طلال سلمان

حوار مع محمد حسنين هيكل عمره 32 عاما مستقبل الناصرية والمعركة وحياد اميركا

الحوار الآتي أجراه طلال سلمان ونشر في مجلة »الصياد« اللبنانية في 10/6/1971، اي بعد اشهر قليلة من وفاة الرئيس جمال عبد الناصر واستلام انور السادات الرئاسة في مصر.
في الحوار الذي نعيد نشره بنصه، الكثير مما يمكن مناقشة الاستاذ هيكل فيه اليوم، وفتح اوسع الابواب أمام المراجعة سلباً وإيجاباً للواقع العربي الحالي والتراكمات التي اوصلت إليه منذ هزيمة حزيران 1967.
لكن فيه ايضا الكثير من التحديدات القاطعة لأحداث وأحوال وسياسات وأفكار روى فيها الرواة ما يخالف الحقيقة والواقع.
هنا نص الحوار… بعد 32 سنة من تاريخ نشره، وفيه في تقديرنا بعض ملامح »الاستاذ« التي لم تتغير.
رفض محمد حسنين هيكل ان نبدأ الحوار من نقاط الافتراق بين جيله وجيلي، وقال انه ضد تقسيم الناس والمواقف السياسية على اساس الاعمار…
ولكنه قبل مني قولي انه قد اثر سلباً وايجاباً على صياغة الوجدان القومي لجيلنا، من خلال موقعه الاعلامي الممتاز، وفي فترة هي الاخطر في التاريخ العربي المعاصر.
وكان معنى ان يمتد الحوار بيننا بعد ذلك لنحو من ثلاث ساعات، انني نسيت الصحافة فصرت سائلا ملحاحا يواجه مسؤولا متوقد الذكاء حتى لتحسب ان الاجوبة مطبوعة ومرتبة في ذهنه وجاهزة للانطلاق بمجرد ان تلامسها علامة استفهام!
الناصرية
لأني افترضت ان المدخل المنطقي لأي حوار مع هيكل هو الحديث عن جمال عبد الناصر، فقد بدأت بسؤال عن الناصرية: متى وكيف وممّ تكونت كمنهج في العمل السياسي، وكمحاولة لتغيير الواقع الاجتماعي الاقتصادي.
قال الرجل الذي ارتبط اسمه باسم عبد الناصر اكثر من اي انسان آخر:
{ لا يمكن فهم الناصرية الا من خلال فهم الظروف التي عاشها جمال عبد الناصر فشكلت له قناعاته الفكرية والسياسية. لقد تكون وجدان عبد الناصر في »مرحلة التمرد« من التاريخ المصري المعاصر، وهي المرحلة التي اعقبت معاهدة 1926 مع بريطانيا.
كان الاحساس جارفا بأن المعاهدة مذلة لمصر، ومسيئة الى نضالات حركتها الوطنية، ولا بد بالتالي من اسقاطها. وكان من تأثير هذا الاحساس ان اهتزت صورة الوفد، اكبر الاحزاب واعظمها دورا بعد ثورة 1919، في اذهان الجماهير… كما كان من تأثيره ان اضطرت الطبقة الحاكمة الى تخفيف المواصفات الاجتماعية المطلوب توافرها آنذاك فيمن يتقدمون الى الكلية الحربية، في محاولة لامتصاص نقمة الشباب الذين اتجهت كثرة منهم نحو القوات المسلحة بدافع من كرامتهم الوطنية الجريح، وهكذا صار جمال عبد الناصر ضابطا في الجيش، وكان طلبه الى كلية البوليس قد رفض قبل شهور قليلة لأن عبد السلام الشاذلي باشا اكتشف، في اللحظة الاخيرة، انه ابن موظف بسيط في البريد وليس ابن »عائلة محترمة« رصيدها من العقارات والاطيان كذا افدنة، ومن الاموال السائلة كذا ألف جنيه. ومرة اخرى، خلال عام واحد، تغير المسار. ترك طالب الحقوق كليته بعد ستة شهور فقط من الدراسة.
÷ ولما صار ضابطا اكتسبت معاناته ابعادا جديدة، وبالتحديد سياسية.
سحب هيكل نفسا عميقا من سيكاره قبل ان يقول:
{ هذا صحيح، ان بذور الناصرية موجودة بالتأكيد في »سنوات القلق« التي عاشتها مصر بين 42 و1952. هي في كل الوعود الضائعة التي كانت تطلقها الحكومات المتعاقبة ثم تنساها. وهي في محصلة الممارسات الارهابية لليمين ممثلا بالاخوان المسلمين، وهي في افتقار اليسار الماركسي الى تحليل صحيح للواقع الوطني. انها في صلب اسباب تفسخ الوفد، وتشرذم الاحزاب جميعا، وهي في الفساد الذي احدثته الحرب العالمية الثانية في الحياة المصرية، كما في تنامي الحركة الوطنية ضد الانكليز بعد حادثة 4 فبراير الشهيرة (اضطرار الملك الى عزل الحكومة القائمة وتكليف مصطفى النحاس بتشكيل حكومة جديدة بينما الدبابات الانكليزية تطوق قصر عابدين)… وهي في الافكار الجديدة التي كان يطرحها اليسار، وهي اخيراً في حربنا المفجعة في فلسطين، وفي التمرد على فسادها قيادة وسلاحا.
