طلال سلمان

خاتمي:ثورة إسلامية داخل العصر

للمرة الثانية خلال أقل من عقدين تفاجئ إيران العالم باستثنائيتها وفرادتها:
في أوائل العام 1979 فاجأته بإنجاز آخر ثورة شعبية منتصرة في هذا القرن، والتي جاءت من خارج السياق »التقليدي«، بقيادتها الفذة ممثلة بعجوزها المقدس الإمام الخميني، وكذلك بشعارها الجذري الى حد الاستفزاز وصدم الآخرين، وبروحها المقاتلة إلى حد الاستشهاد،
وها هي الآن تضيف إلى إنجازها الخارق الأول، بإسقاط واحد من أعتى الأنظمة الدكتاتورية في العالم، قدرة ثورتها الإسلامية على تجديد ذاتها وإثبات أهليتها في أن تقدم »النقيض الإنساني« للنظام العالمي الواحد السائد أو المفروض أو المهيمن على معظم شعوب الأرض بالقهر، السياسي والاقتصادي والعسكري، ودائما تحت لافتة الديموقراطية والتعددية وحقوق الإنسان.
»إنها الثورة الإسلامية الثانية، أو هي الثورة داخل الثورة، أو أنها العودة إلى الينابيع«،
هكذا قرأ العالم نتائج الانتخابات الرئاسية في إيران والتي أعطى فيها أكثر من عشرين مليون إيراني، غالبيتهم من الشباب والنساء أصواتهم لذلك الرجل البسيط الذي يجتمع في شخصه تواضع العلماء وإيمان الصديقين واستنارة المثقفين المسكونين بهموم مجتمعاتهم وطموحها إلى تحقيق غدها الأفضل: الدكتور السيد محمد خاتمي.
كانت الثورة مهددة بالجمود والتحجر والابتعاد عن الجمهور الذي اصطنعها بإسلامه معززاً بدمه.
وكانت تبدو مثقلة بصراعات »أهلها«، وبالذات قياداتها وقد أتعبت المواجهة المفتوحة مع »الشيطان الأكبر« العديد ممن يتصدّرون صفها الأول،
وفي بعض الحالات كانت تبدو وكأنها قصّرت عن تحقيق ما وعدت به ملايين الفقراء الإيرانيين الذين رأوا فيها طريقهم الوحيد إلى الخبز مع الكرامة، إما لأن تخطيطها قد خاب، أو لأن إمكاناتها لم توفّر لها الفائض المطلوب لاعادة البناء أو لانجاز خططها الخمسية في مواعيدها وبالكلفة المقدرة لها، أو لأن الحصار قد تجاوز بآثاره الخانقة ما كانت تأمل بتحقيقه، في الزمن وفي التكاليف.
على أن الأخطر هو ما كان قد بدأ يشوب حركة الثورة من ترهل، بحيث صار يبدو وكأن »النظام« أعظم حضوراً من »الثورة«، بكل ما يعنيه ذلك من تراجع وانتكاس وصولاً الى بروز منطق يرى أن بقاء النظام هو الهدف ولو كان الثمن التضحية بالثورة، أو ببعضها، فلا أحد يعيش في الثورة ولها الى الأبد!
ثم أخذ يبرز الافتراق بين إسلام الثورة وإسلام المؤسسة الدينية، وهو افتراق كان كامناً باستمرار في رحم النظام الذي قادته نخبة مجاهدة تحدرت من تلك المؤسسة، ولكنها ذهبت إلى الثورة من خارجها ثم حاولت أن تأخذ المؤسسة إليها، وعانت في ذلك كثيراً.
وكانت الانتخابات الرئاسية لحظة الحسم في الخيار بين الثورة وبين نظامها الذي كان يبدو وكأنه محكوم بأن يبتعد عن »ينابيعها« يوما بعد يوم، لأسباب عديدة يتداخل فيها الفكري بالمصلحي بالشخصي، ويصطرع التقليدي بالتجديدي، والايماني المستنير بالغيبي المصفح بقداسة مدعاة.
