طلال سلمان

خدمة على الواقف

كنا بين أوائل السكان الذين وفدوا على حي المهندسين. أغلب الوافدين كانوا حديثي العهد بالزواج أما نحن فكنا من الأقلية، أي من عائلات اكتمل تكوينها أو كاد. أحاطت بنا الخضرة من كل مكان، ومن حسن حظنا أن بيتنا كان يطل على شارع هو الأوسع في الحي.  كثيرا ما قضينا العصريات مجتمعين كعائلة صغيرة في شرفة تطل على هذا الشارع نلعب ألعابا صغيرة مثل المراهنة على عدد السيارات التي تمر قادمة من جهة الشرق وفي اتجاه حي بولاق الدكرور خلال دقيقتين مثلا. كانت الصغيرة تكسب لأنها تراهن على أصغر عدد، أي على ما لا يزيد عن سيارة أو سيارتين خلال الدقيقتين.  أما أجمل اللحظات وأكثرها رومانسية فكانت عند صباح الإجازات المدرسية وكان رهاننا ينصب على تخمين أقرب عدد ممكن للماعز في القطيع الذي تقوده كل صباح بدوية تجلس فوق حمار مدلية على جانب منه ساقيها وفي يدها وعاء تجمع فيه حليبا حصلت عليه من إناث القطيع كلما توقفت المسيرة. كانت شرفتنا تطل على مساحة خضراء واسعة تحلو في أعين القطيع أو لغاية عند الفتاة التي تقوده فيقضون جميعا وقتا أطول.

***

بعد مضي شهور على انتقالنا للسكن في هذا الحي وتحديدا في هذا المكان الممتع ظهر رجل بسيط المظهر يجر عربة تحمل قدرا للفول المدمس وفي نيته الصعود بها إلى الحديقة، تصورنا وقتها أنه يضيف رومانسية إلى اللوحة التي اجتمعنا على رسمها في خيالنا للمكان. لم نعرف وقتها أو نقدر أن هذه العربة وهؤلاء المستهلكين المتجمعين من أجل تناول حفنة من الفول المبلل بقطرة زيت والمزود بقطرة أخرى من عصير الليمون ورغيفين وفوقهما جذع بصلة خضراء، لم نعرف ولم نقدر أن العربة والملتفين حولها يمكن أن يكونوا طلائع غزوة تقضي بعلم الجميع على كل أخضر ويابس في المكان.

***

العربة البسيطة وقدرة الفول تحولتا بقدرة قادر إلى مطعم صغير محمول على عربة ملونة بألوان زاعقة. لعلها المرة الأولى التي شعرت فيها بأن اللون يمكن أن يكون مقززا إذا جاور لونا آخر بعينه. ولعلها كانت أيضا اللحظة التي أشعر فيها بأننا خذلنا البدوية وقطيع الماعز. خذلناهم عندما سمحنا لرجل الفول أن يتوسع فوق أرض خضراء وخذلناهم عندما سكتنا عن شرطي يتناول إفطارا يوميا مقابل تجاهل ما آل إليه المكان من قذارة وبخاصة بعد أن احتل مقهى متجول مساحة أخري قريبة من مساحة رجل الفول وفرش مقاعد سهلة التركيب والخلع تخدم زبائن الفول والشاي معا.

***

أول الأمر اعتبرنا رجل الفول وقدرته إضافة إلى لوحة جميلة لضاحية هادئة في مدينة هي بين الأكبر في العالم. لم تكن فريدة ولا جديدة من نوعها فقد عشنا في مدن لم تخل أحياؤها وضواحيها من نساء ورجال يبيعون أنواعا شتي من المأكولات والمشروبات وقوفا على رصيف شارع أو وسط أسواق. عشت قريبا من دلهي الشقيقة الأقدم للعاصمة نيودلهي. كثيرا ما وقفنا قرب الظهيرة في سوق المدينة القديمة أمام رجل يقلي السامبوسك المحشوة بالخضرة في زيت يغلي منذ الصباح الباكر. لا هيئة الرجل كانت تشجع على تناول ما أنتجته يداه ولا الزيت المغلي ولا رائحة السوق الناتجة عن اختلاط شتى الروائح الممكنة وغير الممكنة ولا منظر عيادة الخبير في علاج الأسنان الراقد على الرصيف يعالج أو لعله يستعد لخلع ضرس مريض يصرخ من الألم، لا واحدة منها ولا جميعها معا كانت تمنعنا من شراء المقليات والتهام الواحدة بعد الأخرى.

