بينهما لم يوجد ما صنع الحداد ولا ما صنع النجار. عندي تعرفت الواحدة على الأخرى. عرفتهما تعشقان الحوار في كل درجاته الحرارية، وبخاصة أسخنه. تختار كل منهما في الحوار الجانب في القضية الذي يناسب طبيعتها وميولها وتجاربها الشخصية. تستمعان باهتمام لآراء المستمعين والمشاهدين وفي ردودهما لا تنفعلان. لا تطلبان من الحضور أكثر من احترام الخصوصيات، خصوصيات الضيوف وخصوصيات الغائبين وخصوصيات طرفي الحوار. أما أنا فمطلوب مني أن أكون موجودا وإن قبلت أدرت الحوار حسب فهمي لوظيفة إدارة الحوار. أفهمها على النحو التالي: تقديم القضية محل الحوار، التنبيه إلى تجاوز الوقت، قمع المتطرف والجاهل من طالبي المشاركة بسؤال أو تعليق، تبريد الغرفة إن ارتفعت حرارتها تعاطفا أو غضبا وتدفئتها إن تجمدت سكونا أو برودة.
عالم البشر ملآن بأهل الخير وأهل الشر. انشغلت شخصيا في أوقات متفرقة من حياتي بالبحث عن مصادر الخير والشر في حياة البشر. حدث ذات مرحلة من مراحل عديدة في مسيرة النضوج العقلي أن انخرطت في فصل أطل منه أو بعده على الفلسفة. تعلمت فيه الشيء البسيط، فالفلسفة حقل لا أول له ولا آخر وحصاده من نوع كنوز لا تشبع ولا تفنى. أذكر أنني قبل أن أنضم إلى فصل الفلسفة ذهبت إلى المعلم وكان مهاجرا من أصل روماني لأطلب الانضمام. سألني عن دوافعي وقد تجاوزت في نظره سن الطالب العادي. أجبته أنني وقد قررت التوسع ثم التعمق في دراسة العلاقات الدولية لم أجد مناصا من التعرف أولا على مصادر كل هذا الشر الذي يخيم على علاقات الناس بعضها بالبعض الآخر وعلاقات الدول والحروب الناشبة فيها وفيما بينها. أرشدني أهل الخير، هكذا أضفت، إلى حقل الفلسفة فالنبع فيه كما يقولون لا ينضب ولن أندم. أيها المعلم، ها أنا أمامك وطلب انضمامي فوق مكتبك ينتظر توقيعك بالموافقة. أجلسني وانطلق يسأل بعد أن وضع بين يدي نوعا من وعاء راح يفرغ فيه شرابا في لون القهوة ودفئها.
بعد ساعة تحولت خلالها من طالب علم إلى كتاب مفتوح. سكت معلم الفلسفة. دام السكوت طويلا، ربما أطول من دقيقة، وعيناه لا تفارقان وجهي وأصابعه تداعب لحيته الأنيقة وخصلة من شعر رأسه لم تتوقف عن التراقص. أخيرا خرجت الكلمات في حروف ناعمة ولكن بنبرة فيها حسم وعزم. إذهب فأنت منضم ولو بعد حين وبشرط. عد بعد شهرين وفي يدك بحث من ثلاثين صفحة عنوانه الطبيعة البشرية في المسيحية والإسلام، تعرض خلاصاته على زملائك في الفصل ونقرر معا في نهاية المناقشة شكل انضمامك والدرجة التي يستحقها البحث ومستقبل علاقتك بحقل الفلسفة.
أطلت في تقديم موضوع حوار الليلة ولكن بغرض. أردت التأكيد على حقيقة أن للموضوع مكانة متقدمة منذ القدم في علوم الفلسفة والأديان، وأن الأجيال لا تزال تتحاور حول إن كان الأصل في سلوكيات البشر الخير أم الشر. نولد بطبيعتنا والشر معنا أم نولد أحرارا منه ولكنه يقف مع الخير في انتظارنا ليبدآ معا صراعا لا ينتهى إلا مع نهايتنا. أعرف عنك يا وفاء اعتقادك أن الشر طبيعة من طبائع البشر، وأعرف عنك يا رفاء اعتقادك أن الخير والشر خياران تصنعهما تجربة حياة. خياران يتناوبان على عقل الإنسان وغرائزه وعواطفه لحظة اتخاذ قرار ليختار بينهما بمطلق إرادته الحرة.
