تابَعَ اللبنانيون، أمس، بكثير من الألم والحزن (على الذات) وقائع انتقال السلطة في فرنسا من رئيس اشتراكي (ميتران) إلى رئيس يميني (شيراك) يصل إلى الحكم تحت صورة الجنرال ديغول وصليبه المزدوج.
كانت المقارنة مع ما يجري في بيروت جارحة، بل ومهينة: لعلنا الآن دون ما كنا عليه، سياسيù، في زمن الانتداب الفرنسي.
لا مؤسسات، لا تقاليد، لا ثوابت حتى الدستور: الشخص هو البداية والنهاية، ومن أجله أو »بفضله« يتم تطويع التشريع والقانون والنظام وهيكلية الدولة عمومù.
انتهى »الملك الشمس« في فرنسا، لم يتبقّ منه غير قصره المتحف، في حين يتزاحم رموز المؤسسات »الديموقراطية« في لبنان على لقب »الملك الشمس« وصلاحياته، وعلى شعار »أنا ومن بعدي الطوفان«.
حتى »انتقال« السلطة من الياس الهراوي إلى الياس الهراوي يتطلّب حروبù تذهب ضحيتها »المؤسسات«، ويُسفح دم الدستور عبر النقاش المتهافت في المفاضلة بين التعديل المنفرد أو التعديل المزدوج، وإلا »فالتهديد« بعدم التعديل!
أما انتخاب رئيس جديد للجمهورية، حسب الأصول، فيصوّر وكأنه »بدعة«، أو إعلان حرب على »الاستقرار«، وتهديد للمصلحة القومية العليا، وتآمر على الموقف السوري الصامد في وجه الاحتلال الإسرائيلي والمناضل من أجل تسوية سلمية مقبولة.
من اليسار إلى اليمين: انتقال مهيب لرئاسة الجمهورية وسط جلال التقاليد الأمبراطورية، وعراقة القيم الديموقراطية… فليس الخارج »خائنù« تطارده اللعنة، ولا الداخل متآمرا في الظلام، بل هي »الصندوقة السحرية« بالوريقات الصغيرة فيها والتي عبَّر فيها الفرنسيون عن إرادتهم التي قرّرت مَن يخرج ومَن يدخل وبأية شروط ووفق أي برنامج، ودائمù من أجل فرنسا أكثر وحدة وأعظم قوة وأقدر على التقدم.
وليس في لبنان السياسي يسار ولا يمين، بل خط متعرّج ومتلوّن وقابل لأن يُرى يمينù أو يسارù أو بين بين، حسب مقتضيات الحال،
وليس في لبنان »صندوقة سحرية«، وهنا الطامة الكبرى..
فالمعايير استنسابية ومزاجية ومصلحية، إطارها على الدوام نادي الأقوياء في الخارج ومَن اتصل بهم من »جماعاتهم« في الداخل.
لهذا يستطيع فرنسوا ميتران، وقد بات الآن مواطنù عاديù يحمل لقب رئيس سابق، أن يمتطي سيارته الصغيرة، وأن ينطلق بغير مواكبة وزمارات صاعقة وحرس مموّه بالنظارات السوداء والسماعات الألكترونية، قاصدù »بيته العتيق«، قيادة الحزب الاشتراكي.
خروج »الرئيس السابق« أهم بكثير من دخول »الرئيس الجديد«: أن يستقبله »الشارع« ويقبله، يحييه ويصفق له أو ينحني لموكبه أو يرشقه بوردة حمراء، تقديرù واحترامù لهذا الذي صمد أربعة عشر عامù في الحكم ولم يفسد ولا انقطعت علاقته بالناس، فظل قريبù منهم، يسمعهم ويسمعونه، ويتحدث بلغة قريبة من لغتهم وإن كانت أرفع ثقافة وأوسع أفقù وأعظم إيمانù بالحرية.
»الخروج« هو المسألة، وليس الدخول.
الدخول قد يتم نتيجة حادث، وبشكل عجائبي، كضربة قدرية… ولقد تكرّر مثل هذا الدخول مع بضعة رؤساء في لبنان (فؤاد شهاب، شارل حلو، سليمان فرنجية، بشير الجميل وأمين الجميل ثم الياس الهراوي)…
أما »الخروج«، فهو الامتحان الحقيقي وهو المعيار الفعلي لنجاح »الرئيس« وفشله، وجدارته بأن يبقى في ضمائر الناس، أو سقوطه منها حتى وهو على قمة السلطة.
لقد خرج ميتران كبيرù، أكبر من شيراك الداخل من موقع »الخصم«، وسيكون على هذا الديغولي المثابر أن يعمل بلا كلل، وأن يحقق إنجازات خارقة لكي يصل إلى مستوى سلفه الذي جاء من اليسار وساح في كل اتجاه، حتى بلبل أصدقاءه قبل خصومه، ثم انتهى من حيث بدأ ليباشر معركة إعداد الخلف اليساري (الجديد) لليميني العتيق الذي دخل »الإليزيه« منهكù ومستوحدù.
وما يعنينا أن يأخذ أصدقاء فرنسا من اللبنانيين، ولا سيما مَن هو في موقع المسؤولية منهم، عن »الأم الحنون« ما ينفعنا في يومنا وفي غدنا،
ذلك أن اللبنانيين لم يأخذوا عن الدولة المنتدبة إلا مساوئ نظامها الاإاري وفساد ذمة الموظفين (والمرشحين) بدءù بالمفوض السامي وانتهاءً بآخر مستشار سمسار!
لم يأخذوا عنها، مثلاً، الفصل الصارم للدين عن الدولة، بل قبلوا منها أن تنصِّب لهم المرجعيات الروحية قيادات سياسية، ربما بهدف مواجهة الدعوة الاستقلالية ودمغها بطابع طائفي يعطل تحقيقها… ودائمù تحت ذريعة »الحرص على الوحدة الوطنية«..
ولم يأخذوا عنها التقاليد الديموقراطية التي تجيز الاختلاف في الرأي، وتحرض عليه وتعتبره شرطù إنسانيù بديهيù من دونه تُمتهن كرامة الإنسان قبل حقوقه.
ولم يأخذوا عنها مبدأ »تداول السلطة«، فمن يتسلمها لا يتركها إلا وقد هشّمها وهشمته تهشيمù.
17 أيار الفرنسي: درس لبناني كبير، لمن يعرف القراءة.