الوعود الضائعة
سألني هيكل فجأة:
{ هل تعرف كيف وممّ صاغ جمال عبد الناصر برنامج اول حكومة رئسها بعد الثورة؟
قبل ان افكر في جواب كان قد تابع قائلا:
{ لقد طلب مني ان آتيه بمجموع البيانات الوزارية الصادرة في »سنوات القلق« هذه، ولم يفعل اكثر من التعهد بتنفيذ الوعود الضائعة، وما كان اكثرها وأشملها. كان بينها، على سبيل المثال، إشارات الى السد العالي، ومشروع للإصلاح الزراعي اعده محمد خطاب (الموظف ثم العضو في مجلس الشيوخ) وجعل فيه الحد الاعلى للملكية خمسين فدانا.
من هذا كله يتبين ان »الناصرية« بدأت كرد فعل على الواقع المصري. وفي تقديري انها استمرت كرد فعل حتى عام السويس. حركة 23 يوليو كانت رد فعل على فساد الحياة السياسية في مصر، ومجموع ممارساتها على امتداد العامين التاليين 53 و54 اقرب الى ردود الفعل على الوجود الاستعماري ورفض بريطانيا لمطلب الجلاء. أما بعد 1956 فقد باتت »الناصرية« قوة فاعلة بتأثير احتكاكها بالواقع ونجاحها المطرد في استيعاب دلالاته، سواء على نطاق مصر او على نطاق المنطقة العربية كلها.
وقمت بأول محاولة لرفع درجة حرارة الحوار… قلت:
÷ ثمة من يستند إلى مثل وصفك لحالة مصر في سنوات القلق ليخلص إلى نتيجة مغايرة تماما، فيقول ان البلاد كانت بانتظار ثورة شعبية شاملة فأجهضها انقلاب عسكري.
ورد محمد حسنين هيكل بسرعة:
{ ومن كان سيقوم بهذه الثورة الشعبية؟ لم تكن هناك، خارج الجيش، قوة قادرة على التحرك لإسقاط النظام. ثم إن الذين يقولون هذا القول يتناسون جملة من الحقائق الموضوعية، وأبرزها ان الاحزاب القائمة كانت تنتمي، بأكثريتها الساحقة، للطبقة ذاتها.
÷ لكن البلاد شهدت في تلك الفترة تصاعدا في الدعوة إلى الاشتراكية، حتى لقد اضطرت احزاب اليمين، بمن فيها الاخوان، إلى رفع راية الاشتراكية.
قال هيكل:
{ هذا، في صحته، تعبير عن الازمة الخانقة التي كانت تعيشها الاحزاب. كان بعضها يحاول، بأي وسيلة، ان يحتفظ بجماهيره، وكان البعض الاخر يخفي نزعته الفاشستية بكلمات اشتراكية. وهذا بالطبع لا ينطبق على الشيوعيين الذين كانوا يعيشون، لأسباب تعود الى ظروف النشأة الاولى، حالة اغتراب عن الواقع المصري. وأفضل ألا أتوسع في هذه النقطة.
÷ لكن الحركة الوطنية كانت موجودة، وكانت تحاول… ألم تكن تقاتل الانكليز في القناة؟
رد على تساؤلي بسؤال، ثم اجاب عن الاثنين… قال:
{ ومن الذي كان يقاتل في القناة؟ ان الوقائع التاريخية الثابتة تقطع بأن تنظيم حركة مقاومة الاحتلال الانكليزي في القناة كان اول نشاط علني لتنظيم الضباط الاحرار. وعلى سبيل المثال، اذكر ان الضباط الاحرار هم الذين نقلوا الشحنة الاولى من السلاح والمفرقعات الى منطقة القناة في أواخر سنة 1951 وبعد ذلك بوشرت العمليات.
قصاصات لا قنابل
÷ ألم يكن الاخوان هناك؟
وابتسم هيكل وهو يجيب:
{ بلى، كانوا يكتبون على اسفلت الشارع، او يتركون امام ابواب الثكنات البريطانية قصاصات ورق عليها الجملة التالية »كتائب التحرير مرت من هنا«. ألا ترى معي انه كان من الاجدى لو ان هذه الكتائب تركت قنابل بدلاً من القصاصات؟ للحقيقة يجب ان نسجل ان الاخوان كانوا منهمكين هنا، في القاهرة… كانوا قد بدأوا يمارسون الارهاب في العاصمة. قنابل في صالات السينما. اغتيالات سياسية او محاولات اغتيال. وبالتأكيد فإن التاريخ قد سجل عام 1949، انطفاء »الاخوان المسلمين« كحركة فكرية تغييرية او حتى اصلاحية.
÷ لنرجع إلى عام السويس، لقد اعتبرته حاسما في تأثيراته على فكر عبد الناصر… لماذا؟
وانطلق هيكل يروي ويحلل ويفسر. قال:
{ لم تكن السويس بالنسبة الى جمال عبد الناصر تجربة سياسية فحسب. كانت ايضا تجربة اجتماعية. لقد اتاحت له، ربما لاول مرة، ان يرى من يعطي مصر ومن يأخذ منها، وقبل: من يملك مصر. فمن خلال قراره القاضي بتمصير المصالح البريطانية والفرنسية تكشفت امام عيني عبد الناصر خريطة البلد الاجتماعية الاقتصادية. كانت كل البنوك العقارية، وكذا كل البنوك المالية، في خدمة الاجنبي وليس في خدمة مصر. وعلى سبيل المثال، اكتشف ان بنك باركليز يعمل بلا رأسمال اطلاقا، وانه ينزح الثروة الوطنية اذ يحول جميع ارباحه الى بريطانيا.
