طلال سلمان

حوار حميم مع عبد الحليم خدام::قائدي ورفيق عمري حافظ الأسد”(صور)

كتب طلال سلمان
لا مسافة بين حافظ الأسد وعبد الحليم خدام تسمح بسؤال من خارج العاطفة الشخصية الممتدة بلا انقطاع ما يقارب نصف قرن وثلاثة أرباع العمر…
فحافظ الأسد بالنسبة لعبد الحليم خدام ليس »السيد الرئيس« فقط، بل هو أيضù في لحظة ما مزيج من الأب والمعلم، الأخ الأكبر، والقائد والقدوة وموضع الفخر والتباهي بشخصيته وكفاءته الاستثنائية.
وفي جلسة الحديث الحميم عن حافظ الأسد، وتجربة العمل تحت قيادته وفي اتصال يومي مباشر معه منذ الحركة التصحيحية التي تحتفل سوريا اليوم بعيدها الفضي (1970 1995)، تبدى لنا عبد الحليم خدام في صورة أخرى ندر أن عرفناها له..
كان »عبد الحليم« مختلفù تمامù عن صورته »اللبنانية«، أو عن صورته »العربية« التي يحفظها عنه الكثير من المسؤولين العرب، ولا سيما منهم وزراء الخارجية الذين شهدوه فأحبوه أو تجنّبوه أو اصطدموا به في »مواقع« كثيرة بعضها لا ينسى…
اختفت الحدة من نبرة صوته، واحتلت الوداعة ملامح الوجه الذي لا يشي بحقيقة العمر، وكأن تلك السمات شبه »الطفولية« فيه وتماهي الشيب مع لون الشعر الأصلي تديم الشباب، فلا تنتبه إلا متأخرù إلى أن الرجل قد جاوز الستين، وقد جاوز الموت وتجاوزه، فنجا من محاولات عدة لاغتياله، إحداها في مطار أبي ظبي بدولة الامارات، والثانية عند مدخل دمشق لجهة دمر، والثالثة عبر سيارة مفخخة فجرت لاسلكيù أمامه مباشرة وهو في الطريق إلى بيته الصيفي في بلودان.
ها هي هيبة المنصب تتهاوى، ويتوارى »السيد نائب رئيس الجمهورية« ليطل جانب شديد العاطفية في هذا الرجل الذي كثيرù ما اتُهم بأنه »عسكري« في تنفيذ مهامه الدبلوماسية، بينما هو »دبلوماسي« جدù عندما يحتاج الأمر إلى دهاء لتحقيق المهمات السياسية الحساسة جدù والمعقدة جدù والتي توفر لها »الساحة اللبنانية« الكثير من الشهادات الناطقة في هذا المجال.
ثم إن الحوار مع عبد الحليم خدام حول حافظ الأسد صعب جدù بطبيعته: كيف تختصر في سطور أو في صفحات، العمر كله؛ بالأحداث الخطيرة والتحولات الهائلة التي شهد بعضها من موقع الحزبي المشتعل حماسة، وصنعت قيادته بعضها الآخر، إن على مستوى الحزب أو الجيش أو الحكم، داخل سوريا ثم على المستوى العربي، وصولاً إلى المستوى الدولي؟!
الأربعينيات، الخمسينيات، ثم الستينيات الغنية إلى حد الازدحام بالصراعات والمنافسات والمصادمات، بالمزايدات السياسية ذات الطابع العقائدي والتي لم تتورع عن المغامرة بمصير البلاد والأمة جمعاء، في مواجهة عدو قومي خطير متميز في تدريبه، متميز في تجهيزه، ومتميز في شبكة الحماية الدولية التي وفرت الغطاء لإقامة »دولته« غصبù، ثم لاستمراره متفوقù على مجموع العرب حربù و»سلمù«!
وكان لا بد من العودة ولو باستعراض سريع إلى فترة القلق والبحث عن سوريا ذاتها التي كانت موضع تجاذب شديد، قبل أن توصلها القيادة الفذة لحافظ الأسد لأن تكون مركز قرار لا يمكن تجاوزه في كل ما يتصل بالمنطقة العربية جميعù، ولقضيتها الأخطر: الصراع العربي الإسرائيلي.
هنا الحوار مع نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، وقد جرى في مكتبه، عشية الذكرى الخامسة والعشرين للحركة التصحيحية التي يؤرخ بها تاريخ النهضة لبناء سوريا الحديثة، سوريا أواخر القرن العشرين.
* * *
سألنا عبد الحليم خدام:
إلى متى تعود علاقتكم بالرئيس حافظ الأسد؟! أين وكيف تعارفتما؟
أجاب وهو يستعيد بعض ذكريات أيام الصبا:
تعود معرفتي بالسيد الرئيس إلى أواخر الأربعينيات. نحن أبناء منطقة واحدة، ولقد عرف واحدنا الآخر في زمن الدراسة.
هل جمعتكما مقاعد الدراسة في مدرسة واحدة؟
لا. كان الرئيس حافظ يدرس في اللاذقية، وكنت في بانياس. لكن الحزب هو الذي جمعنا. لقد انتمينا في وقت واحد تقريبù إلى حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان في بداياته آنذاك، ولم يكن قد انتشر انتشارù واسعù. وكنا في منطقة الساحل أقلية كبعثيين، بل ان أعضاء الحزب في سوريا كلها كانوا قلائل بعد، وكان الواحد منا يكاد يعرف معظم الرفاق الآخرين. وفي منطقتنا الساحلية بالذات، كان من الطبيعي أن نتلاقى دوريù وأن تتوثق علاقة واحدنا بالباقين. واستمر تواصلنا حتى نهاية المرحلة الثانوية، وعندها تفرّقنا: دخل الرئيس الأسد الكلية الحربية، وتابعت الدراسة، فالتحقت بكلية الحقوق في دمشق، وبعد التخرج عملت فترة في المحاماة.
متى تجدَّد اللقاء بينكما بعد افتراق الطرق في بحث كل منكما عن مستقبله؟!
قال عبد الحليم خدام:
يمكنني أن أقول إن علاقتي بالسيد الرئيس باتت أوثق وأمتن بعد ثورة الثامن من آذار 1963.
وأين كنت، شخصيù، يوم 8 آذار 1963، هل كنت قد دخلت الوظيفة وعيّنت محافظù؟!