بدأت وفاء. «أشكر للسيد مدير الحوار إعطائي فرصة أن أكون أولى المتحدثتين ففي تقديمه هذه الجولة من الحوار قدمني قبل أن يقدم غريمتي. فهمت من بادرته أنه فضلني عليها واختارني لأفتتح الحوار. لن أعود، كما عاد مدير الحوار إلى الماضي البعيد لأنقب فيه عن نقطة البدء في علاقتي بالموضوع، وأقصد به الشر كطبيعة بشر. المدير راح بعيدا في جانب من سيرته الذاتية لأنه يكبرني بعقود عديدة وكان لا بد أن يستذكر في حديثه سنوات شبابه عندما عاد إلى الجامعة ليستزيد علما. أنا لم أكن في حاجة لأستاذ فلسفة يكلفني ببحث حتى أتعلم من البحث حكاية أصل الشر عند الإنسان. كان يكفيني وأنا لم أبلغ بعد الخامسة عشر من عمري، أي قبل سنوات قليلة، أن أراقب ابن اختي البالغ من العمر وقتها ثلاث سنوات وهو يكشف عن شر متأصل فيه ويأتي أفعالا لم يشاهد أحدا من عائلته يمارسها أمامه.
أنا نفسي. أسمعهم في البيت الذي نشأت فيه يتندرون بسيرتي في مرحلة الطفولة. أمي كانت تحكي عني كيف كنت أؤلف حكايات وهمية يظهر فيها شقيقي الأكبر بعامين طفلا شريرا يعذب شقيقته «الوديعة» كلما غابت أمهما خارج البيت. سمعتهم يتحدثون عن قدراتي وأفكاري التخريبية، عن صحون تتكسر ومفارش مائدة تجر جرا بما عليها وبدون سبب واضح لأهل البيت والخدم وعن دمى تفقأ عيونها وتمزق ثيابها، عن صراخ بدون دموع أو جوع وسلوكيات لاحظوها واستمروا يراقبونها سنوات أمام دهشة الأطباء وعجزهم».
تطلعت رفاء ناحيتي وأشارت بأصبعها فأومأت برأسي. قالت «عزيزتي وفاء، اسمحي لي بالمقاطعة وقد استأذنت من المدير في الكلام فأذن. أولا أهنئك على صراحتك. لا يا آنسة وفاء أنت لست ـ كما تلمحين، نموذجا لإنسان تؤكد بعض تصرفاته الزعم بأن بني البشر يولدون ومع كل منهم نصيبه من الشر، إن صح التعبير. لا يجوز أن نترجم الرمزية في قصة حواء وآدم حقيقة مقدسة في فهمنا للطبيعة البشرية. لا يجوز أن نقنع أنفسنا بأن إقدامنا على الاعتراف بالذنب مبرر كاف لأن نحمل على أكتافنا وداخل قلوبنا وعقولنا طول حياتنا الاقتناع بأن الشر صار من طبيعتنا منذ أن لبى الإنسان الأول غواية الحية وقضم التفاحة.
أبدأ معك من حيث انتهيت. طفلة تخرب وتدمر وتكره ليست دليلا كافيا وضروريا لاقتنع بأنها في الأصل شريرة. أكاد أجزم أن هذه الطفلة إما أنها كانت شاهدة بعد ولادتها على ممارسات عنف أو كره تبنتها هي نفسها أو أنها، وكما يقول علماء نفس الأجنة، تسرب إليها وهي جنين في بطن أمها، مؤثرات أثرت في الأم الحامل وفي الجنين الذي يتكون في رحمها.