***

أذكر أنني وقفت مرات أمام عربة أنيقة تحتوى على ثلاجة وفرن كهربائي وعدد لا بأس به من أوعية الطعام والمخللات وبداخلها رجل نظيف الملبس  حليق الذقن مصفوف الشعر يتولى مهمة غير شاقة بالضرورة. قام بناء على ما طلبنا بإخراج أحد منتجات اللحوم المحفوظة الساخنة من داخل الفرن الكهربائي وحشوها داخل الرغيف. مددت يدي لأخذ الساندويتش وفيها الثمن المقرر سلفا، وضع الشاب الأنيق ما حملت يده في يدي ورفض ما حملت يدي قائلا باللهجة المصرية، بالهنا والشفا يا ابن بلدي. حدث هذا في شارع بالعاصمة الأمريكية ليس ببعيد عن طريق بنسلفانيا حيث يوجد البيت الأبيض.

***

كان اليوم باردا. خرجت هاربا من الدفء المبالغ في سخونته داخل غرف المكاتب وراغبا في تحريك عضلات كادت تتصلب من طول ساعات الجلوس. أخذت معي مشروبي الساخن المعتاد، أقصد الشاي الصيني، ومشيت إلى خارج المبني قاصدا غير جهة محددة. مررت بمبني جاري العمل في تشطيبه وبدا لي أنني وصلت في موعد غير مناسب إذ وجدت نفسي أمام، أو وسط، جماعة عمال نساء ورجال كل منهم يحمل في يده وعاءه والدخان يتصاعد من داخله. اقتربت من أحدهم وبالفعل رأيت ما في داخل صحنه الفخاري، رأيت أرزا أبيض مسلوقا مختلطا بأوراق كرنب أيضا مسلوقة، وعلى مقربة منه كوب الشاي فارغا في انتظار زميل له يمر عليه وعلى بقية العمال بالماء المغلي. أكثرية العمال وفي انتظار الماء المغلي يتناولون غذاءهم واقفين أو متحركين خشية تجمد أطرافهم. تمشي بينهم لا يكلفون النفس عناء الاستدارة فضولا أو للتحية. كلهم رجالا ونساء في زي موحد، زي ماو تسي تونج. استدرت ومشيت متعثرا في الجليد متوجها إلى  مكتبي الخانق حرارة ومللا وامتلاء.

***

أذكر موقفا مماثلا. كنت في بيونس آيرس أسلك في مشواري اليومي من الفندق إلى مقر عملي طرقا مختلفة رغبة في التعرف على مدينة افترشت لنفسها مساحة هائلة من الأراضي. ذات يوم وجدت نفسي أمشي وسط عمال بناء يستعدون لتناول إفطار متأخر أو لعله كان غذاء مبكرا. تذكرت آسفا تجربتي في بكين. هناك كانوا يأكلون الأرز المسلوق مع وريقات كرنب، هنا في بيونس آيرس يأكلون اللحم  في الشارع وعلى الأرصفة مقددا ومشتقاته مشوية خلال فترة الراحة. عدت بعد سنوات وسألت لأعرف أن هذه العادة اختفت فاللحم صار سلعة لا يقوى على دفع ثمنها إلا الأغنياء.

***

زارني في روما أصدقاء وفدوا من القاهرة ضمن وفد رسمي لمؤتمر تنظمه منظمة الأغذية والزراعة. طلبوا اصطحابهم مع بقية أعضاء الوفد لمشاهدة نافورة تريفي الشهيرة حيث يرمي السياح في حوضها عملات معدنية تحمل أسماء جنسياتهم أملا في العودة لزيارة روما كما تقضي الأسطورة. رمي بعض الأعضاء بقروش بسيطة متعللين بأن إجراءات التقشف في بلادنا أقوى من أسطورة تريفي ففي كل الأحوال لن نعود. بمناسبة هذا الإحباط طلب أحد أعضاء الرحلة أن تقتصر دعوتي لهم للغذاء على تناول بيتزا (البيتسا) على الواقف خارجة لتوها من فرن في مخبز تصادف وقوفنا أمامه. أذكر جيدا منظرنا كوفد رسمي يرأسه وزير وبعض أعضائه من كبار البرلمانيين وقد وقفوا جميعا وفي أيديهم قطع البيتزا الملتهبة تبلل أصابعهم بالجبنة المتساقطة والمختلطة بالصلصة الحمراء، وما إن اقترب كل منهم من التهام آخر قضمة إلا وكان يستأذن في طلب قطعة أخرى. انتبه صاحب الفرن فأوعز إلى مساعدة له بإخراج صينية أخرى على الفور ثم ثالثة جرى التهامهما وقوفا في دقائق.

***

إن تغافلت أو نسيت فلن أنسى وقفتنا الصباحية مع صحن البليلة أو الحمص الساخن في شارع مجلس النواب في طريقنا إلى المدرسة.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version