طلال سلمان

حوار فكري مع صاحب نظرية»المتحد القومي-الإسلامي«والرافض الدولة الدينية

يضيق الشيخ محمد مهدي شمس الدين »بشيعيته« عندما تحجزه عن إسلامه فيتجاوزها بوعي ناضج وإيمان عميق،
ويضيق ايضاً بالمحلية وهو يحسها تضغط عليه تكاد تحجزه عن عروبته وعن مداها الأرحب، فيتملص منها وان كان يعرف ان موقعه في المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى يفرض عليه قدراً من الانضباط داخل واقع مفروض حتى لو كان مرفوضاً.
»فالفكري« في »الإمام« الجديد أهم من »السياسي« فيه، والتاريخ بماضيه والحاضر والمستقبل، وخصوصاً المستقبل ارحب بكثير من اليوميات وتفاصيلها السمجة.
لكأنه اثنان في واحد هذا المحاصرة عيناه الذكيتان داخل البياضين عمامته واللحية التي غطاها الشيب تماماً سابقا في ذلك العمر: فهو محكوم بلبنانيته وشيعيته ودوره في نظام يوزع المقامات وفق توازنات دقيقة بين الأديان بطوائفها والمذاهب، وهو صاحب طموح مشروع إلى دور إسلامي عربي، وبالاستطراد انساني شامل، يخرج به إلى الافق الذي يرى في نفسه الكفاءة علماً واجتهاداً لأن يعطي فيه ما ينقصه.
ولقد تقصدت »السفير« ان يغلب الجانب الفكري على ما عداه في هذا »الحوار« مع الرجل الذي تكاثرت عليه ألقابه بعد أن استحدث الآخرون وخصوا انفسهم بألقاب جليلة كانت في ما مضى امتيازاً لتلك القلة من العلماء المراجع القاعدين الى كتبهم وتلامذتهم ومريديهم في النجف الاشرف.
ونقول »الحوار« مجازا، لان الشيخ محمد مهدي شمس الدين، كأي فقيه يهتم بشرح فكرته اهتمامه بعنوانها، فينطلق في تفصيلها وتوضيح أبعادها في ما يشبه »المونولوج« الذاتي، وتخاف ان تقاطعه فيضيع منكما السياق وتخسر الفكرة شيئاً من مضمونها.
كنا نريد منه اعادة تقديم فكرته المبتكرة عن »المتحد العربي الاسلامي«، وهل هي محاولة لمصالحة تاريخية بين القومية والدين،
كذلك كنا نريد ان نسمع منه عن الموضوع الذي شغله كثيرا في الفترة الاخيرة وهو: الشيعة العرب ودورهم في مجتمعاتهم، وصولا الى دور الشيعة في لبنان، مع وقفة خاصة امام المقاومة وصلتها بالشيعة، ان كانت لها صلة مميزة،
واخيراً فقد اردنا محطة حوار خاصة حول مصر ودورها، انطلاقاً من ان سماحته مدعو لزيارتها قريباً، ومكلف نفسه باستكمال بدايات في مجال التقريب بين المذاهب، خصوصاً وان الايادي السوداء تفجر بين الحين والآخر مشكلة شيعية في مصر لضرب مثل هذا التوجه واحتمالاته الخيرة، عربيا وإسلاميا.
طلال سلمان
المتحد القومي الإسلامي
{ أطلقتم منذ فترة فكرة المتحد القومي الاسلامي كنوع من التوفيق اذا جاز التعبير بين ما كان سائدا تحت شعارات القومية العربية وما استجد خاصة بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران وما أعطته من زخم سياسي لما يمكن اعتباره التجديد او الدعوة الاسلامية او الثورة الاسلامية او الفكر الاسلامي، وبدا في لحظات معينة ان الطرح الجديد يجيء في مواجهة التيار القومي او كبديل له، هناك مَن افترض ان تعبير »المتحد العربي الاسلامي« هو محاولة للتوفيق بين خير ما في الدعوتين. ما رأيك بهذا كله؟ أين هو هذا المتحد اليوم على ارض الواقع؟
متحد عربي اسلامي او قومي اسلامي هو شعبة من رؤية اوسع وهي ليست رؤية حديثة او آنية. تزامن اطلاق هذا الشعار، شعار المتحد والذي كانت »السفير« أول من أطللنا من خلالها على الرأي العام به من خلال صيغة الرسالة المشتركة التي وجهناها الى الرئيس حافظ الاسد والرئيس حسني مبارك. تاريخ هذه الرؤية أبعد وبمنظور أشمل يتصل ببدايات ما قد تصح تسميته مواجهة بين الغرب والاسلام ومن ضمن ذلك ما نشأ من مصطلحات حداثة وأصالة ومعاصرة وسلفية وتراثية الخ… وحدثت المواجهة على صعد متعددة، فلاحظنا مثلا صراعا بين الطورانية والاسلام وبين الإيرانية او الفارسية والاسلام، وبشكل ما صراعا بين الهندية والاسلام، وفي هذا السياق حصل ايضا الصراع بين العروبة والاسلام وحصلت مواجهات شملت العالم الاسلامي برمته. دخل العالم الاسلامي في عهد القوميات او في فكرة القوميات او تسللت الى العالم الاسلامي روح القوميات في لحظة سيئة هي لحظة الانكسار والانكفاء الكبير للمشروع السياسي التنظيمي للامة ككل او لمجتمعاتها، وهذه اللحظة كانت في العقود الاخيرة من عمر الدولة العثمانية، حيث نشأت هذه المواجهة التي لا تزال تتوالد حتى الآن على مساحة العالم الاسلامي. انتجت في العالم التركي الصيغة الكمالية وفي ايران انتجت الصيغة الامبراطورية الفارسية، وفي العالم العربي القومية العربية.
{ بداية أسقطت الخلافة؟
نعم، أسقطت الخلافة وانتجت الكمالية العلمانية، والتيار العلماني الايراني عبر عن نفسه بالفكرة الامبراطورية في ايران كما جسدتها اسرة بهلوي. في الهند تفاعلت الامور وانتجت باكستان. كان صراعا بين الاسلام وبين تيار الهندية اذا صح التعبير وكان للتيارين ممثلون، الاسلاميون تمثلوا بمجموعة أجنحة ابرزهم محمد علي جنانح والهنود كانوا ممثلين برموز كبيرة أمثال ابو الكلام آزاد. في العالم العربي حصل الامر نفسه، وجد اسلام مقابل عروبة، تراث مقابل حداثة، شرقية مقابل غربية، مدنية في مقابل تخلف او بداوة واستعملت رمزيات كثيرة في هذا الشأن.
