخت… صرخت وما فتئت اردد الصلوات في روحي وأسترق الوطن:
كلا ورب السيف والكلمات والمدن الحزانة
ما ناشني فرح/ ولا دونت اسمي في دواوين الخلافة
مضت الفصول/ خلعت جلدي/ يا بلاداً باعها السمسار للسما
واستبق الغزاة إلى ملابسها/ وتجار الصحافة…«.
محمد جبر الحربي: »يا لهذا الفتى، موغل في المتى، موغل في الغياب، ساكن فوق حد المدينة والمقبرة«.
حماك الله يا الحربي…

 

عيد العيد

يخترع الرجل التاجر للرجل المستهلك عيدا كل يوم،
تشق الشطارة قلب الشظف، ويغري الدهاء التعساء بأن العيد يأتي من الخارج، وانه كأي سلعة في الدكان، وبأسعار زهيدة، يمكنك ان تشتريه بدراهم قليلة فيمنحك فرحاً عظيماً…
ملأوا الروزنامة بالاعياد، وملأوا شاشات التلفزيون والمسارح والاندية والشوارع بالاحتفالات والشرائط الملونة للمهرجانات.
صُنّف الناسُ انواعاً وحدد لكل صنف يوم لعيده: للرجال الطوال عيد، للارامل عيد، لواسعي الخدمات عيد، وللذين يريدون ان يعشقوا عيد الاعياد!
اما الثامن من آذار فهو عيد المرأة »العالمي«.
لماذا الثامن وليس التاسع او العشرين او الثلاثين من آذار؟!
في زحمة بيع الاعياد، ركب عيد المعلم على المرأة، او ركبت المرأة على عيد المعلم، او ركب العيدان على الميزانية الفقيرة فعزت الهدايا!
اية امرأة تلك الغبية التي ترضى بأن يكون عيدها يوما في السنة؟!
وأين العيد خارج المرأة؟!
أليست المرأة هي عيد كل يوم… اقله للرجال؟!
العيد رجل وامرأة، فمن ذا الذي يحتفل بنصف عيد، ونصف الحقيقة غالباً ما يكون نقيضها؟!
العيد رجل وامرأة.
لا عيد في غياب الحب.
ولا تصنع الروزنامة الاعياد.
ولا عيد يتصدره السلطان، او تنصب فيه السرادقات وتقدم فيه كراسي أهل السلطة لكي تطمئن إلى انها احتلت المساحة كلها حتى لم يتبق للفرحة موطئ قدم.
كل امرأة لها رجلها لن تذهب لتبحث عنه في قلب خطاب سمج يكتبه رجل متصاب لامرأة مسترجلة في احتفال تنظمه نساء متقاعدات ولا يحضره من الرجال الا اولئك الذين لا يملكون ما يعطونه الا الصورة.
المرأة في قلب العيد لا خارجه،
فإذا ما جاء الرجل صار العيد في قلبها
ولتقفل الدكاكين!

 

اسمك الحب

ثقيلاً كان الليل، وحشاً أعمى، غليظ القلب والمخالب،
وفي قلب الخوف كنا نتلطى واجمين، نتكأكأ داخل قوقعة العجز، ونفتقد شفاهنا لنرسم فوقها ابتسامات باهتة، فتضيع منا في قلب عتمة القنوط وتندثر الالوان فلا يبقى الا الشحوب.
من عينيك ظل ينبعث النور، فنخجل منهما، ونواري وجوهنا في اكمامنا، حتى لا يرتطم بها فينكسر.
ومن عينيك انطلق السندس ليصطنع للأرض ربيعها، وسبق الحب بزهرة اللوز والمشمش والكرز.
ما أروع الجنون المتفجر بالفرح.
أليس للعقل غير الحزن من طريق، أليس له باب ثالث خلف الوجع وقبل الانطفاء؟!
تنهضين فإذا الشمس تنهي كسوفها وتستعيد احتضانها الكون، تنير كل الزوايا المظلمة فتطرد الخفافيش وتهزم البرد وتحفظ للعتمة وقار النوم.
يتدفق حبك نهراً، كلما شربنا منه فاض ماؤه وانطلق سيلا ليسقي العطاش في كل أرض.
يا بحر الحب ونحن على الضفاف مناديل من سوسن الشوق وشوك اللوعة وبيلسان الرجاء.
تتدانين حتى لا يلامسك النظر، وتتباعدين وأنت في النبض والنفس وطرفة العين.
ونظل ندور نبحث عن سرك المجلجل في حنايانا.
اسمك الحب، وله عيناك وبهما رأينا فعرفنا وفهمنا ودخلنا ملكوت الحياة.

