طلال سلمان

حوار واسطة حول سلطة غد

لم يكن عزمي بشارة، بعد خمسة أيام طويلة من المناقشات الجدية حول »المسألة اللبنانية«، بحاجة لأن يطرح سؤالاً من نوع: لماذا لم يذهب رئيس الجمهورية للمشاركة في القمة العربية في الجزائر؟!
كان الجواب معلناً وبأعلى الصوت في »الشارع« الذي يموج بتظاهرات الغضب والاتهام المباشر للسلطة برأسها وأركانها جميعاً.
ولقد سمعه عزمي بشارة، الذي جاء إلى لبنان، للمرة الأولى في حياته، الاثنين الماضي، في مناسبة محزنة: لكي يقدم التعزية لأسرة الرئيس رفيق الحريري في استشهاده »وهو فقيد العرب الكبير، وفلسطين منهم وبينهم«.. بل لقد سمع أسئلة ترددت في معظم اللقاءات متخذة صيغة مباشرة بينها: إلى متى يستطيع العماد إميل لحود الصمود في قصر بعبدا؟! أتراه لم يستوعب بعد حجم الغضب الشعبي الذي يداني حدود »الثورة«؟! أتراه لم يدرك بعد أن اللبنانيين يرونه حتى من قبل التمديد، فكيف بعده بين أسباب المشكلة المعقدة التي يعيشونها والتي تتهددهم في حاضرهم وفي مستقبلهم، وتتهدد معهم وعلى وجه الخصوص سوريا واستقرارها لا علاقاتها مع لبنان فحسب؟! ألم يدرك بعد حجم التدخل الدولي الذي انفتحت له الأبواب على مصاريعها بعد جريمة اغتيال الرئيس الشهيد؟! ألا يقرأ التصريحات الرئاسية الأميركية وبيانات القمم الأوروبية، و»إيماءات« القيادات العربية التي كانت تبدي حرصها دائماً على استقرار لبنان وسلامته؟! ألم يدرك بعد أن المسائل المطروحة تتجاوز حكاية تشكيل الحكومة، وكم ستنال من أصوات »الأكثرية« التي احترفت قول »نعم« بغض النظر عن المعروض أمامها، وعن رأي »الشارع« فيه وفيها؟
كان وجود هذا المناضل العريق في مقاومة »العدو« مواجهة ومباشرة، وبقوانينه، فرصة ممتازة لإثارة نقاش جدي، وبأسئلة عميقة الدلالة، مع مجموعات من القياديين والسياسيين والمثقفين وأصحاب الرأي الذين التقاهم في مناسبات غلب عليها الطابع الاجتماعي.. ولم تكن الأجوبة جاهزة، تماماً، حول »ماذا بعد؟«.
بعد إظهار الإعجاب بحيوية الشعب اللبناني وبنزعته العارمة إلى الديموقراطية، كان لا بد من التساؤل حول ما بعد الحاضر المضطرب، بكل التفجرات العاطفية، وإعادة تشكيل التوجهات ومن ثم التحالفات تحت شعار »لبنان الجديد لبنان الحرية والسيادة والاستقلال«، والمطالبة بكشف الحقيقة، كل الحقيقة، حول من حرّض ومن خطّط ومن دبّر ومن نفذ جريمة اغتيال الرئيس الشهيد…
كان لا بد من التساؤل: أين نقاط التقاطع بين المتلاقين حالياً في أفياء المعارضة، وبين »المتهمين« بأنهم »جماعة الموالاة«! وهل هذا التصنيف واقعي فعلاً؟! وهل انعدمت نقاط التلاقي فانشطرت البلاد إلى اتجاهين متقابلين لا يجمعهما همّ الغد الواحد؟! وهل على الجميع الانضباط في انتظار ما تقرره واشنطن (وباريس) وما قد يجيء به ديفيد ساترفيلد في مهمته الاستثنائية المثيرة للريب؟! ومن هو المؤهل فعلاً لإدارة الحوار بين هؤلاء الأفرقاء المعنيين جميعاً بمستقبلهم في بلادهم، طالما أن دعوة السلطة مرفوضة، والمعارضة لا تعترف بقوى الموالاة، إلا بعضها، ووفق تصنيف فيه شبهة الاستقواء بالشارع، كما باحتساب أخطاء السلطة على هذه الموالاة بقضّها وقضيضها؟!
على أن السؤال الأهم والأخطر كان على الدوام: أين موقع »حزب الله« بكل تاريخه المقاوم، في خريطة الصراع السياسي الدائر حالياً، والذي يتهدده بالخطر، وهو مصدر الاعتزاز العربي بلبنان واللبنانيين، فضلاً عن كونه »أقوى قوة سياسية منفردة« في لبنان، كما صنّفه أحد »حكماء« المحاورين؟! وكيف نمنع عنه أذى الاختلاف على سلطة لا هو فيها ولا هو منها، ولكنها وفرت للمقاومة غطاء الشرعية وساهمت في صد الحملات الشرسة التي شنتها الإدارة الأميركية والتي استدرجت إليها أيضاً بعض القوى الغربية بضغط مباشر منها ومن إسرائيل؟ وهل يمكن تجاوز هذه المسألة الأساسية عند البحث في مستقبل السلطة في لبنان؟! وهل التفكير الانقلابي الذي يسود في بعض دوائر المعارضة يضمن السلامة الوطنية، بمعزل عن مصير السلطة؟! وماذا إذا قاد هذا التفكير الانقلابي إلى انشقاق وطني خطير، يسعى إليه ويعززه التدخل الأجنبي (ومن ضمنه الإسرائيلي) لأهداف تتجاوز هؤلاء الانقلابيين وإن استخدمت حماستهم أو تهوّرهم لخدمة أغراضها، ولو كلفت اللبنانيين سلامة حاضرهم وأمان مستقبلهم؟!
لم تكن التظاهرات والتظاهرات المقابلة مرجعاً صالحاً لتوفير الأجوبة المطلوبة، خصوصاً لمن يريد أن يقرأ »المشترك« فيها جميعاً، وهو »كاف لكي نؤسس عليه«، كما قال بعض أصحاب القراءة الدقيقة في »تجربة الحرب الأهلية الرهيبة التي عشنا في أتونها طويلاً«… وهكذا فقد خلص إلى ضرورة »تحديد المشترك« والبناء عليه، بحيث لا يبدو التغيير وكأنه انتصار لطرف وهزيمة لطرف آخر، مما يجعله مستحيلاً، لا سيما أن هذا »المشترك« يوفر أرضاً واسعة للتلاقي.
وإذا كان معظم من شارك في لقاءات التفكير بصوت عال قد اتفقوا على اعتبار خطاب السيدة بهية الحريري، يوم الاثنين الماضي، أساساً صالحاً للانطلاق في صياغة »برنامج الإنقاذ«، فإن بعض »القوى الانقلابية« ترى في اللحظة الراهنة مدخلاً إلى تغيير شامل ينقل لبنان نهائياً من موقع إلى موقع مضاد، بالاتكاء على أخطاء الإدارة السورية وخطايا السلطة، وبالتالي فهي تريد »كل شيء« و»الانتهاء من الأمر بسرعة« وقبل أن يطرأ ما يعدل في موازين القوى..
ومع أن الجميع يتوقع أن يكون تقرير اللجنة الدولية لتقصي الحقائق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، »قنبلة« سياسية شديدة الخطورة في تأثيرها على سياق الأحداث (والعلاقات) فإن كثيرين يفضلون انتظار ما سيعلنه الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، حول مضمون هذا التقرير، ومن ثم تبعاته السياسية، قبل حسم موقفهم من مختلف المسائل المطروحة. على هذا فثمة من يرجئ البحث بتشكيل حكومة الانتخابات ومن ثم الموعد الأفضل لإسقاط رئيس الجمهورية وانتخاب بديله: هل عبر هذا المجلس النيابي القائم، بتركيبته المعروفة، أم عبر المجلس الذي ستأتي به الانتخابات والتي ستكون أكثريته للمعارضين، وللأكثر تطرفاً من بينهم، والذي قد يكون صوت »الانقلابيين« فيه مسموعاً، مما يؤمّن الفوز لرئيس منهم أو حليف لهم (ميشال عون، مثلاً)..
وإذا كان »وجود« عزمي بشارة قد أطلق نوعاً من الحوار بالواسطة فإن سياق التطورات المحتملة سيدفع بالعديد من القوى المؤثرة إلى التلاقي على منع الانجراف مع الخطأ أو مع التطرف إلى تصادم الإرادات.
إن الأسئلة عما بعد هي التي تشغل بال اللبنانيين وتقض مضاجعهم..
فالخلاف على شخص رئيس الجمهورية لا يعني الاتفاق بالضرورة على شخص البديل، هذا إذا ما قفزنا إلى ذروة المطالب المعارضة..
والحديث المتكرر عن اتفاق الطائف وضرورة تنفيذه بكل مندرجاته لا يعني أبداً أن لقوى المعارضة جميعاً مفهوماً واحداً لهذا الاتفاق والمندرجات، كما لا يعني التسليم الآلي بأن »الانقلابيين« من بين هذه القوى يريدون تطبيق هذا الاتفاق الذي أسمي بحق »وديعة رفيق الحريري« أو »الأمانة« التي استودعها صدور اللبنانيين وقلوبهم.
وإذا كان »الانقلابيون« يراهنون على »إدانة النظام السوري«، قبل السلطة في لبنان، في التقرير الدولي ليبنوا عليها موقفهم من »الشركاء في الوطن« مفترضين أن هؤلاء سيكونون في موقع أضعف، وبالتالي سيجدون أنفسهم مضطرين إلى تسليم »السلطة كل السلطة« لثوار الساحات، فإن هذا الرهان ليس مصدراً للأمل بغد الأمان والاستقرار الذي يطمح إليه اللبنانيون، ويريدون التغيير طريقاً للوصول إليه.
إن إدانة السلطة القائمة لا تكفي لتجريم الذين لا يقولون قول »الانقلابيين« سواء بين المصنفين معارضين أو بين المتهمين بالموالاة.
كذلك فإن إدانة هذه السلطة لا تكفي لرسم الغد الموعود ولا تحدد طبيعة القوى التي ستتولى المسؤولية عن بنائه.
… ولنتذكّر جميعاً أن الشهيد رفيق الحريري لم يكن انقلابياً، ولم يكن مع أي نهج انقلابي، وأنه كان أحد رموز الاعتدال، وأحد المتمسكين باتفاق الطائف نصاً وروحاً، وأنه كان واحداً من الحماة الأبرار للمقاومة وحزبها، كما أنه وبرغم كل ما كان من إشكالات بينه وبين النظام السوري ظل حريصاً على سوريا وأمنها واستقرارها حرصه على لبنان واللبنانيين جميعاً بمن في ذلك من اندفعوا الآن في اتجاه المغامرة الانقلابية… وهذا بعض ما أعادت تأكيده »أخت الشهيد«.

Exit mobile version