أنا اختياري للموضوع كرجل دين عربي اعيش في هذا العالم العربي وأكثر مشكلات الاسلام مساسا بي هي مشكلات الاسلام في العالم العربي سواء في التوترات الداخلية داخل الاجتماع الاسلامي العربي او في مواجهة المشروع الصهيوني، كان اطلاق مشروع المتحد العربي الاسلامي والا يمكن ان يقال المتحد التركي الاسلامي او الطوراني الاسلامي او الفارسي الاسلامي او الهندي الاسلامي.
محاولة توفيق
{ تقصد محاولة التوفيق بين القومية والدين؟
نعم، وهذا يتصل بفكرة اعمق وعبرنا عنها في بعض نصوصنا: هل مفهوم الامة في الاسلام هو مفهوم احادي او يمكن ان يكون امما اسلامية. يعني تنظيم الامة هو تنظيم عالمي كما بعض مدارس الفكر الاسلامي الحديث تنسجم مع المدارس الكلامية القديمة بأن المسلمين امة واحدة ليس فقط على مستوى العقيدة والفكر وانما على مستوى التنظيم والسياسة، ومن هنا يتحدث عن حكومة عالمية. هذا ايضا يستند الى رؤية مختلفة. انا ارى ان الامة واحدة بالفكر والعقيدة واما على المستوى التنظيمي والسياسي والذرائعي هي أمم.
إذاً نضع موضوع المتحد في هذا الاطار الاوسع وهو يمثل مشكلة اسلام في العالم مع هذا التيار.
{ يعني ليس ردا سياسيا على طروحات الثورة الاسلامية في ايران؟
لا، انا مواقفي الفقهية والفكرية معروفة. في مقابل بعض الادعاءات التي نُسبت الى فكر الثورة الاسلامية في ايران وانها تريد ان تعمم التجربة عالميا بحيث تؤدي الى خلق تنظيم سياسي عالمي، يمكن ان يقال ان المتحد هو فكر مقابل، وفهم سياسي مقابل، بدل الغاء القومية لمصلحة الاممية، هذا الفكر يرى ان القومية يجب ان تكون محترمة وملحوظة في اي تنظيم فكري ومؤسساتي للاسلام كما ان الاسلام يجب ان يلحظ في اي تنظيم فكري او مؤسساتي للقومية. أقصد نحن لا نرى ان هناك هذا او هذا. منذ عهد الرسول سلام الله عليه وهذا مؤصّل عندنا فقهياً كانت تلحظ خصوصيات الأقوام وكذلك خصوصيات الجماعات. نحن نقول ان البشر امة واحدة ومخلوقات واحدة ولكن داخل هذه الوحدة بالتأكيد يوجد تنوعات كثيرة. فأمام عملية محو او تجاهل القومية نحن لا نرى ذلك بل نرى أنه يجب الاعتراف بالواقع القومي ومن منطلق انه امر واقع، ومن منظور ديني ايضا لأن الاسلام لا يتنكر للمضمون القومي للبشر بل هو يوصي باحترامه. نتذكر الحديث الشهير للامام زين العابدين حينما سئل: هل من العصبية ان يحب الرجل قومه؟ فأجاب: كلا، ليس من العصبية ان يحب الرجل قومه، العصبية ان يرى أشرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين. ونحن نعتبر انه من الشذوذ الكبير ان نقول بوجود تعارض بين الانتماء القومي وبين الانتماء الاسلامي. ربما هذا يتصل تاريخيا ببعض الجذور التي نشأت في العصر العباسي الثاني بشكل خاص وتراكمت مع دخول العنصر التركي وبعد ذلك عناصر اخرى الى بناء الدولة الاسلامية. وفي العصر الحديث ربما يتصل بأن التسويق الفكري القومي تم من قبل باحثين او مستشرقين غربيين او عرب متغربين وانطلق من ضمن الرؤية الاستعمارية فقدم هذا الفكر القومي وكأنه معارض للدين وترافق مع ظواهر سيئة قبل احياء ثقافات قديمة كالفينيقية والفرعونية والأشورية الخ. والدعوة الى ترك الحرف العربي والاستهانة بالفكر الاسلامي والفقه الاسلامي ودعوات العلمنة التي لا تزال تعبر عن نفسها في بعض التعابير في هذه الايام. كان هذا الامر امرا ظرفياً. وهذا الواقع، واقع المواجهة كلنا يعلم كم كلف الامة منذ اول مواجهة بين الاستعمار وبين الشعوب العربية اذا صح التعبير في الحرب العالمية الاولى، وكلفها صيغة سايكس بيكو ثم المصيبة القاتمة والتي لا تزال تتوالد الى هذا اليوم، الى اتفاق الخليل الثاني. نشأ كل هذا من هذه المواجهة وسلكت الامة في تنظيمها وسياستها وتنميتها وفقا لمعطيات حصر فيها الاسلام في محاكم شرعية يختلف الرأي في درجة كفاءتها، وفي أطر دراسية محصورة في صيغ وعظية في المساجد وغالبا وعظية متوارثة لا تنتمي الى زمانها ابدا. وقد واجهت الامة اعباء المعاصرة بعدة ناقصة في مخزونها الروحي. انبنت الانظمة الحديثة بعد الحرب العالمية الاولى بمعزل عن الامة. كانت انظمة ورئاسات لم تنبع من التفاعل الداخلي نفسه لأنه فرض سلفا ان الاسلام خارجها وان الدين ليس له دور واستعين به حينما كان مقيدا في بعض المواجهات ونتذكر جميعا.. جيلنا قرأ ولكن من قبلنا عاشوا ان المانيا استخدمت مشروع الجهاد ضد انكلترا لمصلحتها.
الجهاد
{ كما استخدمت الولايات المتحدة »الجهاد« في افغانستان؟
في السنين الاخيرة، نعم استخدمت اميركا الجهاد القتالي في افغانستان ولكن في الحرب الاولى صدرت فتاوى جهاد لمصلحة التحالف التركي الالماني في مواجهة التحالف العربي الانكليزي اذا صح التعبير. هذا الواقع كبدنا خسائر والمراجعة لسجلها منذ الحرب الاولى وانهيار الخلافة العثمانية وسعي الاقطار العربية الى الاستقلال وحتى ايامنا هذه، تجعلنا نجد اننا حققنا خطوات على مستوى الحداثة في التماهي والتشابه مع الدولة الحديثة ولكن المشروع القومي هُزم والمشروع الاسلامي هُزم.
