طلال سلمان

حوار حول عاصفة واسباب عتمة

… كلما ضاقت الرؤية اتسعت العبارة!
وأمس ضاقت الرؤية، بسبب العاصفة الرملية التي ضربت لبنان ومعظم المنطقة، لكن »العبارة« لم تتوقف عن التوسع لتشمل مختلف الشؤون في السياسة والاقتصاد والتعليم، مؤكدة أن العواصف المنتجة ذاتياً ومحلياً تبقى أبعد أثراً من تلك التي تستولدها الطبيعة في لحظة غضب!
أخفت العاصفة الرملية الجبال، وأقفلت الجو والبحر، سحابة النهار، وعصفت بالزهر والثمر، بل هي اقتلعت الأشجار أو حطمت الأغصان، وشرّدت العصافير وضربت مواعيد لقاءات الخلسة وخلوات المحبين على هامش النزهات المنظمة والحسنة التمويه…
أما على المستوى السياسي أو الاقتصادي فلم تستطع العاصفة أن تفسد الكثير، فكفاءة اللبنانيين في هذا المجال »دولية« ومشهود لها، بدليل أن الرؤية شبه متعذرة، دائماً، نتيجة اختلاط الصح بالغلط، سواء على مستوى المؤسسات أو القيادات (الرسمية و»الشعبية«)… إذ غالباً ما تختفي الملامح الأصلية مخلية المساحة للأشباح أو للأوهام، وغالباً ما تتبلبل الألسنة فلا يفهم أحد ما يسمعه، أو لا يسمع أحد ما يقوله الآخرون، يستوي في ذلك »الحاكمون« و»المعارضون« والبين بين.
فالحقيقة أن حالة الإعتام نهاراً وتداخل الحدود وتشابك الصلاحيات وتماهي المواقف تكاد تشمل مختلف المواقع والموضوعات المطروحة، بل هي تلامس أوضاعاً يفترض أنها مستقرة وثابتة كالوضع الحكومي، مثلاً..
والحقيقة أن حالة الإعتام هذه تبرّر أو تمنطق حالة الانقسام »الشعبي« وتكاد توصلها إلى حدود القطيعة، واستحالة الحوار بين اللبنانيين، إذ إنها تنطلق متفجرة، أو تختار موضوعات سريعة الالتهاب وتطرحها بطريقة مستفزة بحيث يتعذر الحل، وتتراكم الموضوعات الممنوعة من الصرف..
آخر ما حرّر هذا الخلاف الطارئ حول ضرورة توحيد الجامعة وتجاوز حالة التفريع التي كادت تجعل هذا الصرح الوطني الموحد جامعات بل جبهات متواجهة: فلا التوحيد ممكن، ولا دمج الفروع قابل للتطبيق، وخصوصاً أنه بات متعذراً نقل أستاذ من فرع إلى آخر، فكيف بتجميع الجبهات المتعارضة للطلاب الخائفين من بعضهم البعض في مكان واحد… ولا مجال لاعتماد تجربة الجيش، وعلى طريقة »نفِّذ ثم اعترض«، فالكل يعترض ولا أحد ينفذ هنا!
كذلك فإن »العاصفة« المحلية النشأة، والتي يحركها »الهوى« و»الغرض« تكاد تشل مجلس الوزراء وتعطل دوره كمشروع حكومة اتحاد وطني أو وفاق وطني فتسحب من مداولاته كل ما يمكن أن يفرّق هؤلاء الذين جمعوا أو اجتمعوا بالمصلحة، وتسطِّح المناقشات إذا هي لامست الموضوعات المحظورة… حتى إذا تمت المصالحة خارج قاعة »التضامن الحكومي«، أعاد الوزراء إلى الجلسة مناخ الوئام الوطني، وظلت الأرقام والوقائع الفضيحة خارجها..
و»العاصفة« هذه تعطل الإدارة كلياً، وخصوصاً أنها مسحت الحدود بين الحلال والحرام، بين الكفاءة واستغلال النفوذ، بين الجدارة وحقوق الطوائف وحصص المذاهب، وأخيراً بين المهمات والموظفين… فلم يعد يعرف من هو »الفائض« ومن هو الضروري وجوده لانتظام دورة العمل: صار المؤقت أو المتعاقد أو المياوم أو الأجير بالفاتورة أهم من الموظف العتيق الذي دخل بمباراة… فما قيمة العلامات والدرجات أمام النفوذ الذي لا يرد، لا سيما متى تذرع بالتوازن الطائفي، وتحصّن بالجملة السحرية »مع التوكيد والإصرار« أو »على مسؤولية الوزير«، بينما القدامى على مسؤولية شهاداتهم وخبراتهم وحدها؟
و»العاصفة« سبق أن ضربت تلفزيون لبنان مرات ومرات، حتى صار ممكناً تقديم إقفاله وكأنه الحل الأفضل… وها هي تقترب من أن تودي بشركة طيران الشرق الأوسط إلى المصير نفسه، فندفع للفائض مكافآت تفيض عن قيمة التشغيل لو حسنت الإدارة!
»العاصفة« ضربت فعطلت، وبمعاذير سياسية مجلس النواب، ومنذ ولادته تقريباً… وتكفي طلقة »حوارية« واحدة مباشرة لتعطيل جلسات المناقشة العامة وفرض الحظر على مناقشات اللجان، ودائماً بذريعة »حماية الوحدة الوطنية«.
»العاصفة« أطلقت وتطلق فيضانات من الحوار حول الحوار، لدرجة أن البعض بات يعتبر أن الحوار حول ضرورة الحوار هو السبب في هذه العاصفة الرملية التي جعلت الرؤية متعذرة ولكنها لم توقف سيول المحاورات المفتوحة حول… جنس الملائكة!
