طلال سلمان

حوار … على جدار انتخابي

قالت الصورة للصورة: أنت أحول!
قال الجدار للصورتين: أنتما بشاعتان!
* * *
قالت الصورة للصورة: أنت نصاب! كل الناس يعرفون أنك تتاجر بالممنوعات، وأنك تشهد زوراً، وأنك تبيع ملك غيرك.
قال الجدار للصورتين: لقد شوّهتما سمعتي!
* * *
قالت الصورة الأولى: أنت قواد! الطريق إليك تمر بزوجتك، مع استعداد لأن تخدم الرجال الآخرين بنساء الآخرين.. أفتجرؤ على مواجهة الناس؟!
ردت الصورة الثانية: أنا أعرف بالناس منك. أنا أقرب إلى الناس منك. إنني على قائمة حفلات الجميع، ونادراً ما التقيتك في سهرات النخبة. أنت مشغول بالسياسة وصفقاتها. تبيع من كيس غيرك، محتفظاً لنفسك بالنصيب الأوفر. أنا آخذ مالاً ممّن نهبوا غيرهم، وأنت تنهبنا جميعاً لأنك تصادر المال العام!
قال الجدار للصورتين: الزبالة التي تحت أنظف منكما!
* * *
قالت الصورة للصورة: أنت لا تشبه أصلك!
فقالت الصورة للصورة: ومتى عرفت أصلي وقد نسيته أنا؟!
قال الجدار للصورتين: لقد أضعتما لي وجهي!
* * *
قالت الصورة للصورة: أنا أعلى مكانة منك!
فقالت الصورة للصورة: أنا أقرب إلى الناس منك!
قال الجدار للصورتين: وهل تظنان أنني أنا الناخب؟!
* * *
قالت الصورة للصورة: صاحبي محامٍ كبير، وصاحبك جاهل بالكاد يفك الحرف.
فقالت الصورة للصورة: لقد فكّ كل الحروف، فبات صاحبك عاطلاً عن العمل!!
قال الجدار للصورتين: أنا الوحيد الذي يحمل الأثقال!
* * *
قالت الصورة للصورة: كنت وحدي هنا، ثم هجم التتار فأفسدتم عليَّ فرادتي.
فقالت الصورة للصورة: أما أنا فسعيدة بالعجقة. صاحبي اجتماعي يحب الزحام ويكره الوحدة، ثم إن ربطة عنقه هي الأغلى!
قال الجدار للصورتين: منعوا التظاهرات في الشارع وسمحوا بها فوق الجدران؟! أليس للجدران حرمة؟!
* * *
قالت الصورة للصورة: صاحبي قوي ومسنود ومرشح ليكون في »البوسطة«، أما صاحبك فنكرة، لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد، فلماذا هذا التطلع إلى فوق؟!
فقالت الصورة للصورة: أنت جاهلة.. صاحبي سائق البوسطة!
قال الجدار للصورتين: لأول مرة تمشي »البواسط« فوق الحيطان!
* * *
قالت الصورة للصورة: صاحبك قبيح الوجه، أصلع، وله عينا نشال، ولو ظهرت يده لوجدنا فيها محفظة مسروقة..
فقالت الصورة للصورة: أما صاحبك الوسيم فيبدو في عينيه البله، ولكأنه هو صاحب المحفظة المسروقة.
قال الجدار للصورتين: كنت أعيش بشرف حتى شرّفتماني!

 