{ هل هي مطالبة بعودة الدين الى الدولة واستطرادا رجل الدين الى الدولة والحكم؟
كلا، نحن في هذا المنظور لا نطرح مشروع اقامة دولة دينية ولا مشروع قيام دولة ملفقة من دينيين وزمنيين ولا مشروع اقامة دولة دينية بالمعنى المألوف. اذا اريد اقامة دولة دينية من منطلق توفر معطيات اقامة مثل هذه الدولة فهذا أمر طبيعي كما هي الظاهرة الموجودة الآن في ايران. ولكن هذه يجب ان تكون نتاجا طبيعيا عفويا حرا لمضمون داخلي عند الشعب لا ان تفرض عليه بقوة السلاح او بتنظيمات منفصلة عنه، كما مثلا تحصل الآن المحاولة الموجودة في الجزائر او بعض المحاولات الموجودة في اقطار عربية او اسلامية اخرى.
عاد الشيخ شمس الدين الى اساس الموضوع ليؤكد:
المتحد القومي الاسلامي يدعو الى حالة مصالحة. انا قلت مرارا بأن الاسلام بعد القرن الرابع الهجري لم يعد مشروع اقامة دولة بالمعنى المألوف، اي انه لا يشكل حكومة اسلامية، ليس لأن ذلك ليس من مقاصده، ولكنه ليس أعظم مقاصده. الاسلام هو مشروع تغييري في عمق الامة وفكرها وتشكيلات البناء يمكن ان تترك للاختيار. وأنا اتبنى نظرة ولاية الامة على نفسها وهي تختار لنفسها الصيغة الملائمة.
{ انت تطرح طرحا نقيضا للطرح الايراني، أقصد موضوع ولاية الفقيه؟
لا، لماذا نفهم الامور بهذا الشكل، توجد نظرة فقهية في موازاة نظرية فقهية ثانية. النظرية الفقهية التي نتبناها ولنا عليها براهين كثيرة ان الامة هي ولية على نفسها وانها تختار لنفسها ما يناسبها في الاطار التنظيمي السياسي بما لا يتنافى مع التشريع الاسلامي الذي يكون هو شرعها في المجال التشريعي اما في المجال التنظيمي فتختار الامة لنفسها.
{ الدعوة الى المتحد بهذا المعنى هي أشبه بدعوة الى ميثاق وليس إلى نُظُم؟
عندي تصور لصيغتين: صيغة ان نقول هنا يوجد اسلاميون وهنا يوجد قوميون ويوجد حزبان وهما ينشآن ميثاقا للتعاون ويؤلفان مجتمعا سياسيا واذا امكن يؤلفان دولة توافقية او جبهة او حكومة اتحاد وطني. هذا تصور باعتقادي خطأ. لا يوجد في تصوري قوميون غير مسلمين ولا يوجد مسلمون غير قوميين. المتحد هو ان نقول هناك قومية مشبعة بالرؤية الاسلامية واسلام يستوعب الرؤية القومية لأنه يوجد اسلاميون يتنكرون للقومية او قوميون يتنكرون للاسلام، ومن هنا تنشأ عندنا حالة واحدة لأنه يوجد جبهتان ولكن اذا اريد ان يكون هناك فئتان فليكن. القواسم المشتركة بينهما هي مساحة واسعة جدا، اما الدعوة الى المتحد، كما يعبر عنه لفظه، هو متحد وليس تحالفاً. القومية يجب ان تستبطن الاسلام ومشكلة العرب غير المسلمين تحل عبر الدخول في الصيغة باعتبارهم يمثلون مظهرا حضاريا كعرب، كقوميين.
{ هذا يعني ان خيارهم صار محسوما فإما ان يكونوا قوميين او خونة ومرتدين؟
لا، هذا الخيار يتسع لأن يكون فيه غير قوميين وغير مسلمين ولكن صلب المجتمع هو ان يقوم على هذا المتحد. ايضا التنظيم السياسي يقوم على هذا. في هذا الاطار توجد جماعات لها خيارات فكرية اخرى.
{ تقيم حكما ذاتياً أليس كذلك؟
لمَ لا؟ في النظرية السياسية، الدولة الاسلامية ليست احادية السلطة ومركزية ومدمجة بحيث تمنع أو تلغي كل التنوعات في الداخل. تصوري حتى لحكومة الرسول انها كانت صيغة متطورة جدا لما يعرف في هذه الايام بالفيدرالية، يوجد نوع من الوحدة في السياسة الخارجية او في الدفاع والمال والثقافة بالتأكيد، لكن في الشؤون الاكثر خصوصية من هذه الامور العامة كان يوجد اطلاق حرية داخلية للاقوام داخل الاطار التنظيمي للامة. المجموعات او القبائل داخل البنية العامة كانت تتمتع باستقلالية كبيرة في شؤونها الدخلية في ذلك الحين. الاسلام لم يذوّب التنظيم القبائلي.
{ هل يوفر عناصر الامان لهذه المجموعات؟
بلا ريب. الامان في منظوري لا يأتي بالكلام بل نتيجة صيغ مؤسساتية. الآن نحن لا نتحدث عن دولة قومية بل نتحدث عن تنظيم أمة لها دول. نحن في عالم عربي يتكون من اكثر من 20 دولة ولكن هذه العشرين دولة كما تلاحظ في السياسات المتبعة ازاء المشروع الصهيوني، هي لا تتصرف بروح امة بل بروح دول وأنظمة ومصالح منفضلة عن بعضها البعض. مهمة مشروع المتحد ان يعيد اللحمة الى داخل الامة.
(التتمة ص4)
أكثريتان ولا أقليات
{ ألا تعتقدون ان الدولة المدنية تحل المشكلة؟
الدولة المدنية على مستوى الامة الآن، هذا امر صار في حكم الغيب. موضوع المتحد هو مشروع اعادة تكوين للعلاقات داخل الامة بين مجموعات فكرية وثقافية، وبالنسبة للاقليات انا عندي اطروحة مفادها انه لا توجد اقليات. في العالم العربي توجد اكثريتان: اكثرية مسلمة فيها عرب وغير عرب، اي اكراد وتركمان وغيرهم وتوجد اكثرية عربية فيها مسلمون وغير مسلمين، اي مسيحيون ويهود وملل اخرى. وانا اعتبر ان مقياس كل حضارة يبدأ بدرجة قبولها للآخرين او نفيها للآخرين. ومن هنا اعتبر تفوق الحضارة العربية الاسلامية على الحضارة الغربية والحضارات السابقة.