لماذا امم عبد الناصر هذه المصالح بعد شهر واحد من تمصيرها؟ لأنه اكتشف ان الذين سيشترون اسهم المؤسسات الاجنبية من المصرييين هم فقط اولئك الذين يملكون. اي ان بيعها لهم سيزيد الطبقة المالكة ثراءً… وهكذا في ديسمبر 1956 اصدر قراره بالتأميم، ثم أتبعه بقرار إنشاء المؤسسة الاقتصادية المصرية التي كانت نواة القطاع العام في تكوينه الجديد.
ومن خلال هذه النتائج المباشرة للعدوان الثلاثي ارتبطت صورة الواقع المصري بأوضاع الملكية، وكان منطقيا ان يندفع عبد الناصر باتجاه إسقاط حكم الطبقة اجتماعيا بعدما اسقطه سياسيا.
للمناسبة، دعني ألفتك الى واقعة ذات دلالة وهي: ان دخل قناة السويس لم يستخدم في بناء السد العالي، كما كان مفترضا، بل وجه الى التصنيع. وكلنا يذكر ان اول اتفاقية تصنيع كبرى قد وقعت مع السوفيات عام 1957، اي في ضوء النتائج الاجتماعية الاقتصادية التي كشفتها حرب السويس.
القسمة الوحدوية
÷ استطرادا مع منطقك، يتبين ان الناصرية قد اكتسبت مضمونها الوحدوي في الفترة ذاتها…
أمن هيكل على الاستنتاج وأكمله بقوله:
{ مع معركة السويس وبعدها اكتسبت الناصرية السمة الوحدوية، وكان قبول عبد الناصر بالوحدة مع سوريا عام 1958 تكريسا لحقيقة انتماء مصر الى العروبة ومحاولة لاستيعاب معطيات الوضع العربي وتعزيز قدرته على الصمود في وجه الهجمات الاستعمارية. وتوالت الخطوات: تأميم بنك مصر والبنك الاهلي (59 1960)، الى قرارات يوليو الاشتراكية (1961) الى الميثاق (مايو 1962) الذي عكس فيه عبد الناصر بعد محنة الانفصال وعلى ضوء حصيلة تجارب السنوات العشر تصوره للسلطة القادرة على إنجاز مهام المرحلة: سلطة تحالف قوى الشعب العامل.. وكان ان اعتمدت صيغة »الاتحاد الاشتراكي«.
÷ بهذا المعنى يمكن اعتبار الميثاق بمثابة تكثيف فكري للناصرية بعد مسيرتها الطويلة من التمرد الى القلق الى التجربة عبر السلطة…
وقاطعني هيكل متسائلا:
{ هي الناصرية ايه؟
في تقديري انها تعني، في الداخل، قيام سلطة تحالف قوى الشعب العامل، وتوليها المسؤولية سياسيا واقتصاديا، وذلك عن طريق ملكية الشعب لكل المشروعات ومصادر الانتاج، الناصرية، داخل مصر، هي حلوان، حيث تقوم غابة من المصانع يبلغ مجموع الاستثمارات الموظفة فيها ألف مليون جنيه استرليني. وهي وجود العمال في مجالس الادارات، وحقهم في نسبة من عائد انتاجهم.
ولقد حدث، أكثر من مرة، ان سألني بعض الاصدقاء العرب: هل النصوص مطبقة فعلا، وهل يشارك العمال في صياغة قرارات مجالس الادارة، مثلا، مشاركة جدية؟. والحقيقة انه لا بد دائما من التفريق بين امرين:
الاول هو اقرار المبدأ.
والثاني هو امكان ممارسته. المبدأ يمكن ان يقر بقانون، أما حدود الممارسة فيرسمها حرص الطرف المعني على دوره ومصالحه.
÷ لعلك تستطيع، بعد هذا الاستعراض، تحديد الناصرية.
قال محمد حسنين هيكل بلهجة من يصوغ شعارا:
{ الناصرية، باختصار، هي استقرار السلطة السياسية في يد تحالف قوى الشعب العامل + ملكية هذا التحالف للموارد الاقتصادية + الانتماء لمعسكر التحرر العالمي + العداء للاستعمار + الانتماء العربي.
طبقية عبد الناصر
÷ سألت الرجل الذي يعكف الآن على كتابة تاريخ جمال عبد الناصر:
هل كان محدد النظرة طبقيا، ام تراه كان تجسيدا لحيرة الطبقة الوسطى وتذبذبها بين الولاء لتواضع النشأة والولاء لتطلعاتها غير المحدودة؟
قال هيكل:
{ بل كان محددا في انتمائه الطبقي. وكان بين اعز امانيه ان تختفي من مصر فئتان: الخدم وعمال التراحيل. كان يقول: طالما استمر وجود هاتين الفئتين فمعنى هذا ان الثورة لم تحقق اهدافها.