عن الذين يكتبون على أرغفتهم

أقلام الفقراء اصابعهم، وعلى أرغفتهم كتبوا ويكتبون، وسكبوا على السطور نور عيونهم حيث لم يكن في منازلهم من الضوء ما يسهّل القراءة فكيف بالبحث والتدقيق والتمحيص وفك رموز الحرف الفرنجي؟!
رامز فرحات واحد من هؤلاء الذين ولدوا في قلب الفقر وتحدّوه واخترقوه صُعُداً متجاوزين اولئك الذين يباهونهم بشهادات عليا اشتروها بالثمن او جاءتهم على سطح السهولة واليسر.
في اواخر الخمسينيات، وبفضل الشهادات غير المكلفة مادياً، أمكن لطلائع »البعلبكيين« ان يقتحموا ابواب الجامعات التي لم يكن قد تعرف اليها إلا نفر من أبناء الوجهاء او بعض كبار التجار المستنيرين في المنطقة.
كانت الدفعات الأولى بمعظمها من المدرّسين في المدارس الحكومية، الذين اخذوا يقتطعون من رواتبهم تكاليف السفر لتقديم الامتحانات في دمشق او في القاهرة (ولا سيما ايام دولة الوحدة الجمهورية العربية المتحدة).
فلقد فتحت »الموحدة« و»التوجيهية«، وقد حلتا لطابور الفقراء ومتخرجي المدارس الحكومية، حيث مستوى تعليم اللغة الاجنبية بائس إجمالاً، عقدة البكالوريا القسم الثاني، المستعصية على هؤلاء الذين لا يعوضهم ذكاؤهم الفطري المعرفة التفصيلية بتاريخ اوروبا ومشاهير الأدب الفرنسي (وبينهم بعض من بنوا امجادهم عبر مواقف عنصرية من العرب، ولا سيما بعد اندحار العرب في معركة بواتييه التي مهّدت لخروجهم من الاندلس)..
وهكذا دخل بعض ذلك الجيل من ابناء الفلاحين الجامعات بملابس رجال الدرك والجمارك والمجندين في الجيش.
رامز فرحات من الجيل الثاني، لكنه وهو ابن البيئة المسحوقة بالفقر التي أنبتت قبله الجيل الاول، اصر على ان يستمر في حفر الجبل بأظافره، وأن يثبت انه ليس أقل اهلية او قدرة او جدارة من اولئك الذين مكّنتهم ظروفهم من الوصول الى اهم الجامعات، فدرسوا فيها ضمن شروط »طبيعية«.
وكجيله كله، لم يكن رامز فرحات يتحدى غيره. كان يتحدى نفسه. رامز فرحات أنجز الآن رسالته لنيل شهادة دبلوم الدراسات العليا في التاريخ، في كلية الآداب، قسم التاريخ في الجامعة اللبنانية بإشراف الدكتور ابراهيم بيضون.
وهو الآن ينافس أبناءه، خصوصاً وقد استطاع اكثر من واحد من بينهم ان يحصل على منحة دراسية نتيجة تفوقه.
»من الولاية الى الامارة في الاندلس« عنوان رسالة رامز فرحات، لكن عنوانه الشخصي هو: من قعر وهدة الفقر والبؤس والحرمان الى حيث يليق بكرامة انسان مجتهد، يتحدى ذاته كل ساعة فيتقدم خطوة الى الامام مصطنعاً مع ابناء جيله »بيت شاما« جديدة في الغيهب البعلبكي المسكون بالغضب والتخلف والقهر وظلم الذات، المتماهي مع ظلم ذوي القربى في »الدولة« وخارجها.

 