إذاً الهوية الثقافية مصونة ونلاحظ ازدهارا كبيرا فيها.. يعني الخوف من الاندثار السياسي وان حقوقهم السياسية تهتضم غير وارد. في تصورنا للدولة يجب ان يشاركوا بكل فاعليتهم فيها. المشاركة ليست مجرد انتخاب انما حقوق المواطنة بكل معنى الكلمة موجودة طالما لا تكون هناك دولة دينية بمعنى دولة خلافة او امامة حينئذ يفتح باب المشاركة لأن الوضع التنظيمي يخضع لاعتبارات ولاية الامة على نفسها وأقول وانا اثير هنا نقطة حارة وقد يخجل البعض من اثارتها انه في الشرع الاسلامي لا يتولى غير المسلم على المسلم هذا صحيح ولكنه صحيح فقهيا في دولة خلافة. فمن قبيل ان المرأة لا يحق لها ان تتولى مسؤولية سياسية او قيادة سياسية، انا أثبتُّ في كتابي عن اهلية المرأة ان المرأة لها ان تتولى المناصب جميعا، وحتى رئاسة الدولة.
تارة نلحظ هذه الامور في ظل دولة الخلافة التي كتب عنها علماء الكلام والفقه السياسي في الاجيال الاولى، ما يسمى فقه الاحكام السلطانية. هذا وارد. دولة دينية تقوم على مفهوم لاهوتي وكلامي معين ويحكمها شخص ومدمجة فيها كل السلطات والتشريع ليس في يد احد انما هو لله ولكن ايضا تفسير التشريع وتقديمه يكون ايضا بواسطة هذا الفرد او مجموعة صغيرة. نقول نعم اما في دولة سموها مدينة تنتجها الامة بولايتها على نفسها. المسلمون يحتفظون فيها بولاية الشريعة عليهم وهي تنتج قوانينها التنظيمية والاقتصادية. يمكن لأي غير مسلم ان يتولى اية مسؤولية. من هنا لا أرى اي سبب يدعو للخوف من ان هؤلاء يمكن ان يندثروا سياسيا او حضاريا. وقد وصل الامر ببعض دول الخلافة او السلطنة الاسلامية ان يهودا او نصارى تولوا مسؤوليات وصلوا فيها الى مستوى الوزير الاول في مصر وغيرها. الامر يتسع الى كل هذا. الخوف مم؟ القول بأنه لأننا اقلية يجب ان نحكم الاكثرية حتى نصون انفسنا، هذا المنطق لا يمكن القبول به.
في لبنان
{ هنا تتحدثون عن لبنان بالذات؟
نعم صرنا نتكلم عن لبنان وهذا المنطق لا يمكن القبول به، ومن هنا لا أشعر انا بأية مخاوف في ما لو تشكلت مجتمعات وأنظمة سياسية على قاعدة المتحد، علما ان هذا المتحد. بمضمونه الاسلامي الفقهي وبمضمونه القومي يحترم تنوعات الآخرين. الآن تحترم في الغرب عموما ولا سيما في الولايات المتحدة خصوصيات الأعراق في ضمن سياسة الدمج ولا ينال الجنسية الاميركية الا من كان يتقن اللغة الانكليزية. اما في دولة عربية اسلامية وفقا لهذه النظرة فان مجرد الانتماء والقبول بمبدأ المواطنة يسمح بحمل جنسية تلك الدولة.
تناقص عدد المسيحيين المشرقيين
{ هناك ظاهرة مقلقة وخطيرة وهي تناقص أعداد المسيحيين في لبنان والأردن وفلسطين والعراق ومصر ولا سيما في الدول المشرقية، ألا يشكل ذلك خطرا على مكونات الأمة نفسها واستطرادا على العلاج الطويل الأمد، ماذا يمكن لنا ان نفعل للحفاظ على عناصر ومكونات الأمة؟
في ادراكي هذه الظاهرة خطيرة جدا ولا أستطيع ان أحدد المسؤول عنها انما سأتكلم بصورة افتراضية ومن واجب العرب المسلمين ان يحولوا دون ذلك. وانا اعتقد ان هجرة اي جماعة مسيحية من دولة او مجتمع عربي هو فشل لهذه الدولة او هذا المجتمع. وأنا ابدأ بنقد الذات، اي بنقد العرب والمسلمين.
النقطة الثانية هي دور الاجانب، ترى أليس هناك من دور وأثر للحركة الصهيونية او لبعض سياسات العالم الغربي في تكوين مخاوف او قناعات بالهجرة والانفصال عن المجتمع العربي. انا أميل الى تصديق دعوى ان هناك عملا منهجيا لتفريغ المجتمعات العربية من المواطنين المسيحيين.
الامر الثالث هو السياسات الداخلية لهذه الجماعات، ترى هل القيادات الدينية والثقافية لهذه الجماعات بريئة من خلق الظروف والقناعات التي تجعل القاعدة تبحث عن مصير خارج مجتمعاتها؟
هذه العوامل الثلاثة مسؤولة في آن معا وانا ادعو الى فحص ذاتنا اولا، اي العامل الأول قبل اتهام الآخرين، وهذه مسؤولية مؤسساتنا الفكرية والثقافية والقومية والدينية كما هي مؤسسات دولنا. يعني يجب على الدول العربية ان تضع سياسات تخلق حوافز عودة للنازحين وحوافز استقرار لمن لا يزالون.
لا أخاف على الاسلام
{ هل ينتابك في داخلك خوف على الاسلام؟
كلا أنا لست خائفا أبدا.
{ بمعنى ان الاسلام صار من الماضي المتخلف وانه غير قابل للتقدم، وفهم العصر؟
كلا انا خائف على الدين الاسلامي من بعض السياسات الدينية. وانا لا أخاف على الاسلام باعتباره مشروعا حضاريا لهذه الامة.
أنا انظر للمسألة من زاويتين: ترى هل نخاف على الاسلام باعتباره عقيدة للمجتمع، أم نخاف على الاسلام باعتباره حضارة للمجتمع؟ هل نخاف على الاسلام من سلوك المسلمين ام نخاف عليه من السياسات الخارجية الغربية ضد الاسلام؟ أنا لا أخاف على الاسلام باعتباره ثقافة. نعم يساورنا قلق على الاسلام باعتباره صيغة حضارية للمسلمين.
{ اذا تجمد الاسلام بصورة نص يردد بغير فهم فكأن العرب يصبحون أعاجم يقرأون كلاما لا يفهمونه؟
هذا الخوف له ما يبرره وأنا أوافقكم الرأي على ان هذا احد مصادره هو التكلس الذي يمنع الاسلام ويحول بين الاسلام وبين اعادة صياغة حياة الناس. نعود الى مصادر الخطر الاخرى. يوجد خطر على دور الاسلام من المسلمين انفسهم وهذا أمر أحذر منه دائما في نطاق الحركات الاسلامية العالمية والقومية والوطنية بالتحذير من جعل الاسلام مشروعا في مواجهة المجتمع كما نلاحظ الآن في اماكن كثيرة.