لا، كنت ما زلت أعمل في المحاماة. في العام 1964 دخلت إلى الادارة الحكومية، وعيّنت في البداية محافظù لحماه.
سرح »أبو جمال« بنظره بعيدù، واستذكرنا معه بعض الأحداث التي كانت تتوالى على مسرح سوريا، موفرة للصحف مانشيتات يومية، حتى أن صحيفة واحدة على الأقل كتبت عنوانù عريضù حفرته على النحاس (توفيرù للكلفة) وأعدته لاستخدام متكرّر ومفتوح، كلماته محددة تمامù: انقلاب عسكري في دمشق..
كيف تطورت العلاقة بعد ذلك؟
قال: عمليù، بدأت العلاقة تتطور مع تناغم أفكارنا داخل مؤسسات الحزب وما بدأ يشجر داخله من خلافات في وجهات النظر بعد وصوله إلى السلطة. لقد وصل الحزب إلى الحكم وهو لا يملك التجربة الكافية ولا الوحدة الداخلية المتينة.كنا شيعù وتيارات. وكانت القيادة »أجنحة«، وكل »جناح« يحمل تأثره الخاص بأفكار معينة من حيث النظرة إلى الدولة والمجتمع وعملية التحول الاشتراكي والعلاقة مع الأحزاب والقوى الأخرى، وأيضù من حيث النظر إلى قضية الوحدة والعلاقة مع سائر العرب عمومù ومع جمال عبد الناصر بشكل خاص.
وعبر المحاورات والمناقشات ومحاولة استكشاف الطريق الخاص، نمت العلاقة وتوطدت وغدت متينة ابتداءً من العام 1964.
لعل العلاقة مع مصر عبد الناصر كانت محورية في خلافات تلك الفترة؟
ورد عبد الحليم خدام بسرعة:
لا نستطيع أن نقول ذلك بشكل مطلق، مع التنويه بأن تيارù مهمù في قيادة الحزب كان أكثر تعاطفù مع عبد الناصر و»الناصرية« من الآخرين، لكن الأمر حسم بعد المحاولة الانقلابية التي قام بها بعض الناصريين (جاسم علوان) في 18 تموز 1964.
واستدرك خدام موضحù فقال:
كان من بين المسائل التي أثارت الخلافات في تلك الفترة: التأميم والموقف منه. وكلنا يذكر كيف بدأ ميشال عفلق وصلاح البيطار بمهاجمة قرار التأميم وشتم من اتخذه منذ اليوم الثاني لإعلانه.
ما أحاول قوله ان الخلافات قد اشتدت وطفت على السطح في العام 1964، ولكنها بجذورها كانت تعود إلى ما قبل ذلك. ففي العام 1963، مثلاً، عقد مؤتمر حزبي وانتخب قيادة لم تستمر إلا لشهور عدة، إذ أسقطها مؤتمر حزبي آخر بحجب الثقة عنها واختيار قيادة جديدة موسعة.
كانت الخلافات لا تكاد تهدأ حتى تثور مجددù، وبقيت الصراعات داخل الحزب بين مد وجزر حول مجموعة عناوين أساسية، الأمر الذي ولّد حالة من عدم الاستقرار في صفوف القاعدة الحزبية، إلى أن كانت حركة 23 شباط 1966 التي وصل معها ما سمي بقوى اليسار في الحزب إلى القيادة والسلطة.
سكت عبد الحليم خدام لحظات ثم أردف يقول بتوكيد مقصود:
إن أحدù لا يستطيع أن ينكر الدور الحاسم الذي اضطلع به الرئيس حافظ الأسد في إنجاح حركة 23 شباط وتأمين وصولها بأقل خسائر ممكنة إلى السلطة في 23 شباط 1966. كان الأسد يومها على رأس القوة الجوية، بعد التشكيلات العسكرية التي كانت أجريت قبل ذلك بفترة بسيطة، وبذلك تمكّن من حسم الأمور لمصلحة التغيير.
لكن الخلافات تفاقمت ولم تتراجع أو تندثر بعد 23 شباط..
صحيح. بعد 23 شباط عقد مؤتمر قطري للحزب تبلورت خلاله وعبره وجهات نظر متعارضة ومتصادمة في مسألة الحكم ووظيفة السلطة والعلاقة مع الجماهير.
كان من صنفوا أنفسهم »اليسار« ينطلقون من فهم خاص للماركسية وسبل تطوير المجتمع، وقد فرزوا الناس، على هذا الأساس نوعين: التقدميين والآخرين، وما دام الحكم بيد التقدميين فعليهم أن يبنوا المجتمع وفق فهمهم للماركسية وبقوانينها وبأسرع وقت ممكن، وحتى لو اقتضى الأمر حرق المراحل.
أما وجهة النظر الثانية وذات المشروعية فكانت تنطلق من فهم وطني لقضية الاشتراكية، ومن تفهم لطبيعة المجتمع وقيمه وقدرته على التحول ووتيرة السرعة الملائمة لإنجاح هذا التحول، وبالتالي فقد كانت تقول بضرورة تمتين الوحدة الوطنية والعمل من ضمن إطار جبهوي يتسع لكل القوى الوطنية والمؤمنة بضرورة التقدم وبالحل الاشتراكي مع مراعاة درجة الوعي في المجتمع وقيمه وموروثه الديني.
كان صلاح جديد ومجموعته يريدون المزيد من التسلط على هيئات الحزب والدولة، وكان الرئيس الأسد على رأس المجموعة التي ترفض هذه السياسة، ومع ذلك لم يتبلور في البداية صراع حقيقي بمعنى الصراع، وبقيت الأمور في إطار المناقشات، وإن كان بدأ يظهر بوضوح الاختلاف البيّن في الخطاب السياسي، وسادت تعابير تتضمن إدانات قاطعة مثل »هذا رجعي« و»هذا إقطاعي« و»هذا مستنير ولكنه ليس تقدميù«، كما استشرى استخدام مصطلحات البورجوازية الصغرى والكبرى (الخ)، إلى أن كانت هزيمة حزيران 1967، التي لعب »اليسار الطفولي« أو »المراهق« في الحزب دورù يفضح نقص شعوره بالمسؤولية وميله إلى المغامرة والمزايدة ولو على حساب البلاد والأمة جميعù.