من ذلك أنه، وبرغم العاصفة الرملية التي حبست معظم الناس في بيوتهم أمس، فقد وصلت قرنة شهوان إلى المختارة، وذهب البطريرك الماروني للقاء البابا يوحنا بولس الثاني في ضاحية الفاتيكان القريبة، بعدما منعته عاصفة الحوار من لقائه في دمشق… البعيدة!
ومن ذلك أن حالة الإعتام نهاراً أو اضطراب الرؤية أفرزت مفارقة طريفة:
تشتد المطالبة، دولياً، بإرسال الجيش (كله، لو أمكن) إلى الجنوب ونشره كسلاسل بشرية مبندقة على امتداد الحدود، بمعنى أن ينتظم الضباط والرتباء والجنود على طول الخط الأزرق وقد أمسك واحدهم بيد الآخر، حتى يستحيل »التسلل« واختراق هذا الحاجز البشري المسلح وتهديد الذين على الجانب المقابل، أي على أرض فلسطين المحتلة..
في هذا الوقت ونتيجة الإعتام المشار إليه، ترتفع الأصوات، دولياً، وبينها أصوات قيادية في الأمم المتحدة، بخفض عديد القوات الدولية العاملة في لبنان، تمهيداً لسحبها..
وتفرض بعض التساؤلات نفسها هنا، ومنها:
لماذا تفضل إسرائيل، ويفضل ولو لأسباب أخرى سياسيون لبنانيون أن يقوم على حراستها عسكر لبناني طري العود، بعد محنة انقسامه خلال الحرب الأهلية، على أن تستمر في أداء هذه المهمة الجليلة قوات دولية ترفع العلم الأزرق الدولي وتحظى بحصانة دولية وبرعاية لبنانية، رسمية وشعبية، طالما عبّرت وتعبّر عن كرمها، منذ ربيع العام 1978 وحتى اليوم؟!
لماذا »طنش« هؤلاء المراقبون والمحللون والخبراء الاستراتيجيون في الداخل والخارج، عن العاصفة الدموية التي تضرب المنطقة بكاملها، تحت اسم »أرييل شارون«، ولم ينتبهوا إلى أن جيشه الأقوى والأعظم تسليحاً جرّب ويجرّب كل أنواع الأسلحة في بيوت الصفيح ومخيمات اللاجئين والبنايات التي أقيمت على عجل في غزة وبعض الضفة الغربية، مع الوعد بقدر من »حرية الحركة« داخل أرض محصورة ومعزولة ومطوّقة بالمدافع الإسرائيلية، وانتبهوا فطالبوا بأن يتولى الجيش اللبناني الوليد تأمين الدولة الإسرائيلية العظمى؟!
ما علينا وحديث الهموم، لنتحدث عن »عاصفة خضراء« هبّت على لبنان قبل أيام، فتكاثف غيمها موحياً بخير عميم، ثم رحل رجالها ورحل معهم غيم الخير..
جاء مئات من أصحاب الثروات والناجحين من رجال المقاولات والأعمال العرب إلى بيروت، كرة أخرى، فتغدوا وتعشوا وسهروا وسمروا، واستمعوا وناقشوا وأظهروا اقتناعاً و»تصافقوا« ثم افترقوا على أن يلتقوا مجدداً في ضيافة هذا البلد الجميل والكريم، لاستكمال الجولات السياحية في أرقامنا المأساوية، وأعطونا من عواطفهم الطيبة فوق ما نطلب ومن أموالهم دون ما نقبل.
وهكذا فإنهم لم يتركوا بعد انفضاض مؤتمرهم الذي تداولوا خلاله بأرقام فلكية غير ما أثارته دورة الفلك من زوابع الغبار التي آذت المواسم الزراعية فأنقصت الدخل المتوقع ولعلها سترفع معدلات الهجرة وزيادة العجز في الموازنة وأرقام الدين العام؟!
* * *
من أين مصدر هذه العاصفة الرملية التي ضربت لبنان، أمس؟!
البعض يؤكد أنه رآها بالعين المجردة تتسلل عبر الحدود مع سوريا، لتغلّف وتموّه وتطمس موضوع الوجود العسكري السوري في لبنان وتجعله خارج نطاق الرؤية وبالتالي خارج دائرة الحوار حول الحوار.
وثمة من يقول إنها عاصفة مصطنعة أطلقتها إسرائيل قصداً لمنع وصول الزوارق حاملة أسلحة الدمار الشامل إلى فتية الحجارة عند الشاطئ الفلسطيني.
على أن المحللين الاستراتيجيين يقطعون بأنها بعض العاصفة الأميركية على المنطقة التي شرذمت أهلها وجعلتهم معسكرات متواجهة وعزلت بعض أقطارها عن البعض الآخر فانشغل كل بنفسه عن أخيه، وتفرّق العرب أيدي سبأ!
أما الثابت والأكيد فإن هذه العاصفة الهوجاء، بكل العتم الذي طمست به ضوء النهار، تظل أضعف تأثيراً وأقل ضرراً من عواصف الرمال الطائفية ومن عواصف غبار التعمية المذهبية، ومن عواصف الصفقات واستغلال النفوذ والشعارات الغلط التي ترفع في الوقت الغلط فتصرف الناس عن الصح..
ما رأيكم في أن نبدأ حواراً حول مصدر العاصفة والمستفيدين منها، تمهيداً للمصالحة الوطنية وتدعيماً للوحدة الوطنية وتوكيداً للسيادة والحرية والاستقلال في هذا الكيان الخالد؟!

Exit mobile version