{ منها لبنان؟
كان هذا الخطر موجودا وبعض التعابير لا تزال موجودة، لكن في الجزائر هذا الأمر شديد الوضوح ونحن طالما حذرنا مما يجري في الجزائر حتى قبل ان يقع. ربما بعض الحالات في مصر تمثل هذا الخطر.
ضد وصول الإسلاميين إلى السلطة
{ في السودان ايضا؟
كدت اقول عن السودان لكن أنا لا أدعي انني عظيم الخبرة بالوضع الداخلي للمجتمع السوداني لكن حالة القلق موجودة. هذه أخطر قضية تواجه الحركة الاسلامية المعاصرة اي قضية تقديم الاسلام كمشروع للامة بالرغم عن الأمة وبأساليب تجعل منه حركة مواجهة للمجتمعات، ومن ذلك موضوع استعمال العنف سواء ضد المجتمع، ضد ما يسمى الفساد او الانحراف او الكفر او الفسق، او ضد الانظمة او ضد الجماعات السياسية التي يكون هناك خلاف معها سواء كانت اسلامية او غير اسلامية. ونحن نعتبر على أساس فقهي محض بعيد عن السياسة بعدا مطلقا ان استعمال العنف في هذا المجال أمر غير مشروع اطلاقا.
وأنا اقول ليس في لبنان فقط بل في كل العالم الاسلامي انا ضد فكرة ان الاسلاميين يدخلون الى الحكم في المطلق. الاسلاميون، الى مدى لا نستطيع الحكم على أفقه التاريخي، هم مشروع ثقافي.
{ وليس مشروع سلطة؟
ليس مشروع سلطة على الاطلاق.
{ تقصد ان الاسلام ليس مشروع سلطة وليس الاسلاميين؟
الاسلام في المجتمعات القابلة والموافقة ممكن ان يصير مشروع سلطة كما نلاحظ في النموذج الايراني ويبقى على القيمين عليه ان ينجحوا. هذه مسألة بشرية، لكن في المطلق لا نستطيع ان نقول انه مشروع سلطة ولذلك نصيحتي الدائمة الى الجماعات الاسلامية ان لا تدخل في اي آلية من آليات السلطة ابتداء من »المخترة« الى الحاكمية الاولى.
الحركة الإسلامية مشروع ثقافي
{ ولكن بهذه الطريقة نحول هذه الجماعات الى جمعيات خيرية؟
لا ابدا انما أحولها الى مشروع ثقافي تغييري للامة. الرسول الاكرم في الثلاث عشرة سنة الاولى من عمر الدعوة لم يكن ابدا جمعية خيرية. كان مشروعا تغييريا. نحن مفتونون بفكرة لعلها من الغرب وانا لا أحب عادة ان نحمل مسؤولية كل ازماتنا ومشاكلنا للغرب وهي ان النجاح يتمثل بأن نحكم الناس وفي درجة او مساحة سيطرتنا عليهم وتحكمنا بمقدراتهم. من يقول هذا؟ لماذا نتصور انه اذا لم نحكم سنكون مجرد جمعيات خيرية. قوى التغيير العظمى في التاريخ لم تكن ابدا قوى حاكمة او سلطوية. المجتمعات الاوروبية لم تغيرها الحكومات من فوق انما القوى الثقافية من داخلها وبعد ذلك تمظهرت فيها الحكومة كنتاج طبيعي. المطلوب تكوين العقل الداخلي للامة، العقل الخاص، العقل العام وأنا أقول ان إيران تبقى خارج حوارنا لانها تمثل حالة فريدة لا أظن ان لها مثيلا في كل العالم الاسلامي ويقال ان السودان مثلها وأنا لست متأكدا من ذلك.
{ هل نجحت التجربة في ايران؟
حتى الآن، نعم، نجحت على صعيد مشروع الدولة. على صعيد مشروع المجتمع تواجه مصاعب نمو وتحول موجودة في كل العالم الثالث، درجة نجاحها لست مؤهلاً للحكم عليها انما تخضع لمعايير احصائية ليست في متناولي الآن.
{ هل هي شهادة للإسلام اذا صار دولة ام شهادة عليه؟
بوجوه كثيرة هي شهادة له.
{ وماذا يحول دون التعميم؟
التعميم مستحيل. الخطأ الذي وقعنا فيه جميعاً وانا احب ان اجمل نفسي مع الكل ان التجربة الايرانية تمثل انعطافاً كبيراً وانه يمكن تعميمها وتطبيقها في كل العالم الاسلامي. حتى من منطلق كلامي مذهبي التجربة الامامية الشيعية الاثني عشرية التي تقوم على فكر كلامي معين في ايران يمكن ان تطبق ولكن بصيغة الكلام الفكري الأشعري في دول ومجتمعات اسلامية اخرى تبين انها وهم.
وانا نصيحتي دائماً ولا تزال لأي حركة اسلامية ان لا تجعل السلطة هدفها. هدفها ان تكون حركة تغيير متأنية في داخل الأمة. فكرنا الاسلامي يقوم على التدرج وعلى المرحلية اما حرق المراحل فهو جريمة في الاسلام. وكون الاسلام يواجه خطراً على نفسه وعلى الأمة فان اول خطر ينشأ من داخله من رؤية الحركات الاسلامية لدورها بأنها مشاريع سلطة. يمكن ان تكون مشروع سلطة لنفسها. الحزب مشروع سلطة لنفسه اما ان يدعي بأنه مشروع سلطة للأمة وانه يفكر بالنيابة عنها وانه يملك الحقيقة المطلقة بالنيابة عنها فهذا الأمر نحن لا نرضى به. الجهة الأخرى وراء الفشل هي عمل الغرب. نحن نخطئ والغرب يمنهج خطأنا ويستثمره. وأنا اعتقد ان الكثير من الفشل في المشروع الاسلامي المعاصر يرجع الى سياسات الغرب وحالة العداء غير المبررة لهذا المشروع لا باعتباره مشروعاً سياسياً بل باعتباره مشروعاً ثقافياً.