÷ هل كان، قبل 1952، قد قرأ الماركسية؟
{ يمكن القول انه كان قد اطلع عليها، خصوصا عبر تجربته المحدودة مع الشيوعيين ايام كان يدور بقلقه باحثا بين الاحزاب القائمة عن مستقر فلا يجده.
÷ ثمة من يقول انه لو كان اكبر سنا وتجربة لما ضاعت منه سنوات عزيزة، بعد وصوله الى السلطة، في تجارب لم يكن لها، دائما، ما يبررها.
{ ربما، على اني أؤكد مجددا ان انتماءه الطبقي كان واضحا باستمرار. ولقد حافظ على نقائه الطبقي حتى آخر ساعة من حياته، فلم تخدشه شهوة الى مال او ترف. بل لعله، في هذا، كان متطهرا الى اقصى حد.
انه، مثلا، لم يغير حياته الاجتماعية، بل إنه كان حريصا على عدم تغييرها. كان يرفض ان يخرج، ويعتذر عن قبول كل الدعوات التي توجه إليه، فإذا ما سألته او أبديت دهشتي قال لي ببساطة: » اعرف سلفا ما الذي سأجده بانتظاري. من بإمكانه ان يدعو رئيس الجمهورية غير الاغنياء؟ وأنا لا احب صحبة هؤلاء ولا اريدهم ان يتخذوا من دعوتي ستارا لأسباب ثرائهم او تبريرا لإسرافهم الفظيع بينما الاكثرية الساحقة من شعبي لا تكاد تجد قوت يومها«.
اشعل هيكل سيكارا جديدا، ثم نفخ الدخان بقوة قبل ان يضيف قائلا:
{ لقد كان غير قابل للافساد، طبقيا. هذا واقع. وبالنسبة إلي، كان عذابا ان أتناول غدائي معه. ذلك انه امضى حياته رافضا تغيير طعامه. دائما وأبدا لحمة ورز وخضار، دون ان ننسى الجبنة البيضاء طبعا. كذلك كان من الامور الصعبة جدا إقناعه بضرورة الاستغناء عن اي من بذلاته القديمة.
كل وطني يساري
÷ اذا طُلب إليك ان تصنف جمال عبد الناصر فكريا فأين تضعه بالضبط؟
قال محمد حسنين هيكل:
{ لعلي أظلمه ان أنا صنفته، فعلاقتي به كانت علاقة حوار وتفاعل، حتى لأخشى احيانا ان اخلط بين افكاره وأفكاري…
÷ واذا طلب اليك ان تصنف نفسك فكريا؟
ضحك هيكل، وابتسمت (عينا) الدكتور كلوفيس مقصود من خلف نظارتيه السميكتين، ثم جاءني الرد:
{ اعرف ان كثيرين قد وضعوني في خانة اليمين وارتاحوا، ولكن هذا لا يمنعني من اعلان رأيي بضرورة اعادة النظر في المعاني التقليدية لليسار واليمين بعدما تخطاها عصرنا المذهل.
وحتى لو اعتمدنا المفهوم القديم فأنا يساري بمعنى أني وطني، لأن الوطني لا يمكن إلا أن يكون يسارا، وكل وطني لا بد أن يلتزم اجتماعيا مع اليسار.
÷ ماذا تقصد بالمفاهيم الجديدة لليسار واليمين؟
{ أقصد أنه لا بد من تعديل الحدود القديمة بين البروليتاريا والطبقة الكادحة عموما والطبقات الاخرى. لقد اضافت ثورة التكنولوجيا بعدا إضافيا لمفهوم الحرية السياسية كما تعتمده الانظمة الاشتراكية. لم يعد هناك رأسمالي وعامل بحدود قاطعة الوضوح بينهما، فثورة التكنولوجيا أدخلت عناصر كثيرة جديدة الى خانة الطبقة العاملة دون أن تكون هذه العناصر بروليتارية. كيف، مثلا، نصنف المهندس او الميكانيكي او الخبير العالي الكفاءة؟ هل نصنفه على أساس دخله الراهن، أم على أساس انتمائه الطبقي الاصلي، أم على أساس موقعه في عملية الانتاج؟
÷ سؤال مباشر.. أين موقعك من الناصرية، بشكل محدد؟
ورد محمد حسنين هيكل بعد لحظة من التفكير:
{ لقد عاصرت وعايشت تطور الفكر الناصري، وحضرت ارساء منطلقاته الاساسية، وأتمنى ألا يقف هذا الفكر عند الحدود التي انتهى اليها يوم 28 أيلول 1970… وكل ذلك داخل دوري كصحافي وليس خارجه.
