كل شيء هادئ في صالة الاستقبال الأنيقة على بساطتها، والتي لم تعرف الكثير من الضيوف: مقعد «السيد» يوازيه مقعد مفرد ثم كنبة تليها كنبة ثانية في زاوية قائمة، وصمت عميق يجلل المكان، تخرقه بين الحين والآخر أصداء حركة السير الآتية من بعيد.
جلسنا وقد استعدنا وعينا وإحساسنا بالوقت بعد الرحلة المضنية للوصول إلى المقر السري الذي يستبدل دائماً حتى لا يكتشفه العدو الإسرائيلي فيدمر (والمنطقة جميعاً) بوصفه «الهدف الأعظم والأخطر»: بطل الأمة، قائد النصر، حبيس العزلة، بينما الشتّامون والسفهاء، مثيرو الفتنة، مشوهو سيرة النضال الوطني، عملاء السفارات وأجهزة المخابرات «طلقاء» يعتلون المنابر، يتشقشقون ألسنتهم بالتشهير بالمقاومة وشهدائها، بإرادة الصمود وأبطاله، بالأهل من البسطاء الذين قدموا ويقدمون فلذات أكبادهم بلا منة. ثمة خطأ فادح، بل ثمة خطيئة مميتة لا تجد من يحاسب عليها في هذا الوضع الشاذ.
نتبادل الهمسات، من مواقعنا، حتى لا نخدش صمت التوقع ومهابة الموقف، قبل أن ينفتح الباب ليطل «السيد» مرحباً بابتسامة تشع وداً، فيغمرنا شعور عميق بالاطمئنان، ونغالب زهونا حتى لا يأخذنا بعيدا عن أصول الحوار الجاد والرصين.
… لكنه «السيد حسن»، «قائد الصمود»، «بطل الانتصار» على العدو الذي اندحرت أسطورة ادعائه بأنه «لا يُهزم»!. المناسبة استثنائية، إذاً، بالفرصة المتاحة للتخفف من سفاسف السياسة اليومية والمواقف المرتجلة بالطلب، والتوغل في صلب وقائع الحاضر بدروس الماضي فيها مما يمكنك من أن تطل على المستقبل وأنت أكثر ثقة بقدرتك على الانجاز متجاوزاً خرافة الاستحالة.
أنت الآن في حضرة واحد من صناع التاريخ الحديث لهذه الأمة المستهدفة في وجودها بالتآمر والخديعة والأسلحة القذرة وأخطرها «الفتنة»..
أنت الآن مع «السيد»، وقد سعينا إليه في طلب الأجوبة عن أسئلة القلق على حاضرنا ومستقبلنا، في لبنان وقبله سوريا، في العراق وبعده الجزيرة والخليج، في مصر ومعها ليبيا وتونس، في الجزائر وفي اليمن على الضفة الأخرى.. وكل ما فيها وحولها يثير المخاوف على الغد الغامض والغارق في قلب الصعوبة.
قبل أن تباشر أسئلتك للاطمئنان على صحته، يسبقك «السيد» سائلاً عن الجميع، عائلاتنا وأسرة «السفير» جميعاً، مقدما التهنئة لمناسبة عيدها الأربعين: «كنت فتى عند صدور العدد الأول الذي لفت الانتباه إلى تجديد في الصحافة اليومية. كنا نقيم في كمب شرشبوك، عند الدورة، آنذاك..».
لم يكن بحاجة إلى شرح مستفيض لتبيان خطورة الأزمة التي تعيشها الصحافة في أجواء مناخات الحرب الأهلية التي تظلل البلاد، لكنه كان واثقاً بصمود «السفير»، متمنياً لها المزيد من النجاح في تأدية رسالتها برغم الضغوط والمصاعب، اقتصادية وسياسية وأمنية، وأخطرها الشرخ الذي ضرب البلاد ووحدة أهلها فعطل التواصل والتفاعل مغلباً الميل إلى المقاطعة والاستنكاف عن القراءة، والاكتفاء بتلك الشذرات والعناوين المبشرة التي تبثها وسائل التواصل الحديثة.
تتأمل ملامح هذا «القائد التاريخي» الذي يسكنه الإيمان فتلفتك الوداعة التي ينبض بها هذا الوجه النابض بساطة وطيبة، باللحية الغزيرة التي تجلله، والذي يكتسب قدرا من الصرامة وتقدح العينان فيه شرراً حتى أغضبته الافتراءات والاتهامات المتجنية التي تستهدفه بقصد تشويه القضية او تزوير الوقائع لتبرير سياسات خاطئة تؤذي البلاد وأهلها في الحاضر والمستقبل.
تستذكر ابتسامة الرضا والإيمان يوم استقبلك وجموع اللبنانيين والكثير من العرب والأجانب، والكل يعزيه ببكره «هادي» الذي اختار طريق الاستشهاد، مبكراً، مقدما القدوة: هو واحد من المجاهدين وقد أنعم الله عليه بمجد الشهادة!
وتستعيد لقاءات اللحظات الحرجة، وما أكثرها.. وتتوقف بذاكرتك مطولاً امام الحوار الاستثنائي بدلالاته ومراميه واستقرائه المستقبل، بعيد الانتصار على الحرب الإسرائيلية في تموز 2006، والذي اعتمدته «السفير» أساساً للكتاب الممتاز عن «النصر المخضب»… يوم تبدى (وحزبه) كأنه المقاتل الأخير في مواجهة الحرب على الأمة وتاريخها، بالماضي والحاضر والمستقبل، وقد خاضها ببسالة نادرة، فأسقط أسطورة العدو الذي لا يهزم، وأنجز وعده بالنصر بهياً، مشرقاً مضيئا طريق المستقبل، قبل ان ينقضّ عليه «بعض أهل البيت» بقصد تشويه وتحريف الدلالات بتعظيم الخسائر لتقزيم النصر والتشهير بأبطاله..
لكن التاريخ لا يهتم إلا بالثابت من الوقائع الموشومة بالدم المقدس. وهذا الحوار، بجزءيه الأول (اليوم) والثاني (غداً)، صفحة جديدة وحافلة بالوقائع التي سترسم المسار إلى المستقبل.