التجربة الإيرانية
{ لماذا التجربة الايرانية بصرف النظر عن نجاحها مقبولة مبدئياً وفي الجزائر غير مقبولة؟
الفرق واضح، في ايران يوجد مسلمون والشعب الايراني اسس دولته بمعزل عن الشاه، كانت توجد في ايران دولتان، دولة ايران الحقيقية التي تنتظم على الاقل ربما 90 في المئة من الشعب الايراني، وكانت توجد دولة الشاه التي تمثل السقف او القناع. ايران الاسلامية كانت موجودة تحت ظل الشاه وجيشه. ولم يستطع الشاه استخدام الجيش، ليس لأنه لم يرد ذلك بل لأنه لم يستطع، لأن الجيش في النهاية ليس مجموعة ضباط تربّوا على فكر التغريب انما من ابناء القرى والأرياف الذين ينتمون الى الأمة. لو استخدم الجيش كان تفكك وانهزم. ما حدث بالتالي ليس تغيير مجتمع، هو تغيير سلطة ونظام. ايران التي تنتمي الى مئات السنين من هذا التقليد انجزت دولتها. كانت حبلى وولّدت دولتها.
الجزائر
{ هذا ينطبق الى حد كبير على الجزائر؟
لا لا أبداً، ايران الشعب مسلم ايديولوجي أي انه مؤدلج بفكر الدولة بكل معنى الكلمة في تنظيماتها وجمعياتها وفي الادعية والمقامات التي يزورها الخ… اما في الجزائر فيجب ان نعود الى الوضع قبل الاستعمار الفرنسي. في الجزائر يوجد جيل خامس او سادس تربى في مناخ الاستعمار الفرنسي، مناخ الفكر الغربي، هو بين انسان ريفي منعزل عزلة كاملة حتى عن الاسلام وبين نخبة مثلها الأعلى روسو وأمثاله ونموذجها باريس. الشعب الجزائري كان يحمل القيم الغربية وتكون طيلة ما بعد الاستقلال من أيام احمد بن بلّه الى حين الانتخابات المشكلة، على الفكر الغربي. نعم عربوه أي ادخلوا العربية اليه. عندما جاءت الانتخابات الاخيرة لم ينجح الاسلاميون باعتبارهم اسلاميين انما كان صوت الناخب لاسقاط حزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية وليس لانجاح الاسلامي. يعني كانوا يريدون التخلص من جهة وليس انجاح جهة. كانت نصيحتنا لهم ان يدخل الى مجلس النواب بنسبة 10 في المئة او 20 في المئة ولكنهم دخلوا بالنسبة التي دخلوا بها والشعب الجزائري لو كان يريدهم لما طالت الأزمة الى الآن. تماسك الجيش الجزائري برهان على كلامي وهو يجند الشبان كل سنة من ابناء الذين انتخبوا الاسلاميين. من هنا تحولت المشكلة في الجزائر الى مواجهة داخل المجتمع وليس بين المجتمع وبين نظام او بين حركة سياسية وبين نظام وولدت المأساة الجزائرية.
السنّة والشيعة
{ هل يمكن ان نستخلص ان بمقدور الشيعة ان يقيموا دولة دينية وانه ليس بمقدور السنّة ذلك اذا اخذنا ايران من جهة والجزائر من جهة أخرى؟
ترى ايران لانها ذات اغلبية شيعية نجحت او لانها امر آخر؟ ترى لو ان ايران كانت ما تزال سنّية ألم يكن من الممكن لها ان تنجح؟ في افغانستان مثلاً وهي ذات اغلبية سنّية الوضع ناجح على مستوى انتاج دولة اسلامية على النمط الايراني لكن بصورة سنّية الا ان سبب الفشل هو الصراع الداخلي، ولو أن ايران واجهت الصيغة نفسها للصراع لكانت مثل أفغانستان. أنا لا اعتقد ان الموضوع له علاقة بشيعة او بسنّة.
لاحظوا اذا اردنا ان ننسب الى نظرية ولاية الفقيه الفقهية المشروع السياسي، نجد ان المشروع السياسي قد نما قبل ولاية الفقيه واذا لاحظتم ان الصيغة التي تولى رجال الدين فيها الحكم مباشرة بعد خروج المدنيين وقبل ان تظهر للعلن نظرية ولاية الفقيه باعتبارها الأساس للتنظيم أي للمشروع التنظيمي والسياسي للدولة، علماً انه عند السنّة هناك قسم يتبنى نظرية ولاية الفقيه. وأنا ألفت النظر الى ان كثيراً من فقهاء السنّة يذهبون الى أن »ولاية الأمر« المنصوص عليها في القرآن الكريم: »أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم«، تعني ان أولي الأمر هم الفقهاء.
{ تقصد ليس الحكام؟
ليس الحكام. قسم يرى انهم أمراء الجيوش والولاة والفقهاء وقسم يرى انهم الفقهاء. اذن لا نستطيع القول ان الفكر او الفقه الشيعي او الانسان الشيعي يمكن ان ينتج حكومة اسلامية والانسان السنّي لا يمكن ان ينتج أنا اعتقد ان الظروف التنظيمية والثقافية في المجتمع هي التي تختلف، يعني الجمهورية الاسلامية الايرانية هي اعلان لفشل مشروع التغريب في ايران اكثر مما هي اعلان لنجاح الفكر التنظيمي الاسلامي في ايران. اذاً مشروع التغريب في ايران قد فشل.
الشيعة العرب
{ ننتقل الى المحور الثاني في حوارنا وهو محور الشيعة العرب وقد لعبتم في الفترة الأخيرة دوراً ربما هو غير مفهوم تماماً من الناس في موضوع الشيعة وعلاقتهم ببعض السلطات والأنظمة. هل هناك شيء اسمه الشيعة العرب، أليس هذا فصلاً للشيعة عن مجتمعاتهم وهل هذا لخير الشيعة ان يعاملوا كخلية مذهبية ام انه علاج لمشكلة مزمنة ومحاولة لدمج هذه الفئات داخل مجتمعاتها ومصالحها مع السلطات، ما هو منطلقكم في هذا الموضوع؟
مصطلح شيعة عرب ينطلق من واقع موضوعي حيث يوجد شيعة عرب.
{ شيعة عرب او عرب شيعة؟
لا فرق، يوجد عرب تمذهبوا بمذهب معين، الشيعة بكل انتماءاتهم القومية التاريخية واجهوا مشكلة انفصال عن مجتمعاتهم، قسم منها نتج من سلطات وجماعات ثقافية في المجتمعات غير الشيعية وقسم نتج من داخل الشيعة أنفسهم اذ أنهم ميَّزوا أنفسهم عن مجتمعاتهم. ولعهد طويل وعريق في التاريخ، ولأسباب لا يتسع المجال لذكرها، اعتبر الشيعة بمثابة منافس سياسي محتمل دائماً للقوة او الفئة الحاكمة. لا داعي للخوض في الأسباب، انما هذا خطأ مأساوي ومدمر. حدث داخل الاسلام وأدى الى ان يعزلوا، والى ان يعزلوا هم أنفسهم، ومن هنا تعرضوا لخطر الانغلاق والانفصال عن مجتمعاتهم. هذا الأمر واكب الوجود الشيعي طيلة العهود التاريخية ودخلنا في العصر الحديث على هذا الأساس. واجهنا هذا الأمر اكثر ما واجهناه في العالم العربي ولم نواجهه في ايران لأن اغلبيتها شيعية، ولذلك أقول في كل معادلة باستثناء ايران، في تركيا يوجد، بشكل او بآخر، وفي شبه القارة الهندية وفي افغانستان وجد وحيث كان هناك شيعة وجد.