شخصية لن تتكرر
جاء كلوفيس مقصود بمحمد يوسف، كبير مصوري »الأهرام« لالتقاط صورة تذكارية. وعدنا الى ما كنا فيه. سألت:
÷ أليس هذا الذي حصل في مصر من صراع على السلطة، وما تكشف خلال الصراع من وقائع مفجعة، بعض نتاج الناصرية أيضا؟
قال هيكل بلهجة المشفق:
{ قبل الاجابة عن هذا السؤال لا بد من التوقف لحظة أمام شخصية جمال عبد الناصر. لقد كانت شخصيته ضخمة جدا. صادقا أقول لك إنه قد أتم التحولات الهائلة في المجتمع المصري وحده تقريبا. وبالتأكيد فإن شخصيته شبه الاسطورية كانت محصلة تفاعلات معينة: تفاعله مع الواقع، تفاعله مع الناس، تفاعله مع الظروف الدولية السائدة… هذا الى جانب شجاعته الفائقة وقبوله المخاطرة في أي وقت، إذا ما رأى مصلحة الوطن فيها، وتصديه للمهام الجسام. من، غير عبد الناصر، يقدم بعد شهرين فقط من انتخابه رئيسا للجمهورية على اتخاذ قرار في مثل خطورة تأميم قناة السويس؟ من غيره يورط نفسه في مشروع كالسد العالي، ويفرض على نفسه تحمل مسؤولية المشروعات الطويلة المدى التي يستنزف تنفيذها كل ما لديه من مال، بينما بإمكانه أن يوظف مالا أقل في مشروعات استهلاكية سريعة الانتاج، لا تثقل على الناس وتخدعهم في الوقت ذاته بأن بلادهم قد دخلت عالم الصناعة؟
ولو تأملنا الآن، بعدما غاب عنا، طبيعة وضعه التاريخي وطبيعة السلطة التي تجمعت بين يديه لأمكننا الجزم بأن تجربته فريدة في نوعها، وأنها لا يمكن أن تتكرر لا هنا في مصر، ولا في أي مكان من العالم، ودلني على قائد مثله: رغم أنه الرجل الذي يصدر القرارات الاكثر صعوبة في تقبل الناس لها فهو الرجل الذي يصل حب الناس له الى حدود اللامعقول.
÷ وهل بسبب من طبيعة وضعه التاريخي وطبيعة السلطة التي تجمعت بين يديه نشأت مراكز القوة؟
اعتدل هيكل في جلسته، وسحب نفسا طويلا من سيكاره قبل أن يقول:
{ علينا أن نعترف، أولا، بأن معظم »الاجهزة« قد نشأ أصلا لمواجهة العمل المعادي لمصر ولعبد الناصر بصفته قائد معركة التحرر الوطني في هذه المنطقة وبطلها. كان العمل المعادي سريا، بطبيعته، وكان لا بد من أن يواجهه هنا عمل سري. ومع اتساع رقعة المعركة وتعدد أطرافها، تنامت الأجهزة وتعددت مهماتها.
وعلينا أن نعترف، ثانيا، إنصافا للرجل وإحقاقا للحق، بأن مراكز القوة قد نشأت على مرحلتين، ودائما في غيبة جمال عبد الناصر.
ان مركز القوة الأول قد تكون في اليمن، حين أرسل عبد الناصر الجيش المصري ليتولى حماية ثورتها هناك، ولأول مرة، وبسبب من طبيعة العلاقات العشائرية السائدة، ولأن الولاء يشترى ولا يمنح، بدأ الضباط يتعاملون مع الناس بالفلوس… وكانت هذه تجربة جديدة لم يصمد فيها مع الأسف إلا قلة من أقوياء النفوس.
وهكذا تحولت قيادة الجيش الى مركز قوة، بسبب ما في يدها من صلاحيات وإمكانات هائلة خصوصا إذا ما تذكرنا أننا لم نكن وحدنا من يشتري الولاءات … ونشأت على هامش المهمة الثورية النبيلة بؤرة فساد وإفساد شمل شرها الكثير من القيادات الشابة والعناصر التي كانت مثالية في طهارتها.
اما مركز القوة الثاني فقد تكوّن وعبد الناصر يغالب آلام مرضه المبرحة.
بعد إصابته بالجلطة الدموية الاولى كان على عبد الناصر أن يختار بين الانسحاب من القيادة او الاستمرار فيها ولو دفع الثمن من صحته، بل من حياته.
وليس سرا أنه كان يريد الانسحاب، وأنه همّ بإعلان قراره هذا أكثر من مرة ثم عدل لأن الظروف كانت تفرض عليه أن يبقى. على انه بعد نكسة 1967 اتخذ قرارا نهائيا بأن يبقى مهما كلفه الأمر، لأنه كان يرى ان انسحابه سيؤثر على معنويات الناس، وعلى ثقتهم بالنصر.
التنظيم الطليعي
÷ قلت: هل لك أن توضح حكاية التنظيم السياسي، او التنظيم الطليعي الذي بات يسمى الآن التنظيم السري او الجهاز السري حتى التبس الأمر على الناس فتصوروا أنه على غرار الجهاز الارهابي للاخوان المسلمين، وان أمره كان مجهولا من الدولة حتى كان ما كان فانكشف.
قال رئيس تحرير »الأهرام«:
{ عندك حق. لقد وقع خلط كثير في موضوع التنظيم الطليعي. والحقيقة أنه نشأ أصلا ليكون القلب المحرك للاتحاد الاشتراكي. على أن بعض الشلل او المجموعات سرعان ما تكونت داخله، خصوصا في القاهرة والجيزة، منفصلة في أغراضها عن الهدف الحقيقي لقيام التنظيم.
÷ سمعت لغطا حول موقفك منه، وأود أن اسألك، أولا، هل كنت فيه في أي يوم؟
قال هيكل بسرعة:
{ كانت لي اعتراضاتي عليه منذ البدء.. وأبرز ما اعترضت عليه هو سرية التنظيم.