بعد حزيران 1967 عقد مؤتمر قطري لحزب البعث في شهر أيلول من العام نفسه، وفي هذا المؤتمر تبلورت أكثر فأكثر وجهتا النظر بشكل أوضح: وجهة نظر تقول إن العدوان ونتائجه إنما استهدف النظام وتوجهاته الاشتراكية والرد عليه لا يكون إلا باستمرار النظام والمحافظة عليه وعلى شعاراته، أما وجهة النظر الأخرى فكانت تقول إن الكارثة وقعت، وبالتالي أصبح من الواجب تجاوز مسألة الصراع الاجتماعي، فالأزمة وطنية عامة تخص وتعني وتنعكس على كل الناس وكل البلد وليست مشكلة النظام وأركانه، إنها ليست مشكلة صراع اجتماعي بين اليسار واليمين، ولا بد من التوجه لإعادة بناء الوحدة الوطنية في الداخل… كذلك فإن تخريب التضامن العربي بالمزايدات والتصنيفات المؤذية قد وفّر المناخ المؤاتي للعدوان الإسرائيلي، وبالتالي فلا بد من التخلي عن هذه السياسة وتركيز الجهد على ترميم التضامن العربي لأن كل العرب قد دفعوا ثمن الهزيمة والكل معني بمسح آثارها.
وفي النهاية لم يستطع المؤتمر الحزبي أن يحسم الخلافات… وظل كل شيء معلقù، وظلت سوريا في الدوامة.
ثم عقد المؤتمر الثامن، في العام 1969، وكان الخلاف قد اتسع أكثر فأكثر وأصبح عموديù، ولم تخفف منه الصيغة الجديدة التي عرفت بالمكتب السياسي ولا الحكومة الجديدة التي احتفظ فيها الرئيس الأسد بمنصب وزير الدفاع إضافة إلى قيادة الطيران، وتوليت فيها منصبù وزاريù لأول مرة إذ عُيِّنت وزيرù للاقتصاد.
ولقد تمحور الخلاف بعد ذلك حول الصراع مع إسرائيل، فكان هناك مَن يقول إن المعركة مع إسرائيل هي معركة قومية، ومن واجب وكذلك من حق كل عربي أن يشارك فيها، بغض النظر عن أفكاره وهل هو يميني أو اشتراكي، رجعي أو تقدمي.. وفي المقابل وجد من رأى فيها معركة ضد الصهيونية والرجعية في الداخل كما في الخارج، وانتقل الخلاف إلى فروع الحزب؛ إذ لم يكن باستطاعة أحد أن يبقى خارجه… واستمرت الحال على هذا المنوال، وسوريا تتلوى وتكاد تتمزق، حتى كان قرار الرئيس حافظ الأسد بالقيام بالحركة التصحيحية في مثل هذا اليوم من العام 1970، التي ارتكزت على برنامج جديد وواضح: استعادة ثقة الجماهير على قاعدة العمل لبناء وحدة وطنية تتسع لكل القوى والاتجاهات، من أجل مقاومة الاحتلال وتحرير الأرض، وكان ذلك يتطلب عملاً شاقù في الداخل وعملاً مضنيù على الصعيد القومي.
ففي الداخل كان لا بد من تغيير نظرة قيادة الحزب والدولة إلى الناس، ونظرة الناس إلى الحزب والدولة.
توقف »أبو جمال« لحظات، وضحك قبل أن يضيف: كان الحزب قد فقد قاعدته، وضمر حتى كاد يتلاشى، بينما شعاراته الطنانة تلعلع بها الإذاعة والخطب ولا يسمعها أحد. تصور أن فرع الحزب في محافظة حلب، مثلاً، كان لا يتعدى عدد أعضائه المئتين، وهو الأمر الذي اختلف تمامù في السنوات الأولى للحركة التصحيحية التي قادها الرئيس الأسد.
كانت النظرة السابقة تقول: نحن نمثل الناس، ونحن نقرر عنهم. كان الناس في مكان والحزب في مكان آخر. الصورة بعد 16 تشرين اختلفت تمامù، أصبح هناك اهتمام برأي الناس وإشراك لهم في القرار.
على سبيل المثال؛ قبل 16 تشرين كان يصار إلى انتخابات شكلية في قطاعات العمال والطلاب والنقابات الأخرى… أما في حقيقة الأمر، فقد كان كل شيء يتم بواسطة تعيينات مسبقة. لم يكن الناس يشعرون بحقهم في اختيار من يمثلهم، وهذا ما اختلف تمامù بعد 16 تشرين حيث بدأ الناس يشعرون بحرية اختيار من يمثلهم في النقابات والمنظمات الشعبية وكذلك الأمر بالنسبة لأعضاء مجلس الشعب، ومن دون أن ننسى الحيوية في الحياة الحزبية الجبهوية المتمثلة في الجبهة الوطنية التقدمية والأحزاب التي تضمها.
صمت عبد الحليم خدام لحظات، وتناول كوب الماء فجرع منه نصفه… الماء رفيق دائم للسيد النائب،
ثم عاد يقول:
في الاقتصاد أيضù، كانت نظرتنا مختلفة تمامù، فالمواطن كان يجب أن يتحمّل مسؤوليته في بناء الاقتصاد الوطني، ويكفي في هذا المجال أن نرى ماذا حصل في القطاع الزراعي، ان الأكثرية العظمى من الناس فقراء ويعيشون من الأرض ومعها، فكان طبيعيù أن يتركز الجهد على تطوير القطاع الزراعي، إلى أن وصلنا اليوم إلى مرحلة أصبحنا نحصد فيها ثمار عملية التنمية والجهود التي بذلت على امتداد سنوات في هذا القطاع. كنا نستورد القمح، الآن عندنا منه احتياطي كبير، وكذلك الأمر بالنسبة لكثير من الزراعات الأخرى، وهذا الذي وصلنا إليه تطلب جهدù استطعنا معه أن نتخطى الكثير من المصاعب وتأمين الامكانات اللازمة لدعم القطاع الزراعي كمثل بناء السدود وشق الطرق وتسهيل التمويل من خلال المصرف الزراعي. ومن أجل ذلك قمنا بإنشاء جمعيات تعاونية، فكان في كل قرية جمعية تعاونية زراعية، وكان المصرف الزراعي يقوم بتقديم قروضه بواسطة هذه الجمعيات كي نضمن أن هذا القرض سيصرف في عملية الإصلاح الزراعي ولا يذهب في اتجاهات أخرى.