وكان النظام، برموزه ذات التاريخ والموقع الممتاز والقدرات المفتوحة، يبدو وكأنه حسم الصراع لمصلحته، وان الانتخابات ليست الا موعد اعلان النتائج باستسلام الخصم او انسحابه.
بل لقد بدا وكأن مرشح النظام بلا منافس، وجرى التعامل مع المرشحين الآخرين بمن فيهم السيد خاتمي وكأنهم من ضرورات المشهد الديموقراطي اكثر مما هم ممثلون لقوى ولتيارات ولأفكار يزخر بها مجتمع الثورة الاسلامية في ايران.
لكل هذا اعتبر فوز خاتمي، وبهذه الاكثرية الساحقة التي نادرا ما حصل عليها اي مرشح للرئاسة في انتخابات مفتوحة، تجديدا للثورة الاسلامية على المستوى الفكري، أساسا، ثم على مستوى قدرتها على الاستجابة لمطالب الاجيال الجديدة ومطامحها المشروعة بالحوار وقبول الجميع وإسقاط الحرم والقمع وجعل الدين في خدمة الحياة وليس العكس.
* * *
لعل من الأفضل تقديم دلالات المرحلة الجديدة من خلال كتابات السيد خاتمي نفسه، وقد صدر بعضها بالعربية مؤخرا في بيروت، في كتاب يحمل عنوان »بيم موج المشهد الثقافي في ايران: مخاوف وآمال«.
يقول خاتمي في مقال له نشرته »السفير« قبل سنتين:
»يمتاز مجتمعنا بهويته الدينية، وقد كان لعلماء الدين العاملين والمقارعين الظلم، خاصة الشيعة، دور بارز في حفظ هذه الهوية، وان القادة الدينيين هم اكثر وجوه تاريخ الاسلام شعبية وإدراكا للمعاناة والآلام…
»… وهذا يعني ان هذه الجهة من العالم كانت تزخر بمواجهات تاريخية يخوضها الدين ضد ظلم الطغاة والدين المحرف الذي كان أداة لتأمين دنيا الناهبين..
»ألم يخض الدين، طوال تاريخ الاسلام، الصراع ضد الاستبداد، بما فيه الديني وغير الديني؟!«
ومن التوصيف ينتقل خاتمي الى اقتراح الحلول، يقول:
»ان اهم مشكلة تواجهها ثورتنا وتستحق منا الاهتمام هي تضادها الجوهري مع ما يدور في العالم. أي ان الاصول الفكرية لثورتنا وأهدافها تتعارض بل تختلف في الكثير من الجوانب مع الاصول والمباني الفكرية والقيم التي هي محل قبول من عالم اليوم. وهو امر طبيعي لأن كل ثورة تتعارض والوضع القائم. الثورة تنطلق اساساً لتغيير الواقع القائم الذي تعتبره غير مقبول وغير سليم.
ثم يصل خاتمي الى التصادم المطلق مع النظام، وأمن النظام، وهي المقولة السائدة عادة للتضحية بالثورة من اجل الحكم، فيقول:
»لم يرض الاسلام على مدى تاريخه الباهر باستراتيجة المنع في الميدان الثقافي والفكري«.
»لقد كان الاسلام يستقبل الافكار المخالفة والمعارضة بصدر رحب . كان المفكرون العظام وأبناء المجتمع يواجهون افكار الاخرين برحابة صدر وثقة عالية بالنفس، ويستفيدون من محاسنها ويدعون مساوئها تنسحق وتتلاشى في حركة النظام الفكري والقيمي الاسلامي، وبذلك استطاعوا ان يزيدوا من استحكام البنية الفكرية للمجتمع الاسلامي.
»وبغض النظر عن النظرة الاسلامية الاصيلة فانا اعتقد ان »المنع« غير ممكن لا سيما في الظروف العالمية الراهنة«.