صمت لحظة ثم استدرك قائلا:
طبعا كنت فيه. والواقع انه قبل 1967 لم يكن يؤخذ على محمل الجد، أما بعد النكسة فقد اختلف الأمر، وبدأنا نعقد الحلقات كما في أي حزب.
÷ ثم اختلفت فخرجت؟
{ بقيت على رأيي بالنسبة الى السرية، وكان رأي الاغلبية غير ذلك، فانسحبت.
عدت الى موضوع مراكز القوة فسألت محمد حسنين هيكل:
÷ بعض الناس يخشى ان تنعكس الحملة على مجموعة المستقيلين بما يشوه صورة جمال عبد الناصر في الأذهان.. ألم يكن هؤلاء، برغم كل شيء، أبناءً شرعيين للنظام؟
تبدلت ملامحه، وانهمك في إعادة إشعال سيكاره قبل أن يقول:
{ لا بد من ملاحظة الفرق الاساسي بين الصف الاول والصف الثاني. ان رجال الصف الاول قد مارسوا العمل السياسي فعلا، قبل الثورة، ولهم تجاربهم فيه، أما رجال الصف الثاني فقد دخلوا السياسة من باب السلطة وليست لهم تجاربهم وخبراتهم المستفادة منها. انهم لا يعرفون ولا يريدون الا السلطة وهكذا خلطوا بين السلطة والسياسة، فتعاملوا مع السلطة بمنطق السياسيين بينما تعاملوا مع الجماهير بمنطق السلطة.
÷ هل توافق على المنطق القائل ان هؤلاء كانوا يمثلون، من خلال الاجهزة والمؤسسات ذات الطابع البوليسي، الوجه الآخر للناصرية مقابل وجهها المشرق المتمثل في الانتصادات السياسية والانجازات التي تمت على طريق التحول الاشتراكي.
قال هيكل معترضا:
{ أفضل ان يقال إن هؤلاء كانوا يمثلون أجهزة السلطة وليس فكرها بأية حال. هذه التسمية أقرب الى الواقع والانصاف.
الحزب والتلفزيون
÷ كشفت الأحداث الأخيرة خواء المؤسسات التمثيلية القائمة (لجنة مركزية، لجنة تنفيذية عليا وحتى مجلس الأمة الذي صار اسمه مجلس الشعب).. أليس هذا الواقع جانبا من مأساة الناصرية والنظام الناصري؟
قال الرجل الذي تخصص في إيصال فكر عبد الناصر الى الجماهير وشرحه لها:
{ كثيرا ما قلت لجمال عبد الناصر وأنا أراه يحاول إقامة المؤسسات التمثيلية ثم يفشل فلا ييأس بل يكرر المحاولة: لن تستطيع ان تقيم مؤسسات جدية. ان الاحزاب تبنى بالمعاناة لا بالقرارات. والمؤسسات، كالاحزاب، هي قنوات اتصال بالجماهير، وأنت لن تستطيع ليس فقط لأنك تفعل كل شيء بنفسك، وانما أيضا لأن الناس بفضل الراديو والتلفزيون يرونك ويعيشون معك.
ورأيي أنه لو كان قد عرف التلفزيون وانتشر الراديو في روسيا القيصرية، في أوائل القرن الحالي، لما كان لينين بحاجة الى حزب، للقيام بالثورة الاشتراكية. ما هو دور الحزب؟ دوره ان يجند الجماهير للنضال من أجل تحقيق شعارات وأهداف سياسية محددة. وفي حالة عبد الناصر فلقد كان الشعب كله مجندا دون حاجة الى وسطاء.
بهذا المعنى فإن عبد الناصر هو ظاهرة خارقة، ولكنها في جانب منها وليدة العصر ووسائل الاتصال المباشر التي وفرها على أوسع نطاق.
وبهذا المعنى ايضا فإن وجود عبد الناصر كان، بحد ذاته، إلغاءً للمؤسسات التي كان يجهد نفسه عبثا من أجل إقامتها.
وكيف، من خارج هذا المعنى، يمكن تفسير خروج القاهرة هاتفة لعبد الناصر، ومطالبة ببقائه، بعد الهزيمة مباشرة.
وكيف يمكن تفسير خروج الخرطوم لاستقباله حين ذهب ليحضر مؤتمر القمة فيها بعد الهزيمة بشهرين؟
الديمقراطية بالشعب
قلت منتقلا بالحوار من الماضي والحاضر الى تصورات المستقبل:
÷ ماذا، في تقديرك، سيكون بعد هذا الذي جرى في مصر؟
وغمر التفاؤل كلمات محمد حسنين هيكل وقسمات وجهه أيضا.. قال:
{ أتصور أنه سيتم تحقق الديمقراطية بالشعب بعدما حقق عبد الناصر الديمقراطية للشعب…
÷ قلت: ثمة من يتوقع ردة يمينية..
قاطعني قائلا:
{ لكي يصح اعتماد هذا التوقع، لا بد، اولا، من التسليم بأن الذين سقطوا كانوا اليسار، او أنهم بأقل تعديل كانوا يساريين.
÷ وفي تقديرك أنهم لم يكونوا كذلك.
{ بل ليس الأمر مطروحاً على شكل صراع بين يسار ويمين. كان الصراع على السلطة وليس إلا عليها.