الراوية وهواجسه الممكنة

راوية هو، بعينيه، بملامح وجهه المحايدة، بيديه المتحركتين أبداً استكمالاً للمعنى المقصود، ثم بأسلوبه المتميز في السرد، قبل ان نصل الى القلم الذي يستوعب ذلك كله ويعيد انتاجه بقدر من الرشاقة، في مساحة يتجاور فيها المسرح والنص الاذاعي والتمثيلية التلفزيونية وحكاية آخر السهرة.
رفيق نصر الله لم يجد في عمله الصحافي المساحة الكافية لحكايته وقدرته على حبك المشاهد وسرد القصص، فجرب الشعر الذي يكاد يكون شرطاً للهوية في جبل عامل او امتيازاً لمن تستولده تلك الارض بمناخها المستثار دائماً بحس التاريخ في الارض التي طالما اصطنع فيها التاريخ.
وربما لأنه صحافي وعلى صلة بالسياسة اليومية، تغلغلت كلمات وصور طريفة ومن خارج اللغة الشعرية عموماً في منثوراته ذات الرنين الشعري، الحاملة اسم »هواجس الممكن«.
عن قانا، يقول:
»كل المدن قطفت غيلة،
لكن الصبية تابعوا السير
الى الحقل«
»لم يبق الا القليل
لم يبق في الجليل
الا قانا وصبيتي
سيفي ومقبرتي
أزهار الأمة نخلتي، امرأتي
وقارورة الموت..«
وربما عن وجع الجنوب او بوحيه، يقول:
»جاؤوا يحملون توابيت خيالاتهم
ساروا على وجع الجنازة نحو دمنا
صنعوا حائطاً في فضاء مبتور
لم نجد عدونا لأنه فينا..
كان يسكن النافذة ويمارس القنص على الوسادة«!
أما عن الحرية فيقول:
»ليست لها ابواب حمراء
ولا نوافذ،
لأنها.. لا تملك بيتاً«
ثم يقتحم الغزل اللغة العادية فترق الكلمات:
»السابعة والنصف
اغتسل الغروب على شرفتها
وجاء الليل،
ارتديت شفتها السفلى كي انام
فكانت شرفة السهر، وكان الفجر«
كل شيء »ممكن« اذا ما تخفف رفيق نصر الله من »هواجسه«، هكذا تقول الكلمات.

 

رسالة من امرأة حمقاء

تسلقت صوتك رعشة رعشة، ثم انطويت داخل اللهاث الاخير.
***
تهدهدني فوق أرجوحة الخدر، الى ان يجيء الصمت فيسحقني برد النسيان.
***
تطاردني النبرة الدافئة حيثما ذهبت. تعصف بكياني، تذروني تصرفات حمقاء في سديم الذهول. تجمعت كل حواسي، كل مشاعري، كل عواطفي، كل صباي، كل ابتسامات الياسمين، كل الطيش وأصناف الغواية، كل التمنيات في ثنايا الصوت الذي يعيد الآن تشكيل دنياي.
يرن في اذني حيث ذهبت، وكالمسحورة اتتبع صداه، فلا ألمح من الناس إلا اختلاف اصواتهم عن صوتك.
***
سأجبرك على ان تعيش حياتك.
أكسر قوقعة الزيف التي تجمعت فيها وعلى صدرك عريضة تتهم فيها زمانك بأنه قد ظلمك فرماك على هامش الحياة.
لي دمدمة العاصفة، ولكنني لستها. ليتني كنتها لأحملك الى حيث لا يعرف غيري.
أستعير من العاصفة دمدمتها ربما لأحمي نفسي منك، فلا تخف من قناعي الذي يباعد بين الناس وبيني.
أنت تعطيني الفرح فلماذا تمتنع عن استعادة بعض مما أعطيت؟!
لماذا تخافني وتحصّن نفسك ضد ضعفي؟
لماذا تحبسني في ادعاء القوة ثم تحبس نفسك داخل خجلك، فيصير كل منا غير ذاته، وتفتقد العلاقة حضنها.
سأقتحمك ولو بلغت أقصى الارض. سأستوطن عينيك فلا ترى إلا بي. سأسكن شعرك فأخز اي يد غريبة تمتد اليه. سأحمل إليك النوم حتى تغلق اهدابك عليّ فلا يكون لي فيك شريك.

 

خارج الحكاية

استمتعت برنين غضبك:
تناثر هياجك في الهواء هباءً، وردمته بلادتي.
للهو كلفته أيضاً.
تخيلتك تتنططين حنقاً، تسقط قهوتك من يدك، وتلطمين المرآة بعينيك فترد لك اللطمة بإعادة وجهك اليك قاتماً، مثلّماً بالتجعدات والغضون.
***
تتمددين عبر الكلمات فتملئينها بالمعنى.
تنطوين عبر حرف الجر، أجدك داخل حروف العطف وتكتمل بك أداة الوصل.
وها أنا أتعلم القراءة من جديد.
***
يتكدس الكلام أكواماً، فأتوه عنك.
أنقب حرفاً حرفاً ثم اذرو على الكلام رماد سيكارتي وأنام.
***
تجمع الكلام حكاية، وعندما استعدتها وجدت نفسي خارجها.

 

Exit mobile version