* * *
ليست مبالغة ان يعتبر الفوز للسيد محمد خاتمي بمثابة اعادة اعتبار للاسلام كمنطلق للتغيير وكأساس صالح لبناء مجتمع اكثر عدلاً واكثر تحقيقاً لكرامة الانسان.
انها المرة الثانية التي تقدم فيها ايران نموذجاً ناجحاً لإسلام اكثر صلة بالانسان، قيمه ومطالبه الحياتية المشروعة ونزوعه الى التقدم.
انه اسلام من اجل الحياة، بينما ترتفع باسم اسلام ما اصوات من خارج التاريخ، في بعض المجتمعات الاسلامية عموماً والعربية خصوصاً فتكاد تدمر الانسان في حاضره ومستقبله.
ثمة »اسلام« يحاصر الانسان في الماضي ويحجر عليه، ويعامله كقاصر، ويخيره بين ان يسقط ايمانه فيكفر او يلغي عقله فيعفى عنه بعد ان تعطل انسانيته.
فبين افغانستان حيث يغتال المستقبل، بسيف الانغلاق الديني، وبين الجزائر حيث تدمر البلاد وأهلها بين ادعاءين اسلاميين متخلفين ومغلقين، وفي ظل حركات جاهلية تكفر باسم اسلام مزعوم المفكرين والكتاب المستنيرين وتحكم عليهم بالردة او تغتالهم بالرصاص، وبين هذا الاسلام المنفتح على العصر باسم الثورة وباسم اسم الانسان كالنموذج الذي تقدمه ايران بهذا القدر او ذاك من النجاح، لن يتأخر أي انسان في اكتشاف أي اسلام يصلح للانسان او يصلح به الانسان، واي اسلام مدعى او مزعوم لا يخدم الا اعداء الانسان في الداخل او في الخارج.
ان محمد خاتمي يقدم، باسم الاسلام الثورة، ملامح نظام عصري يطور نفسه بالحوار والاعتراف بالجميع والتجربة المحكومة بهدف محدد: ان تصطنع للانسان غداً أفضل،
ولقد رد له الايرانيون التحية بأجمل منها فقالوا بملايينهم انهم مع مثل هذا الاسلام المنفتح على التقدم والعصر، المحقق للانسان كرامته باحترام ارادته وحقه في ان يعرف وفي ان يقول وفي ان يختلف مع حاكمه.
ان تجربة ديموقراطية جديدة وفريدة تولد تحت ظل الاسلام في هذا الشرق،
انها تجربة متميزة تنطلق من الانسان وتعود اليه، لا تبيعه اوهاماً بعد الحياة، ولا تدمر السماء بحجة الحرص على حياته فوق الارض،
وهي تجربة تكتسب ابعاداً استثنائية بالمقارنة، مثلا، مع تجربة مواجهة الدين بمدافع العسكر تحت لافتة العلمانية، كما في تركيا، فينتهي الامر بالمجتمع الى الهجانة المطلقة فيفقد دينه من دون ان يربح دنياه، ويخسر هويته »الشرقية« من دون ان يربح شرف الانتساب الى الغرب!
ان ما جرى في طهران يوم الجمعة الماضي يتعدى فوز مرشح على مرشح او شيخ على شيخ، او نهج على نهج مماثل او رؤية دينية على رؤية اخرى دينية ايضاً.
انها ثورة في قلب الثورة الاسلامية في ايران، تجددها وتقدمها قدوة تحتذى،
لقد هدمت الأسوار من حول الدين ليعود كما كان في الاصل في خدمة الانسان، تقدمه وتحقيقه لذاته فوق الارض، وبالارض، وليس على حسابها.
انه حدث سكيون له ما بعده، في كل العالم الإسلامي،
وايران مرة اخرى تكتب صفحة جديدة في تاريخ انسان نهايات القرن العشرين.. بل لعلها تكتب بعض الصفحات الاولى في تاريخ الانسان في القرن المقبل

Exit mobile version