÷ لكن ما جرى من شأنه ان يرسخ السلبية التي اشتهر المواطن المصري بها، فخلال الصراع وبسببه صدمت بعض العناصر الشابة التي كانت قد أخذت تغادر قوقعة سلبيتها الى الاتحاد الاشتراكي العربي.
برزت الحدة في لهجة هيكل وهو يقول:
{ هذا غير صحيح. لم يؤمن الناس بالاتحاد الاشتراكي إطلاقاً.
÷ ألم يكن بين ملايين المنتمين إليه متحمسون ظنوا انه الطريق الى حياة سياسية سليمة؟
{ أبداً. كان الشعب كله، شكلاً، داخل الاتحاد الاشتراكي، ولكنه كان بالفعل خارجه. وثمة فرصة الآن، وعبر الانتخابات المقبلة، لأن تدب الروح في الجسد الهائل للاتحاد الذي تضم صفوفه أكثر من خمسة ملايين مواطن.
÷ تبدو شديد التفاؤل بنتائج الانتخابات العتيدة.
{ صحيح، وذلك لاعتقادي بأنها ستكون الأكثر حيوية في تاريخ مصر الانتخابي. واتصور منذ الآن ان كل الناس سيشاركون فيها، وقد يصطرعون عبرها، وهذا لو حدث فهو ظاهرة صحية.
÷ وما الضمانات لأن تتم انتخابات حرة فعلاً! هل هو تعهد الرئيس بأن يشرف عليها بنفسه؟
{ في مثل أهمية تعهد الرئيس إحساس المواطن العادي بأنه مقبل على مرحلة سياسية جديدة شعارها: ديمقراطية بالمشاركة وليس ديمقراطية بالموافقة…
÷ وكيف تحقق عملية إعادة بناء الاتحاد الاشتراكي الأهداف المرجوة منها؟
{ بتحويله الى حركة سياسية يقودها المتطوعون، بدلاً من ان يظل جهازاً ذيلياً للسلطة يقوده بعض المحترفين والمنتفعين.
المعركة وتحييد أميركا
كانت »المعركة« المحطة الأخيرة في الحوار. ولقد سألت محمد حسنين هيكل:
÷ اثارت مقالاتك حول تحييد أميركا لغطاً، ورأى فيها البعض منطقاً انهزامياً.
وانطلق هيكل يرد، حتى من قبل أن اكمل منطق المتهمين (بكسر الهاء)، قال:
{ اعرف يا سيدي ان منطقي لم يعجب الكثيرين، وان البعض قد اتهمني في وطنيتي، ولكني اعلنها صريحة: انا ما زلت متمسكاً بمنطقي إياه، وما زلت مقتنعاً به. ليس صحيحاً تماماً القول بأن الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل واحد.
ثمة تناقض في المصالح. اعرف طبعاً ان هذا التناقض جزئي محدود، ولكني اعرف انه موجود قطعاً وسأظل أعمل وأطالب غيري بأن يعمل على تعميق هذا التناقض أو الافادة منه، بلا تعب.
÷ وهل تملك ما يبرر الأمل في تحييد الولايات المتحدة!
{ لا اتحدث هنا عن الأمل. انني اعمل فقط. وأنا ادرك سلفاً انني على الغالب لن أنجح، لكن واجبي يظل واضحاً وهو أن اعمل من أجل ذلك.
÷ وبهذا المنطق كان ضرورياً ان نستقبل روجرز وسيسكو، وأن نحتفي بهما…
قاطعني مرة أخرى:
{ لم نحتف بهما. لقد استقبلناهما فحسب.
÷ اتحدث عن الحفاوة التي لقياها خارج مصر.
{… اما في مصر فقد استقبل روجرز بصفته وزير خارجية الدولة الكبرى التي تملك مفتاح حل الأزمة.
÷ ألا يتضمن استقباله معنى إعادة الاعتبار الى الدولة التي صنفناها، بعد 1967 على الأقل، في صف عدونا واعتبرناها الشريك المتكافل والمتضامن معه.
{ بل يعني انني أحاول، بكل الوسائل، ايجاد حل للأزمة المستعصية.
توقف هيكل لحظة عن الكلام، رمى بسيكاره في المنفضة، رفع يده وأخذ يشير بها مؤكداً معاني الكلمات… قال:
{ أنا اعرف، يا سيدي، ان المعركة هي وحدها الحل، وأنها آتية لا ريب فيها، اعرف ان إسرائيل لن تتراجع إلا مرغمة، وأن قوتي وحدها هي عنصر الارغام… ومن داخل هذا المنطق وليس من خارجه ادعو وأكرر الدعوة الى بذل كل جهد ممكن لتحييد أميركا، أو لإلزامها بتحديد موقفها مني. انا لا اطالبها ولا اتوقع منها ان تفك ارتباطها بالعدو. هذا أمر لا يخطر لي ببال. ولكني مطالب، كمهزوم، بألا اترك سبيلاً الى كسب الوقت إلا وسلكته. عليّ أن اشرح قضيتي للعالم، وأن أعيد شرحها، بكل اللغات واللهجات، ومرة ومرتين وثلاثاً ومئة، حتى إذا ما تأكد لي أني قادر على حسم الأمر بقوتي الذاتية ما ترددت لحظة…
هممت بطرح سؤال جديد، لكن هيكل سبقني الى الكلام قائلاً:
لكن العرب يصرون على ألا يروا غير لونين هما الأبيض والأسود، بينما العالم مليء بالألوان والظلال، وهم يرفضون ان يروا أن إسرائيل طرف له بعض الاستقلال وله مصالح متميزة أحياناً عن المصالح الأميركية. وبعد 1967 لم تعد اسرائيل مجرد تابع، بل هي تقدمت الى موقع الشريك.