 

في خيمة الشجن

في خيمة الشجن، جددت المصادفة اللقاء.
أهي الخيبة تمنع الذكرى من الانجاب، ام ان الذكريات عاقر؟!
كنا متقاربين إلى حد الانفصال المطلق: اليد قرب اليد وبينهما جدار من الثلج. هل هو الخوف من افتضاح الماضي، ام هو القلق من خطر التجدد مستقبلا؟!
العين تهرب من العين، ثم تتعب من الهرب فتطرف، وتتسلل نظراتها لتلامس من تحت اهدابها الملامح، فتطمئن إلى انها لا تزال دافئة وممتلئة بعبق الزمن الجميل…
الاذن تلتقط النبض والنفس ومسرى الفكر، فتهدأ خفقات ذلك المعذب ويفرد الاطمئنان جناحيه، ويبزغ شيء من الامل، سرعان ما يتعزز ببرق يلتمع في العيون التي تلاقت من خلف الخطر.
يتسلل إليّ جسدك رعشة رعشة.
يسقط عليّ جبل الرغبة فيدفعني إلى بحر الخدر وتطفو القصائد مشطرة، لاهثة ابياتها، كثيرة نقاطها كنجوم سماء صيفية تُظِلّ سهل البقاع بنعاس اللذة الخافتة الضوء والصوت.
نتناوم لكي يناموا من حولنا، او يغفلوا عن متابعة اشواقنا المغلولة المهوِّمة في سقف الغرفة المحمولة على ريشة العبقرية.
تتوغلين داخل ذاتك مقهورة وتغلقين عليك الباب.
تتأملك النساء من حولك ويقرأن اسمي في عينيك، على اطراف الشعر، على امتداد العنق، في انطباق الشفتين على حروفي… اما حين تبتسمين فلا يظل للسر مكان، اذ يطل من تلك الفرجة في أسفل العنق، ثم ينساب رقراقاً عبر الشرايين إلى كل عين تعرف القراءة في سفر الحب.
تبتعدين إلى حد الالتصاق ثم لا تدخلين.
واهرب منك إليك ولا لقاء.
ونظل معلقين على شريط الماضي كثياب اسرة هجرها الطوفان، فتركت زمانها والمكان مفضلة برودة الذاكرة على عاصفة الدفء الحميم.

 

ذاهب إلى غده

قال لي صاحبي: عوّدتني أن تستمع إلى ما لا أقوله لغيرك.. هلاّ سمعت هذا المقطع من رسالتها الأخيرة؟
لم يمهلني لكي أجيب موافقا، بل نشر الصفحة المطوية بعناية، كأنما على قلبه، وباشر القراءة بصوت محموم:
»أحتاج إليك الى جانبي الآن، فالزلزال يجتاحني ويجرح روحي. في زمن الصعوبة يتعاظم شوقي الى الحياة. أريد أن أخرج إليها فأعب منها عباً، ولست أعرف طريقي إليها وأنت بعيد. تعال أيها المضيِّع عمره في الصبر. الغد بعيد، تعال الآن…«.
لفنا صمت التهيّب، ثم جاءني صوته من البعيد يقول:
الغد بعيد؟! ولكنها الغد، وهي أقرب إليَّ من روحي.. بل هي روحي. قلت لها مرة وهي تزيل عن صدري شعرة منها علقت به: لو أستطيع لعوّضت كل شعرة تسقط من رأسك بشرايين يدي. ولقد حدجتني يومها بنظرة قاسية وهي تقول: أنت إذاً لا تستطيع… فلماذا هذا التباهي الممجوج؟! وندمت، ولكنني والله كنت أقصد ما أقول.
لم أجد ما أعلّق به، فعاد يقول:
هي الغد، فكيف أبقيه بعيدا. أنا ذاهب إليها الآن، وسأبقى معها حتى نكون الغد…

 

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ليس للحب زمان. الحب يصنع الزمان. قد يكمن الحب طويلاً في انتظار قطرة ماء، كمثل حبة قمح بذرها الفلاح في الخريف ثم تأخر عليها المطر… فإذا جادها الغيث بزغت كزغرودة، وتسامقت بفرحة فجر جديد.
اخذتني افكاري بعيدا، ثم اعادني الصوت إلى »نسمة« وكان يقول:
لا يميت الموت إلا الحب. لا يحيي الحياة الا الحب. قبله لا نكون، ومن دونه لا نكون. هو يحيينا، وهو يبعثنا مرة اخرى.
ليس للحب عمر. الحب هو العمر. فاحفظ عمرك. اروِ أرضك، أنزل مطرك ولا تترك أرضك عطشى يتناهبها الشوك والعقم وافتقاد المعنى.

Exit mobile version