* هل هناك صلة بين هذه الجمعيات والحزب؟
الصلة بين الجمعيات واتحاد الفلاحين، والمصرف الزراعي يقدم قروضù إلى الفلاحين بحدود 35 مليار ليرة سورية سنويù، واتحاد الفلاحين إحدى المؤسسات الأساسية في صلب البناء الحزبي بطبيعة الحال.
* هل هذه الأسباب كافية لنجاح التجربة الزراعية في سوريا؟
إنها خطوات أساسية، فالزراعة ترتبط ارتباطù مباشرù بالملكية الفردية على عكس الصناعة مثلاً، وقد قمنا بتجميع الملكيات عبر جمعيات تعاونية ومن ثم إزالة سيطرة الاقطاع، وهذه الجمعيات قامت بتأمين وسائل الاستثمار، فبقيت الملكية فردية ولكن الاستثمار في إطار التعاونية.
* ما هي المناطق التي كان يسيطر عليها الإقطاع في سوريا؟! وهل كان الساحل السوري، أي امتداد عكار في شمال لبنان، يخضع لإقطاع زراعي كالذي عرفته عكار اللبنانية؟!
ورد عبد الحليم خدام:
لم يكن هناك إقطاع زراعي بالمعنى الفعلي في الساحل السوري نظرù لضآلة المساحة الزراعية، أما في المنطقة الجبلية فكان ثمة بعض القرى مملوكة للاقطاعيين، ولكن ملكية نظرية، مع العلم بأن الاقطاع في سوريا كان إقطاعù عشائريù، أي زعماء عشائر، أما الاقطاع الشرس فكان في محافظة حماه وإدلب.
* هل لذلك تفسير خاص لتركزه في حماه وإدلب؟
أولاً الأرض هناك خصبة، ثانيù كانت توجد عائلات إقطاعية من أيام العثمانيين، وهي قد توارثت إقطاعات الأراضي. وعلى سبيل التندر، يستذكر الناس أنه في أيام العثمانيين كان الاقطاعي يرسل مع ابنه إلى المدرسة أحد أبناء الفلاحين كي يضربه شيخ المدرسة إذا ما وقع ابنه في خطأ ما، حاليù لم يعد هذا الأمر موجودù، وأصبح وضع الفلاح أفضل بكثير مما كان عليه قبل الحركة التصحيحية.
انتقلنا إلى الأفق العربي، فسألنا »السيد النائب«:
* عمليù، أين تبلورت تمامù مفاهيم الحركة التصحيحية في العلاقات مع العرب؟
قال عبد الحليم خدام:
كانت الحركة التصحيحية عبارة عن برنامج يقوم على ترتيب الوضع في الداخل بعد 5 حزيران 1967 وإنهاء العبث والفردية في السلطة وانقطاع صلتها بالجماهير، وعلى خط آخر إعادة ترتيب وتنظيم علاقات سوريا الخارجية وتحديدù مع الإخوة العرب.
بعد أسبوع واحد من 16 تشرين ذهب الرئيس حافظ الأسد مباشرة إلى مصر، وكنت معه، خصوصù وقد بتّ الآن وزيرù للخارجية، للعمل على تنظيم الشراكة القائمة في مواجهة إسرائيل وفي إطار الإعداد للحرب التي حصلت في العام 1973.
لقد كان الجذر الحقيقي للحركة التصحيحية ضرورة مسح آثار الهزيمة وتحرير الأرض.
على هذا بدأ العمل فورù لتحسين العلاقات مع الدول العربية، التي كانت متردية تمامù في الأشهر الأخيرة التي سبقت وصول الرئيس الأسد إلى السلطة، فالعلاقات كانت إما مقطوعة وإما مجمدة مع معظم الدول العربية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، مع السعودية وتونس وليبيا والمغرب ودول الخليج إلخ.
ووصلنا إلى لبّ الموضوع… سألنا عبد الحليم خدام:
* كُتب الكثير عن دور الرئيس الأسد في الإعداد لحرب تشرين 1973، هل يمكننا أن نستعيد معك بعض تلك الفصول والأيام والوقائع المثيرة؟! أين كنتَ يومها بالتحديد، وما هي المهمات الخاصة جدù التي كُلِّفت بها في سياق الإعداد والاستعداد؟!
قال الرجل الذي يحتفظ في أرشيفه الخاص، كما في ذاكرته، بالكثير من الصفحات المشوقة عن تلك الأيام:
سيأتي اليوم الذي تُنشر فيه أسرار تلك الحرب المجيدة، من بين تلك الصفحات يمكن أن أشير هنا إلى واقعة محددة؛ في أوائل أيار 1973 كان الرئيس السادات يزورنا هنا في دمشق، في سياق التحضير لساعة الصفر. كان قرار الحرب قد اتخذ، لكن تفاصيله كانت تتطلّب مزيدù من الوقت والإعداد. وتقرّر أن يسافر الرئيس الأسد إلى موسكو للتفاهم مع الأصدقاء السوفيات على بعض الأمور الدقيقة المتصلة بذلك القرار. في اليوم المحدد للسفر، انفجر الوضع في بيروت بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية. ولم يكن بالإمكان تأخير السفر. وسافرنا والقلق رفيقنا. وفي موسكو جرى بحث طويل مع السوفيات حول كيفية تأمين الغطاء الدولي للقرار العربي بشن الحرب. للمناسبة، لا بد من أن أشير إلى أن السوفيات قد فوجئوا بقرارنا، لكنهم اضطروا إلى احترام إرادتنا، وهكذا دخلنا في مناقشة تفصيلية لما يلزمنا من أسلحة ومعدات، وكيف ومتى وإلى أين يشحن السلاح وقطع الغيار التي لا بد ستحتاجها مصر وسوريا.
لم يكن السوفيات متحمسين للحرب. ولعل السبب كان يعود إلى الإساءة التي ألحقها بهم الرئيس السادات حين أخرج الخبراء السوفيات من مصر. ولكنه برّرها لاحقù، وأظهروا قبولهم للتبرير الملفق، في أن قراره جاء في سياق التعمية والتمويه وصرف الأنظار عن الاستعداد للحرب.
وسألناه: مَن هم الأطراف العرب الذين وُضعوا في جو قراركم بالحرب؟!
قال عبد الحليم خدام بغير تردد: كل العرب كانوا يعرفون أننا نحضِّر للحرب. وكنا حريصين على أن نبحث مع جميع الإخوان العرب في هذا الشأن، فمعركة التحرير تعنيهم جميعù. كما عرضنا الموضوع في اجتماع لمجلس الدفاع العربي المشترك وتمّ الاتفاق على مقدار مساهمة كل دولة عربية، لكن التوقيت بشأن الحرب لم يكن يعرف به أحد خارج القيادة في كل من سوريا ومصر.
وأذكر هنا أنه تمّ التنسيق مع مصر على مجموعة قرارات وخطط، بينها القيام بحركات تمويه على قرار الحرب، ومن عمليات التمويه التي قمنا بها ذهاب وزيري خارجية البلدين إلى نيويورك قبل أيام من 6 تشرين، أيضù تمّ الاتفاق على أن يصار إلى خلق صور عن أزمات داخلية في كل من سوريا ومصر بواسطة الإعلام المحلي والدولي، الخ، وكل ذلك كي لا يخطر ببال أحد أو يلفت انتباه أحد إلى أن هناك تحضيرات لشن حرب التحرير من قبل العرب.
* لماذا تمّ اختيار 6 أكتوبر لشن الحرب؟
كان 6 أكتوبر يومù نموذجيù لشن الحرب، أولاً، فهو كان من أيام شهر رمضان المبارك، ولا يخطر ببال العدو أن العرب يمكن أن يشنوا حربù في هذا الشهر، ثم انه كان يوم سبت، أي يوم عطلة عند اليهود، ويوم عيد كبير، هو عيد الغفران عندهم.
وأذكر أطراف مناقشة جرت حول ما إذا كانت الحرب ستشن صباحù أو مساءً، ثم اتفق على الساعة الأولى بعد الظهر بناءً لطلب المصريين وحتى لا تكون الشمس في مواجهة العابرين المهاجمين.
إذن كنت شخصيù خارج سوريا…
قال خدام: لقد أشرت إلى أنني كنت في نيويورك وقد غادرت هذه المدينة في الخامس من تشرين الأول، أي قبل يوم واحد من شن الحرب، عن طريق كوبنهاغن ووصلت إليها صباح يوم السادس منه… وبدأت من هناك اتصالات مع سفارتنا مستفسرù عن الأخبار، كما اتصلت بسفارتنا في لندن، في انتظار تأمين طائرة تنقلني إلى تركيا ومنها أنتقل بسيارة إلى سوريا. كنت أتوقع أن يكون المطار قد أقفل في الموعد المفترض لوصولي، وكان عليَّ أن أصل عن طريق البر، عبر تركيا، وهكذا كان.
صباح يوم 6 تشرين، استدعى الرئيس الأسد السفير العراقي وحده من دون السفراء العرب، وقال له إن الحرب قد بدأت وإن الإخوان في بغداد يجب أن يكونوا على علم بذلك، مع الإشارة إلى أنهم كانوا في جو القرار. وهكذا فإن أول مَن علم وأخبر من قبلنا بقرار الحرب في يوم السادس من تشرين كان العراق، وكان ذلك استثناءً وتمييزù خاصù من طرفنا.
انتقلنا إلى حروب ما بعد الحرب، فسألنا:
* هل استفاد الملك فيصل من مناخ الحرب عندما اتخذ خطوته بقطع النفط؟
ورد عبد الحليم خدام بصراحته المعهودة:
خطوة النفط اتخذت بعد 3 أيام من وقف النار، والواقع أن جماعة الخليج اتصل بعضهم ببعض واتخذوا هذا الموقف المشترك، وكان سبق لنا أن طلبنا منهم ذلك مفترضين أنه أمر طبيعي، إذا ما شُنَّت الحرب، فيجب استخدام كل وسائل الضغط على أميركا ودول العالم.
* متى شعرتم بأن أنور السادات »يلعب«، أو اشتبهتم بأنه لن يكمل الطريق حتى النهاية معكم؟!
ورد خدام: كانت الشبهة رفيقنا الثالث. في البداية استربنا جدù واضطربنا عندما أعلن السادات »سنة الحسم« 1972. فذلك كان بمثابة إعلان عن قرار بالحرب، ولقد أعلن ذلك من دون أن يعلمنا به، تمامù مثلما أعلن عن طرد الخبراء السوفيات من دون علمنا، هذا مع أننا كنا على اقتناع بأن الامكانات في تلك السنة لم تكن متوفرة بشكل كامل، فكيف سنقوم بعمل عسكري إذا كنا لا نضمن له حظوظù شبه مؤكدة من النجاح؟! السادات كان ينطلق من نصيحة هنري كيسنجر الشهيرة له. لم يكن يسعى إلى التحرير بل إلى تحريك الوضع حربيù كمدخل إلى التسوية التي انتهى إليها. ولم يكن أمامنا خيار غير مصر. كنا نريد الاتفاق، وبأي ثمن، مع مصر، لكي نستطيع أن نتخذ قرار الحرب والتحرير، والفرق كان واضحù في المنطلقات، فالذي يريد أن يعلن حربù ضد إسرائيل لا يقطع علاقاته بالسوفيات… ومَن يطلب التحرير لا يوقف تقدم القوات المصرية الشجاعة التي حققت قفزة بطولية بعبورها قناة السويس قبل الممرات، معرِّضù بذلك شركاءه في الدم والحرب، أي القوات العربية السورية، إلى مواجهة القوات الإسرائيلية كلها منفردة، بينما كانت الخطة تقضي بأن تستمر الجبهتان مشتعلتين حتى يتيسَّر لنا أن نحصِّل حقنا في أرضنا.
لقد تحمّلت قواتنا المسلحة ثقل آلة الحرب الإسرائيلية مجتمعة، في حين كانت القوات المصرية مجمدة عند خط بارليف، الأمر الذي مكّن الإسرائيليين من التحرك هناك بحرية، فكانت ثغرة الدفرسوار، وكاد النصر ينقلب إلى هزيمة بسبب فلسفة كيسنجر وخضوع السادات لمنطق التحريك!
فتحنا واحدة من صفحات الذكريات غير المبهجة، سألنا عبد الحليم خدام:
هل تتذكّر بعض جوانب الحوار بين الرئيس حافظ الأسد والرئيس المصري الراحل أنور السادات عندما جاء يبلغكم قراره بالذهاب إلى القدس..
لم يشأ »أبو جمال« أن يتبسط في الجواب، فقال بإيجاز:
كانت ساعات عصيبة وقاسية. شرح السادات أهداف ما أسماه »المبادرة« بالتفصيل، وقال في ما قاله إنه تلقى من الرئيس الروماني (الراحل أيضù) خريطة تعرضها إسرائيل للانسحاب، وعرض ما جاء في الخريطة، فقال له الرئيس الأسد بألم وببساطة وباختصار شديد: لم يقدموا لك شيئù!
وما صحة ما تردد عن أنكم فكّرتم باعتقاله لمنعه من الإقدام على »الزيارة«؟
مرة أخرى أجاب عبد الحليم خدام باختصار شديد، كما لو أنه لا يريد التوقف طويلاً عند هذه المحطة الكئيبة… قال باختصار:
تلك دردشات حصلت في ما بين بعض الإخوان في سوريا. ولكن عند عرضها على السيد الرئيس رفض الأمر كلية، وقال: هذا أمر لا يجوز. إنه رئيس دولة، بل رئيس أكبر دولة عربية، وبرغم الرابطة القومية فحسابه على شعبه، متى أخطأ، وليس علينا.
نريد أن نستزيد فنعرف منك، مثلاً، كيف رأيت الرئيس الأسد، وهو يستمع إلى السادات يشرح قراره في الذهاب إلى القدس المحتلة:
لقد اضطرب الرئيس، وظهر عليه الاكتئاب، ولا أذكر أنني رأيته على مثل تلك الحالة من الشعور بالقهر والغضب المكبوت والحزن. كان وقع حديث السادات أقسى عليه من القرار بوقف إطلاق النار في حرب 1973 التي أجهضت دون أهدافها الأصلية. إنه أمر لم يكن يخطر ببال أحد… رئيس مصر يريد الذهاب إلى »العدو«؟ إن العقل كان أعجز من أن يتحمل مثل هذه الصدمة.
* * *
عدنا إلى الحديث الحميم… قلنا:
لنبقَ مع حافظ الأسد ومعك. كيف يفكر هذا الرجل الذي تبارى الكتّاب الأجانب في وصفه بالدهاء والحنكة والحكمة وصاحب قرارات اللحظة الأخيرة؟
قال عبد الحليم خدام وقد استعاد وجهه وداعته:
لقد نشأت بيننا علاقة عاطفية، أتاحت لي الفرصة كي أعرف كيف يفكر هذا الرجل، هو من العرب القلائل الذين أدركوا أن إفشال المشروع الصهيوني لا يمكن أن يتم خارج إطار الوحدة العربية، وفي تقديره دائمù كان هناك جانبان للأمر: المسألة العقائدية والمسألة السياسية، والتضامن له الأولوية على الموقف العقائدي. فالعرب حاليù في أسوأ حالاتهم لأنهم على هذه الدرجة من التفكك. ففي مرحلة التضامن، مطلع السبعينيات، كنا نذهب إلى الأمم المتحدة في نيويورك ونكتب القرار وبعد أربع أو خمس ساعات يصدَّق عليه بشبه إجماع، هذا في مرحلة التضامن، فكيف الأمر لو كانت هناك حالة وحدة؟ أنا أعتقد أن العرب لو تمكنوا من أن يقيموا دولة اتحادية لكانوا اليوم هم القوة التي تحقق التوازن في اللعبة الدولية، عندهم كل المؤهلات: الثروة والأرض والتاريخ والجغرافيا.
واحد مثل الرئيس حافظ الأسد يقرأ التاريخ ويفهمه ويستوعب دروسه جيدù، إنه عقائدي، لكنه يتقن فن السياسة. وهو في السياسة متحرك، يرى كل الطاقات والإمكانات وكل هذه المخاطر، لهذا كله فمن الطبيعي أن تكون قضية الوحدة أساسية في تفكيره، فإذا تعذرت الوحدة اليوم أو غدù أو حتى بعد غد، فلا أقل من التضامن لمواجهة التحديات، وهي جميعù تمس العرب جميعù ولا تمس سوريا وحدها.
* هل تتذكر تلك اللحظات التي كان فيها الرئيس الأسد في غاية السعادة أو في غاية التعاسة، تلك اللحظات التي لها علاقة بالتاريخ؟
لا بد من الاعتراف أولاً بالقدرة الهائلة للرئيس الأسد في السيطرة على نفسه في كل الظروف الصعبة. ففي حرب تشرين مثلاً، عاش بعض أسعد الساعات في حياته. كان وجهه متهللاً بفرح من أنجز إنجازù تاريخيù. لقد أكد، بالقرار، الأهلية أو الجدارة العربية. وفرح بالإنجاز لأنه أعاد الاعتبار إلى الأمة العربية، إلى إنسانها، إلى جنديها.
باختصار: إن الرئيس الأسد من أعظم الناس عاطفة، لكنه أقدر الناس على ضبط عواطفه.
* قرار الدخول إلى لبنان عام 1976 جاء معاكسù لرأي الاتحاد السوفياتي في تلك الفترة… هل نستعيد معù أجواء ذلك القرار؟!
وتحركت ذاكرة خدام اللبنانية، وهي هائلة بما تختزنه من وقائع ومعلومات وأسماء وحكايات.. قال:
قبل الدخول جاء إلى سوريا الرئيس الحالي الياس الهراوي وكان نائبù تلك الأيام ومعه سائر نواب زحلة والمطران حداد، وقالوا إن زحلة مطوقة ومحاصرة بالجوع، لأن محاصريها يمنعون دخول الطحين والأغذية إليها، ثم بعث الرئيس سليمان فرنجية برسالة إلى الرئيس الأسد يعرض فيها حالة المناطق المسيحية في الشمال على وجه الخصوص، كذلك جاءت رسائل من بعض نواب عكار عما يدبّر ضد المسيحيين فيها. ولم تكن سوريا لتتحمل مثل هذه الحملات الهمجية التي يمكن أن تحدث شرخù بين عناصر الأمة.
وأذكر أنه عندما اتخذ القرار بالدخول (حزيران 1976) كان كوسيغين في سوريا وقد أبدى انزعاجه من هذا القرار. جرت مناقشات مطولة معه وقلنا له: إنها الفرصة الذهبية لإسرائيل كي تأخذ شريحة من اللبنانيين فتدّعي أنها هي مَن يحميهم.. والمسألة ليست لها علاقة بالخطر على الفلسطينيين ولا على الوطنيين اللبنانيين، المسألة تتعلق بهل تدخل إسرائيل أو لا تدخل، وإذا دخلت ماذا سيكون موقفنا وبالتالي موقف الاتحاد السوفياتي؟! وفي أي حال فنحن لا نستطيع التفرج على مذابح تهدد وحدة لبنان الوطنية، ومن شأنها أن تشوِّه التاريخ العربي وأن تضرب الوحدة الوطنية في كل قطر عربي.
فعلاً »حرد« السوفيات وأوقفوا عن سوريا حتى قطع الغيار العسكرية، لم نعلق على الأمر أهمية كبيرة، فالهاجس عندنا كان هاجس تدخّل إسرائيل، وتصوروا لو حصلت مذبحة في زحلة ضد المسيحيين، لكان العالم كله سيتدخل وفي المقدمة إسرائيل بذريعة حماية المسيحيين من المسلمين… هذا الوضع كان سيتطور وكان سيؤدي إلى تفكيك البلد وتقسيمه، بكل التداعيات الخطرة التي يمكن أن تنشأ عنه.
إنه عمليù، المشروع الذي كان يسعى إليه البعض لإقامة دولة مسيحية في لبنان سنة 1920 إلى جانب الدولة اليهودية في فلسطين، وتدخّل سوريا منع وقوع هذه الكارثة.
وانتقل عبد الحليم خدام ونقلنا إلى محطة أخرى في هذا السياق… قال:
في العام 1981، خلال أزمة الصواريخ، دخلت إسرائيل وضربت طائرات الهليكوبتر، هل كنت تقبل، مثلاً، أن تضع شريحة من شعبك في حالة من الاضطهاد والقهر بحيث يبدو وكأن عدوك الإسرائيلي ينقذها منك، أنت أخوهم وشريكهم في المصير؟!
ولقد انتهت الأمور بكلفة عسكرية عالية، لكنها تهون أمام إنقاذ الرابط الوطني والقومي، أمام توكيد الهوية القومية للدور السوري في لبنان. كان ذلك هو الهاجس الأساسي عند الرئيس الأسد، خصوصù إذا ما استذكرنا ما حدث قبل ذلك: أحداث زحلة، أحداث العيشية، تطويق عينطورة ومذابح أينما كان، بالإضافة إلى تصريحات بعض القيادات آنذاك بأن »تحرير فلسطين يمر في جونية« والكلام في الصحف عن »الحاجة إلى كم مدفع لتحرير بكفيا«، كل هذه الأمور خلقت حالة في المنطقة الشرقية، حالة من الخوف والقلق والفزع، وهذه الحالة كان من الممكن أن تدفع الناس في أي اتجاه لولا تدخل سوريا.
توغلنا أكثر في الجرح اللبناني.. سألناه:
* من المحطات المهمة عام 1981 خلال أزمة الصواريخ وفي العام 1982 خلال الاجتياح الاسرائيلي، القرار الشجاع الذي اتخذته سوريا بالمواجهة برغم الخسائر الكبيرة، هل خُدعت سوريا بالدخول الإسرائيلي حجمù ونوعù ومدى؟!
قال عبد الحليم خدام:
في العام 1980 وصلنا إنذار إسرائيلي عبر السفارة الأميركية بسحب الصواريخ وترك السماء اللبنانية مفتوحة أمام الطيران الإسرائيلي وعدم تحليق الطيران السوري فيها.. ثم جاء فيليب حبيب ومعه كلام مبطّن بإنذار إسرائيلي آخر بهذا الموضوع، وكان ردنا أننا في لبنان بناءً على طلب من السلطات الرسمية اللبنانية، وأننا لن نتلقى أوامر لا من إسرائيل ولا من غيرها، وأننا باقون حيث نحن لتأدية واجبنا القومي ولن تخيفنا التهديدات.
أما خلال اجتياح 1982 فقد كان عندنا في لبنان حوالى 25 ألف جندي يتوزعون من الشمال إلى الجنوب. وكانت توقعاتنا أنه إذا وقع عدوان فإن المقاومة الفلسطينية قادرة على المواجهة ويمكنها أن تصمد وأن تؤخر انتشاره يومù على الأقل أو يومين، بحيث يصار خلال هذه الفترة إلى تجميع قواتنا وحشدها في المواجهة، إلا أن المفاجأة أن الجنوب كله سقط في 6 ساعات. في بيروت اتخذت القوات السورية التي كانت هناك تشكيلات قتالية إضافة إلى القوات الخاصة الموجودة في الجبل والتي قصفت وهي تتحرك، ومع ذلك فقد خاضت القوات السورية معارك بطولية حيث تسنى لها أن تقاتل فعلاً: في عين زحلتا والسلطان يعقوب ومدخل بيروت الجنوبي (خلدة).
وبطبيعة الحال، كان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 نقطة تحول عسكري بالنسبة لنا في سوريا ولبنان، بل إنه كان نقطة تحول نوعي في الصراع العربي الاسرائيلي، فبعد هذا الغزو الذي حصل عام 1982 ولدت المقاومة الوطنية والاسلامية، وهي تشكل اليوم بُعدù أساسيù في الصراع العربي الاسرائيلي، لولا هذه المقاومة في لبنان لم تحصل الانتفاضة في فلسطين. إن الانتفاضة في فلسطين هي وليدة المقاومة في لبنان، كل الظروف مترابط بعضها ببعض.
في العام 1983 كانت أيضù محطة مهمة، فالقوى الأطلسية كلها كانت موجودة وكلها شاركت في القتال، الطيران الفرنسي والبوارج الأميركية والجنود البريطانيون والطليان، كلهم في النهاية شاركوا في القتال، أو في الضغط بشكل أو بآخر… وما هي النتيجة؟ ذهب الكل وبقي لبنان وبقيت سوريا إلى جانبه حيث كانت. ولقد خُلقت روح وطنية أكثر عافية في لبنان، وهذه من أهم التحولات التي أفرزها الصراع العربي الاسرائيلي في طوره الراهن.