إتُهِمَ الشيعة في العصر الحديث بعد نمو فكرة القومية وبعد انتاج الكيانات الوطنية، الشيعة استهدفوا دائماً باتهام تارة بأنهم ينتمون الى عرق غير عربي وتارة بأنهم يحملون ولاء سياسياً لغير مجتمعهم وتارة بأنهم يحملون ولاء دينياً لغير مجتمعهم. وهذه الأمور انعكست على البنية التنظيمية للشيعة في داخل الأمة وعلى طريقة مشاركتهم في صنع مصائر أوطانهم. واجهنا حالة تمييز واضحة وفي العقود الأخيرة أيضاً مع نمو الحركة الاسلامية في العالم وانخراط الشيعة فيها وما رافقها من فكر وممارسات العنف وتزامنت هذه مع الثورة الاسلامية وتشكيل الجمهورية الاسلامية في ايران والتصق بالشيعة مفهوم الارهاب.
{ يعني ان المعارضة صارت ارهاباً؟
اتهام قابل للنقاش. انا لا اريد ان اتحدث الآن عن معارضة الحالة الشيعية في العالم العربي حالة يمكن تسميتها معارضة ويمكن تسميتها اضطهادا او خطأ وضعوا فيه. حتى لا استطيع ان اسميها معارضة لأن أي معارضة تنبني على أساس مذهبي تفقد شرعيتها. المعارضة هي عمل سياسي راقٍ جداً.
ترافق هذا الأمر مع حالات تنظيمية ونحن شعرنا بمسؤولية او مشكلة مزدوجة، مشكلة ان الشيعة ينظرون الى انفسهم نظرة أنا لا اعتبرها نظرة صحية وهي بالتعبير العامي أنهم »غير شكل« او اسلام »غير شكل« ووطنية »غير شكل« الخ… بينما هم في واقع الحال ليسوا »غير شكل« انما مثل شكل غيرهم. كان يوجد حالة تمايز وامتزجت بشعور بالاضطهاد والمظلومية وهذا أمر خطر ويدمر صاحبه. وأنا عملت وما زلت على انه لا يجوز هذا الأمر فالشيعة ليسوا »غير شكل« الى أي قومية إنتموا وانا أحارب أيضاً أي توجه ثقافي موجود في الغرب وأنا لاحظته خلال زيارتي العام الماضي لأميركا وكندا يحاول ان يدرس الشيعة باعتبارهم حالة خاصة. وأسأل: لماذا لا يدرس الأحناف او الحنابلة او الشوافع باعتبارهم حالات خاصة؟ وأنا اعتبرها نية سيئة وخطأ يقع فيه الشيعة أنفسهم اذا قدموا أنفسهم على أساس أنهم حالة خاصة. أن أقول أن الشيعة هم مذهب من أصل عشرة مذاهب وأنا أحارب كل من يحاول أن يدعي أن هذا هو الواقع. السنّة أيضاً اخطأوا بأن تقبلوا هذه النظرة وأعطوها نظرة أنها يجب أن تحارب قبل أن تصل الى المؤسسات.
المسألة الثانية ليست ناشئة من الشيعة بل من الآخرين وهي اعتبار الشيعة بمثابة مشروع ينتمي الى خارج الوطن والقوم. نسترجع الآن الموقف التركي من الشيعة العرب مثلاً أمام السلطان سليم. أنا لا أقبل باعادة هذا التاريخ. من هنا، لا يوجد عندي مشروع شيعة عرب وأقول للشيعة كلهم، عرباً وافغاناً وأتراكاً وهنوداً، بأنكم لستم »غير شكل«. انتم تنتمون الى مجتمعات، وهناك شبكة علائق في المجتمع تنتمون اليها. أطلب الاندماج بهذه الشبكة والموالاة لهذه المجتمعات والاحساس بمشكلاتها والمشاركة في تحمل مسؤوليات هذه المشكلات. لا أريد ان يكون هناك شيعة سعوديون لديهم مشروعهم خارج المجتمع السعودي وكذا في الكويت والعراق ولبنان وسوريا. يوجد مجتمع عربي في السعودية وغيرها.
يقول البعض: حصتنا لم نأخذها فكيف نقبل؟ أقول لهؤلاء اقبلوا! وأنا لا أدعو الى اثارة مشاكل انتماء لأنه ينقصنا خمسة موظفين. يجب إلغاء حالة الشك والنظرة المختلفة وبأنه في الوجه نتكلم بشيء وبالخفاء نقول شيئاً آخر. أنا كنت دائماً أقول عن المجتمعات الطائفية اللبنانية انها مجتمعات تآمرية. كلها مجتمعات تآمرية ابداً، في الصحافة نقول شيئاً وفي المجالس الخاصة نقول أشياء مختلفة.
اقول من على منبر »السفير« لابنائي الشيعة والسنة ان هذا النهج هو نهج ائمة أهل البيت وأنا اوصي ان تقرأ رسائل الإمام جعفر الصادق الذي ينسب إليه تيار التشيع الى عموم الشيعة. أن كلامي هو ترجمة معاصرة للمواقف الفقهية للإمام جعفر الصادق الذي يدعو الشيعة إلى الغاء التمايز وان يكونوا نخباً مندمجة في مجتمعاتهم.