بحماسة معهودة فيها تدخلت وفاء قائلة: «أشكرك يا سيدي على إتاحة الفرصة للرد على رفاء. نعم، لا داعي للاقتراب من الأسطورة. دعينا نتحدث معا عن الحال الراهنة. سمعت منذ أيام رجلا يردد اتهام السوشيال ميديا بأنها وراء اغلب مشكلات البشر الحالية. يقول الرجل: «أنا لست أنا، أنا أكتب لبشر لا آراهم ولا يرونني. أوقع على ما أكتب باسم مستعار. أكتب كذبا. استخدم فيما أكتب كلمات عنيفة. صرت أشد ميلا لرصد التطورات السيئة. أعتقد أنه مرت علينا سنين عديدة لم أكتب خلالها عن إنسان أو مجتمع أو مجموعة من البشر تمارس الأخلاق الحميدة. يا رفاء، إذا كانت السوشيال ميديا مصدر شر فدعينا لا ننسى أن بشرا ابتدعوها وبشرا يستخدمونها».
«يا رفاء، هل تنكرين أن رجلا واحدا يدعى دونالد ترامب استطاع، حسب تعبير الأستاذ دام ماكادامز عالم النفس الأمريكي، أن يؤثر بعمق في توجهات جيل كامل من قادة الرأي ورجال السياسة في عديد دول العالم. ستقولين إن كثيرين في التاريخ أثروا بعمق في أجيال وأجيال لأرد عليك بأن أحدا لم يكذب ويعلم الكذب ويمارس الأبشع ويجمع حول خطابه المفعم بالكره المريدين بالملايين مثلما فعل ترامب. يقال إن العالم في ظل ترامب أسوأ خلقا. أليس هذا دليلا على أنه من طبيعة البشر الارتياح إلى ترامب وما يمثله».
استأذنت رفاء لتقول: «يا وفاء أرجوك التوقف عن التلاعب بالكلمات لتثبيت ما تؤمنين به في أذهان الحاضرين. ما تنقلين عن ترامب صحيح وكذلك حديثك عن دوره وتأثيره في عالم اليوم. ولكني أختلف معك حين تعتبرين ما يفعله ترامب وإقبال بعض الناس عليه دليلا على أن الشر عاد ليولد يوم ولد دونالد ترامب وكل مريديه من بني البشر. الحقيقة كما أراها هي أن ترامب وتغريداته أدوات شر وكذلك الجانب الأسود والجوانب «المجهلة» لنا حتى الآن في السوشيال ميديا. أدوات لم تولد مع الإنسان وبريء منها الإنسان عند مولده ولكنه إن اختار طريق الكذب والكره والتعصب فقد اختار بإرادته الشر شريكا لحياته. أنظري كيف يتصيدون الأخبار السيئة وعناصر القلق والتوتر. أنظري أيضا كيف يتحولون من بشر عاديين طيبي المعشر إلى وحوش تفترس الكلمة وتنهش السلوك. ثم اسألي نفسك هل لهذا التحول علاقة بما تسميه الشر كطبيعة بشر».
ردت وفاء: «نعم. التحول نحو فساد أكثر وعنف أشد وكره أعمق ما كان ليقع لو لم يكن الشر متأصلا في النفوس. يا صديقتي كيف تفسرين أن هناك بشرا يعيبون على النساء اغتصابهن، وبشرا يعيبون على الفقراء فقرهم وعوزهم، وعلى مرضى الأيدز مرضهم. بماذا تفسرين شماتة تلاميذ في زميل لهم يجري عقابه لخطأ ارتكبه وتجاهل الناس لأبرياء محكومين ظلما أو قمعا أو ترهيبا. بماذا تبررين عتابك لي على تصرف غير لائق وأنت بالكاد انتهيت من ارتكابه. ما حكمك على مجموعة من الناس تعتنق الكارما، تقبل بحكم القدر وتخاف التغيير إلى الأحسن».
«عزيزتي رفاء، إجاباتي على هذه الأسئلة لو أنت التي وجهتها لي يلخصها موقفي الصريح. ما كانت لتوجد هذه الأنواع من البشر تؤثر في حاضرنا ومستقبلنا لو لم يكن الشر من طبيعتها وأساس تكوينها».
انتفضت رفاء فيما يشبه الغضب وقالت بصوت خفيض يكاد لا يسمعه الجالسون في الطرف المقابل من الغرفة «العزيزة وفاء. أرفض موقفك وما ينبنى عليه. أؤكد مرة أخرى إيماني بأن الإنسان حر فيما يختار وأنه في ظل ظروف عادية وطيبة وعادلة لن يختار الشر».
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق