طلال سلمان

حوار من اجل دولة

تحية الصباح كما تحية المساء، في لبنان هذه الأيام، هي كلمة »الحوار«!
لا تخلو »جملة مفيدة« منها: يرددها المسؤول الرسمي والقطب السياسي والقائد الحزبي ورجل الدين، ويترنم بها كل سفير أو قائم بالأعمال أو قنصل أجنبي أو عربي معتمد في بيروت… فضلاً عن كونها باتت فاتحة أي حديث في الاجتماعات المنظمة أو في لقاءات المصادفة، أو المهرب المتاح من المكاشفة الجدية والدافئة بين خلان الصفا وأصدقاء العمر.
لا يحتاج »الحوار«، في أي بلد، إلى مبررات أو مسوغات. إنه مفتوح دائماً وعلى المسائل جميعاً، لا يتوقف أبداً حتى لو لم ترتفع به الأصوات، إلا إذا حدث خلل خطير في أداء السلطة مما يهدد سلامة المجتمع أو درجة الرفاه فيه.
أما في لبنان، وبعيداً عن الأغراض ـ الأمراض، فإن الحوار شرط وجود للدولة التي لا يتأكد حضورها الفاعل إلا بوحدة الشعب، فهي العمود الفقري لهذه الوحدة.
مصدر الاحتياج إلى الحوار، إذاً، هو أن اللبنانيين بحاجة إلى دولة..
والدولة مؤسسات دستورية وإدارة وقضاء وتشريعات وقوانين وتخطيط ومشاريع إنمائية تؤكد المساواة في الحقوق، كما في الواجبات، بين مواطنيها، فضلاً عن جيش يحمي سلامة الوطن وأجهزة أمنية تحمي المواطنين وتسهر على تنفيذ القانون إلخ..
ولأن لا دولة، فعلياً، في لبنان، فإن أي خلاف سياسي أو تضارب في المصالح بين القوى النافذة في »الإقليم« من حولنا، ينعكس اضطراباً عندنا..
ولأن الدولة تعاني من قصور عضوي يمنعها من أداء مهماتها الفعلية، لا سيما المتصلة بحماية وحدة الوطن وسلامة أهله، فقد وجدت المقاومة التبرير الكافي لقيامها، ثم لأن تتولى بعضاً من مهامها في تحرير الأرض. أي إن المقاومة لم تغتصب حقوق الدولة بل هي نابت عنها بالاضطرار، لأداء مهمة مقدسة.
ولأن الدولة عاجزة، وأجهزتها هرمة أو خربة، صار ممكناً أن يتحول أي شجار عائلي، أو أي خلاف بين عائلتين إلى مصدر للهلع من انفجار الفتنة، خصوصاً إذا كان المختلفون من طائفتين أو من مذهبين أو حتى من حيين متجاورين في مدينة واحدة!
[ [ [
المناصب كثيرة، والألقاب مفخمة، والإدارات كثيرة، والأجهزة عديدة، لكن: لا دولة فعلياً في لبنان، حتى إشعار آخر.
وبالتالي فإن المهمة الحقيقية لأي حوار وطني بين القيادات التي انتدبت نفسها ـ أو ساعدتها ظروف الانقسام على أن تكون »مرجعيات« ـ هي: أن نبني الدولة أولاً وأخيراً.
علينا أن نعترف بأن غياب الدولة، كما تكون الدول، هو العلة… بل إن شرط التحول من »كيان« إلى »وطن« هو الدولة.. وطالما استمر غياب الدولة فإن الكيان سيظل مهدداً بالتفسخ والتقاسم بين طوائفه وملله ونحله الكثيرة. سيصبح كيانات، لكل طائفة كيانها، ويستحيل توحيد الكيانات في وطن، ومن ثم ستظل الدولة حلماً أو أمنية أو وهماً.
[ [ [
كان يمكن، بل كان ينبغي أن يُستأنف الحوار الذي دعا إليه واستضافه رئيس المجلس النيابي، مباشرة بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006.
كانت البديهيات، التي لا تحتاج إلى إثبات، ناصعة كالدم المراق: العدو مكشوف لا يحتاج إلى تعريف لا بهويته الإسرائيلية ولا بتحالفه العضوي مع الإدارة الأميركية التي اتخذت لنفسها صفة »قائد الجبهة«، ولا بأغراضه المباشرة وباستهدافه الروح المعنوية بالتركيز على أنه إنما يحارب في لبنان »طرفاً« ولا يحارب اللبنانيين أو دولتهم… وصولاً إلى ما يقارب الادعاء بأن جيوشه ومعها دعم الحليف الاستراتيجي الأميركي و»الأصدقاء
العرب« إنما يحاربون »من أجل تحرير لبنان من هيمنة قوى الإرهاب والمخربين«! وكانت الجبهة الداخلية، ممثلة بالأهالي عموماً والجيش، متماسكة إلى حد كبير: كانت أكثرية الدول العربية لا تريد أن ترى، فإذا رأت بالاضطرار، فإنها لا تريد أن تعترف بأن العدو الإسرائيلي يقوم ـ جهاراً نهاراً ـ بتدمير بلد عربي… فإذا هي اعترفت ألقت باللوم على المقاومة التي تحرشت بالقوى العظمى، وبالتالي فهي تتحمل المسؤولية وحق عليها العقاب!
وهكذا فإن الحصار على المقاومة بدأ عربياً ـ دولياً ثم انتقل إلى الداخل، استجابة بالخوف أو خضوعاً لضغوط أميركية، معززة بجنوح النظام العربي إلى »المبادرة السلمية« حتى وإسرائيل تدك المدن والقرى والدساكر في مختلف أرجاء لبنان، وأن يظل تركيز النيران على الجنوب والضاحية الجنوبية وبعض البقاع وركائز العمران من جسور وطرق ووسائل اتصال.
[ [ [
في ظل هذا الحصار العربي ـ الدولي كان متعذراً أن يُستأنف الحوار الوطني، فكيف بأن يحقق النتائج المرجوة منه في توطيد السلم الأهلي بدولة قوية موحَّدة وموحِّدة؟
وكان منطقياً أن ينعكس الموقف العربي الرسمي، معززاً بالموقف الدولي ـ الأميركي خصوصاً ـ من الحرب، ومن المقاومة تحديداً، على الحوار الوطني من أجل إعادة بناء الدولة في لبنان، فيخرج منه أو عليه بعض الأطراف، وترتفع أصوات تطالب بتقديم موضوع »سلاح المقاومة« على كل ما عداه… بل إن ثمة من طالب »بمحاسبة المقاومة« على »تحرشها بالعدو الإسرائيلي«، برغم تراكم الوقائع الدالة على أن إسرائيل كانت بصدد الإعداد لشن الحرب على لبنان، وبقرار أميركي معلن، سواء وقعت حادثة أسر الجنديين أم لم تقع!
وكان الخلاف العربي ـ العربي عاملاً أساسياً في تعطيل الحوار في لبنان.
ولم تكن مصادفة أن يتم التركيز على ضرورة الخلاص من سلاح المقاومة حتى من قبل أن يتم تفجير الوضع بالقرارين الشهيرين اللذين تسببا في الرد بالعملية الوقائية في بيروت.. والتي فتحت الباب لمؤتمر الدوحة، وبالتالي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية ولقيام حكومة الوحدة الوطنية.
ولا كان مجرد توارد خواطر بين أقطاب الموالاة وبين بعض المسؤولين الأجانب والعرب أن ينطلقوا في معزوفة متصلة حول سلاح المقاومة واعتباره إلغاء للدولة، كأنما كان ثمة دولة قبله..
[ [ [
يريدون حصر الحوار ببند وحيد هو: السلاح في كنف الدولة؟
حسناً.. ولكن أين هي الدولة؟!
ومع التقدير لشاغلي المناصب الأولى في السلطة، فليس مبالغة القول إن المقاومة هي من استبقى هذا الهيكل الجامع للبنانيين، تحت مسمى »الدولة«، برغم أن الدولة ليست قائمة في لبنان، إلا رمزياً.
لذا فالموضوع الحقيقي والوحيد للحوار هو: هل نريد دولة؟
فليس في لبنان دولة.. وهي كانت دائماً »قيد التأسيس«، لكنها الآن »ضمير غائب«..
برغم أن الدولة شرط وجود للكيان السياسي.
… ومتى وقع الاتفاق على قيام الدولة بات سهلاً الحسم في موضوع السلاح.
لكن السؤال يبقى: وماذا عن مصير الدويلات القائمة بفضل غياب الدولة، وهل ثمة إرادة عند »قادتها« والزعماء أن يتنازلوا عن دولهم… خصوصاً أن الكل الآن من أصحاب السلاح، مع فارق واحد: أن سلاح المقاومة ما زال هدفه إسرائيل، أولاً وأخيراً، في حين أن سلاح الأطراف الأخرى جيء به من أجل الداخل، وليس إلا من أجل الداخل!
الحوار، نعم. ولكن مع تحديد قاطع لموضوعه والأوليات حتى لا يكون شكلياً ينتهي بتكريس الانقسام ـ على الأرض ـ بدل أن يكون المدخل إلى قيام »دولة لجميع مواطنيها«.

Exit mobile version