ايران فاتيكان الشيعة
{ الملاحظ ان هناك شعوراً بالخوف يتزايد عند الشيعة في العالم العربي والاكثرية الحاكمة تتعامل معهم على أساس تحويلهم الى اقلية. هل هناك محاولة لجعل ايران فاتيكان الشيعة العرب؟
هذا الامر لا نوافق عليه. ايران دولة إسلامية واقليمية كبرى ويجب ان تتمتع بكل حقوق الدولة الكبرى في منطقتنا. اطروحة ان هناك أمنا في المنطقة من غير ايران لا يمكن تصورها. والعالم الغربي يجب ان يرى الامور على حقيقتها ولكن كون ايران هي مرجعية دينية للشيعة اولا أنا لا أراها كذلك وقد عبرت عن ذلك مرارا فلا هي مرجعية دينية ولا سياسية. ايران دولة إسلامية نحترمها ونقدرها وتستحق منا الدعم حينما تواجه صعوبات سواء باعتبارها ايران المسلمة او ايران الايرانية لانها تواجه مشروعاً عدوانيا ضدها سواء بحكاية »الاحتواء المزدوج« او اي مشروع آخر يستهدف سلامتها الداخلية او الاقليمية ومن هذه الناحية نرى الامور تماما، اما ان نسلم بمرجعيتها فحينئذ ينبغي التسليم الى مرجعيات اخرى ولاقوام آخرين في المنطقة وهذا سيخلق حالات مواجهة أنا لا اعتقد انها في مصلحة الايرانيين وهو بالتأكيد ليس في مصلحة لا الشيعة ولا غيرهم، وحتى ليس في مصلحة المشروع الاسلامي ونحن نرى ان هذه النظرة التي سوق لها البعض وأنا لا انسبها، لايران انما انسبها لبعض الناس المنتفعين من الانتماء الى ايران، هذا التسويق انتج سلبيات على كل الوضع الشيعي وليس في العالم العربي فقط والمثال على ذلك ان احد ابعاد المشكلة الافغانية حاليا هو هذا الواقع. ايران فاتيكان؟! اصلا مشروع الفاتيكان ناشئ من طبيعة العقيدة نفسها وما تفرضه من تراتبية في المسألة الدينية والايمانية. في الاسلام هذا الامر غير ممكن وإلا تصبح مصر فاتيكان السنة او السعودية او الباكستان فاتيكان سنة آسيا. المطلوب الآن ليس خلق جزر نتحاجز بها انما المطلوب خلق اجواء ثقة واعادة الاعتبار للروح العامة، اما خلق جزر هنا وهناك فيجوز ان يفيد في منبر المناورة اما في الاستراتيجية، ونحن نواجه الآن خيارات استراتيجية، فإن هذا الامر لا يجوز وما نحتاج إليه هو كفاءة تنظيمية افضل بكثير من السياسات الصغيرة وتسجيل نقطة هنا او نقطة هناك.
مرجعية شيعة لبنان
{ من هي المرجعية العليا لشيعة لبنان؟
المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى.
{ هذه نقطة خلاف؟
دائما توجد نقاط خلاف حتى عند غير الشيعة. أنا انظر للامور هكذا والجمهور الشيعي ينظر للامور هكذا. أنا اعلم ان هناك جهة وربما اكثر من جهة لا تسلم بهذا الامر اما على عامة الناس فهذا شأنهم وهذه نظرتهم. يوجد وضع تنظيمي معين لا يقبل بهذا مثل كل جماعة دينية يوجد من لا يعترف بمرجعيتهم.
{ هل مؤسسة المجلس الشيعي قدمت شيئاً اضافياً لشيعة لبنان؟
باعتقادي ان المجلس اضاف الكثير للشيعة. كان المجلس وسيلة لنقل الشيعة من حالة الطاقة المبددة الى حالة الطاقة المكونة المتجمعة في الستينات وقادها حتى وصل إلى مرحلة معينة والآن الوضع التنظيمي للدولة والمجتمع في لبنان تغير عن تلك الفترة وبالتالي فإن وظيفة المجلس تغيرت عن تلك الفترة. الآن المجلس لا يعمل في السياسات التفصيلية. أنا لا ادعو المجلس الى الدخول في مثل هذه السياسات. المجلس قاد الشيعة سابقا إلى المشاركة. الآن المشاركة موجودة وهذا يعني ان هذا المشروع قد انجز. ترى هل المجلس يدخل كفريق شيعي بديل عن السياسيين او مواز لهم كما كان الامر في الستينيات والسبعينيات؟ أنا لا أرى هذا، وأرى بالمقابل ان يهتم المجلس بالمسائل الاسلامية الاستراتيجية الكبرى مثل المتحد القومي الاسلامي اي ان يدخل الشيعة الى اطر ينبغي ان يدخلوها او يخرجهم من حالات حرجة والقيام بدور مؤسسة الرقابة على المجتمع والدولة مثل سائر المؤسسات المماثلة او كما ينبغي ان تكون هذه المؤسسات. المجلس يمثل الآن رؤية ثقافية دينية حضارية للشيعة اللبنانيين خارج اطر التنظيمات الحزبية وخارج اي ولاء لغير الاسلام باعتباره انتماء دينيا وغير الولاء العربي باعتباره انتماء قوميا.
المجلس خارج السلطة
{ خارج السلطة؟
نعم خارج السلطة.
{ ولكن يبدو احيانا وكأنه جزء من السلطة؟
تارة نلاحظ ان المجلس ملتزم بمشروع الدولة. نعم المجلس ملتزم مشروع الدولة بلا تردد في مقابل كل المشاريع الفئوية. اما انه جزء من مشروع السلطة فأنا اعطيت توجيهاتي الى المعنيين في دوائر المجلس لجمع وثائق المجلس الاساسية والثانوية من لحظة التأسيس وصدور البيان الاول إلى آخر جلسة واطلب ان تجري دراسات لمعرفة درجة اندماج المجلس في صيغ السلطة وسياسات السلطة او معارضته لها او رقابته عليها وسيرى الجميع ان المجلس كان دائما الرقيب وفي كثير من الحالات كان معارضا وفي بعض الحالات كان داعما من منطلق ان هذا الموضوع ينسجم مع مشروع الدولة وليس مع مشروع هذا السياسي او ذاك او هذه الحكومة او تلك.
الشيعة والدولة
{ هل جرى التطبيع بين الشيعة في لبنان ومشروع الدولة بعد ولادة اتفاق الطائف؟
أنا اعتقد ان الشيعة صاروا من طوائف الدولة، وأنا انبه الشيعة ونخبهم قبل عامتهم ان احد رهانات العالم الغربي على وجود اسلام شيعي في مقابل اسلام سني وعندئذ لا يبقى من مسلمين.
{ ألا توجد خصوصية ثقافية عند الشيعة؟
على صعيد التمذهب الخاص فالتمايز موجود. الآن يوجد مساجد للشافعي والمالكي ويوجد شوافع يصلون وراء الامام المالكي. نعم أنا اقول للشيعة لماذا لا تصلون جماعة في المساجد الاخرى كما اقول للسنة لماذا لا تأتون الى الصلاة في المساجد المسماة مساجد شيعة. هذه الخصوصية الثقافية يجب ان نلغيها. توجد علامات ثقافية معينة متمايزة عند الشيعة مثل

Exit mobile version