هدأ محمد حسنين هيكل فغمغم بما يشبه الاعتذار عن حدته ثم أضاف قائلاً: إن أميركا هي التي تزود إسرائيل بطائرات الفانتوم. وأنا اعرف أنها ستزودها بها مستقبلاً. لكن هذا لا يمنعني من أن احاول بكل جهدي، إلزامها بتحديد مساعداتها لها. ولو لم تفد كل جهودي إلا في انقاص طائرة فانتوم واحدة من المقرر ارسالها الى إسرائيل لرأيت في ذلك مكسباً.
÷ وهل هذا يغني عن إعداد الشعب، كل الشعب للمعركة!
عادت الحدة الى لهجة هيكل وهو يرد بقوله:
{ ماذا تعني؟ كيف يكون إعداد الشعب للمعركة؟ هل تصدر كلامك هذا من توقعك قيام إسرائيل بغزو مصر؟ ليت إسرائيل ترتكب مثل هذه الحماقة. ولكني أفترض انها اذكى من أن تتورط في تجربة ستكلفها وجودها ذاته.
÷ ما زلت تراها، إذن، حرباً بين جيش وجيش واسطول وأسطول؟
{ لا استطيع أن أراها على غير هذا الوصف.. ثم من قال إني لم أعد الشعب للمعركة؟ ان العمال هم الذين يتولون حماية المصانع، والمراكز الاستراتيجية الأساسية تحميها الصواريخ، وفرق الدفاع المدني موزعة على الاحياء ولكل فرقة واجبها المحدد عند نشوب المعركة…
لجان المواطنين
÷ لماذا لم تنظم كل القطاعات الشعبية بدلاً من الاكتفاء بلجان »المواطنين من أجل المعركة«… ألا تجد ان التسمية ذاتها غير محببة؟ انها تكاد تعني ان كل من هو خارجها ليس معنياً بالمعركة وليس له دوره فيها…
{ في أية حال فإن دور هذه اللجان محدود وذو طابع إنساني. إن مهمتها الأساسية أن تشعر الجندي الرابض في خندقه بأن ثمة خلفه من يهتم بعائلته وشؤونه بحيث ينصرف همه كله الى واجبه امامه… خذ مثلاً بلدتي برقاش: أنا هناك عضو في لجنة المواطنين من أجل المعركة. إن دوري لا يتعدى كتابة رسائل، الى الجنود من أبناء البلدة، أطمئنهم فيها الى حالة عائلاتهم، وأحاول أن اذكرهم بأنني معهم، وليسوا وحدهم. وأذكر ان أحد الجنود كتب يخبرني بأن له قضية عالقة أمام المحاكم، فوكلنا عنه محامياً، وتابعنا قضيته حتى صدر الحكم فيها.
÷ أي ان اللجان اقرب الى الجمعيات الخيرية؟
{ لا أحب هذا الوصف. إن زهرة شباب مصر يقفون في خط النار، ومن واجبنا ان نطمئنهم على أحوال عوائلهم، وأن نرعى شؤونهم الشخصية التي خلفوها وراءهم وانصرفوا الى اداء واجبهم الوطني… ومن أجل هذا وجدت »لجان المواطنين من أجل المعركة« وأتصور انها تقوم بدورها كما ينبغي.
السد وأنوار السد
أعلن هيكل، خلال الحوار معه، ان السد العالي قد بني أساساً بأموال مصرية، على عكس المتصور والشائع. فمن أصل كلفته الكلية التي بلغت 500 مليون جنيه، دفع السوفيات مئة مليون فقط، بينما وفر الشعب المصري اربعمئة مليون لتحقيق هذا الانجاز العظيم.
وقال هيكل: على أننا نحفظ أبداً للسوفيات جميلهم ليس فقط في أنهم ساعدونا على إقامة السد، وإنما أيضاً على تعهدهم بكهربة مصر كلها خلال خمس سنوات… ويجب ان نذكر لهم بالعرفان انهم قد اقاموا في مصر شبكة كهرباء مركزية لعلها الوحيدة من نوعها في العالم، هذا دون ان ننسى ان الطاقة الكهربائية المتوافرة الآن لمصر، بعد السد، تعادل نصف كهرباء كل افريقيا.
بانتظار حوار آخر
كان في خاطري كثير من الأسئلة بعد، لكن الوقت أضيق من ان يتسع لكل الأسئلة.
وهكذا ودعت الأستاذ محمد حسنين هيكل وخرجت بهذا الحوار الناقص، نسبياً، على أمل استئنافه في فرصة قريبة.
وأرجو ألا يؤثر نشر هذا الجزء من الحوار على الموعد العتيد فليس امتع من القراءة لهيكل إلا الحوار من موقع المختلف معه، حتى لو رفض التسليم بأسباب الاختلاف.

Exit mobile version