قلبنا الصفحة إلى المجال الدولي، وتحديدù إلى أيام عبد الحليم خدام الدبلوماسية. سألنا الرجل الذي أمضى خمس عشرة سنة وزيرù للخارجية إلى جانب حافظ الأسد… وسألناه:
* في العودة إلى الوراء، متى رأيت كيسنجر لأول مرة، خصوصù أنه كان أول لقاء بين وزير خارجية سوريا ووزير خارجية الولايات المتحدة بعد قطيعة طويلة؟!
قال خدام:
أذكر أنه جاء لزيارتنا والعلاقات مقطوعة بيننا وبين الولايات المتحدة، وكانت شهرة كيسنجر تسبقه إلينا ومعها الارتياب في دوره. ومنذ اللحظات الأولى وفي السيارة من المطار إلى مقر وزارة الخارجية، كانت عندي الرغبة كي أعرف هذا الشخص الذي كثُر الحديث عنه وسمعنا عنه من المصريين الكثير، ومن هو هذا الذي يقدم إلى العالم وكأنه أذكى الأذكياء؟ وفي الوقت نفسه لم أكن في حالة ارتياح نفسي لاعتبارات كثيرة…
ذهبنا إلى المحادثات وبدأ كيسنجر الكلام بشكل »يطري الجو«. كان الحذر شديدù عنده والشكوك كثيرة عندي. وبدأت المحادثات، وكان الحديث يدور حول فصل القوات وتنفيذه قبل أعياد الميلاد ثم يصار إلى الدعوة إلى مؤتمر جنيف في كانون الثاني، وكان السادات قد بعث برسالة إلى الرئيس الأسد يقول فيها إن الاتفاق الذي نفذ على الجبهة المصرية سينفذ على الجبهة السورية، والاتفاق كان يقضي بأن يتم الفصل بشكل تنسحب فيه إسرائيل مسافة مدى المدفعية، بحيث لا يؤثر أي طرف على الطرف الآخر، كانت هذه هي القاعدة.
عندما جاء كيسنجر كان مفهومه للفصل سخيفù ولا يمكن قبوله. أولاً قبل الفصل تحدث بمؤتمر جنيف ومَن سيُدعى إليه وطرح الصيغة وناقش معه الرئيس بعض الأمور التفصيلية من باب محاولة التعرف على المقاصد، فاعتبر كيسنجر أن الرئيس وافق على مؤتمر جنيف بغير نقاش. ولما انتقل الحديث إلى فصل القوات وقع خلاف أساسي حول مدى الفصل وقوة النيران، وضمانات الالتزام بالقرارات الخ…
وعندما عاد كيسنجر إلى مؤتمر جنيف توجه إلى الرئيس الأسد بسؤال حول ما إذا تاريخ 25 كانون الثاني مناسبù، فكان جواب الرئيس: لا توجد مشكلة عندنا، حدِّد اليوم الذي تريده. قال كيسنجر: أم لعل الأفضل يوم 23 منه؟ ورد الرئيس بالكلمات نفسها.. فافترض كيسنجر أننا موافقون، وسجل على مفكرته، ثم قام ليودع شاكرù »على أمل اللقاء في جنيف«. قال الرئيس:
ولكننا لن نذهب؟!
قال الوزير الأميركي: لقد سألتكم عن المواعيد فلم تعترضوا؟!
قال الرئيس: ولماذا نعترض أو نوافق على ما لن نشارك فيه؟!
بعد ذلك جرت اتصالات متعددة وجاء كيسنجر وحاول أن يناور، ولكنه أصبح مثل الكتاب المقروء عندنا، وكان يأتي مسبوقù بحفلة قصف إسرائيلي للضغط علينا، وبالتالي أصبح الأسلوب الأميركي في المفاوضات معروفù: تضغط إسرائيل عسكريù ليأخذ هو مكاسب سياسية، وهذا الباب أقفل عليهم وبقيت المفاوضات أكثر من شهر.
وماذا عن الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، الذي كان أول مَن زار سوريا من الرؤساء الأميركيين؟
قال عبد الحليم خدام:
في حزيران 1974 جاء نيكسون إلى دمشق مع كيسنجر، وبدأت المحادثات مع الرئيس الأسد وكان تركيزنا على محاولة انتزاع إقرار أميركي بضرورة الانسحاب الاسرائيلي إلى حدود 4 حزيران 1967، ولقد تدخل كيسنجر على الخط وبدأ يحاول تغيير مجرى الحديث، وحاول أن يسحب نيكسون بذريعة أن ثمة موعدù محددù لمؤتمر صحافي، يليه غداء، ثم السفر.
هنا قال له الرئيس: نحن مَن يقرر المواعيد، ولم أفرغ بعد من حديثي مع الرئيس نيكسون، وأفترض أنه يريد أن يسمع لكي يبني قراره وهو على بيّنة من حقيقة الوضع.
وأخذ الرئيس الأسد الرئيس الأميركي الراحل من ذراعه، ودخل به قاعة جانبية لاستكمال المناقشة.. وهنا صدرت عن نيكسون حركة لا يمكن أن ننساها. لقد قال للرئيس: آه من هؤلاء اليهود. إن عليك أن تدفعهم بلطف إلى حافة الهاوية، ثم تدفعهم إليها هكذا (وحرّك قدمه كمن يدفع شيئù أمامه…).
بعد هذه الواقعة بعشرين يومù أو يزيد قليلاً فجرت أزمة ووترغيت التي أطاحت، في النهاية، بنيكسون.
* * *
أخذتنا متعة الحوار أطول مما قدّر »السيد النائب«.
وحين ألححنا لسماع المزيد منه، قال ضاحكù: أتركوا لنا شيئù للمذكرات…
ولم يكن أمامنا غير أن نشكر هذا السياسي العقائدي الدبلوماسي المخضرم، الذي عاش إلى جانب حافظ الأسد فعرفه أكثر من غيره، وكان من حسن حظه أنه أخذ عن واحد من أهم الزعماء في هذا العصر.

Exit mobile version