طلال سلمان

حماية انجاز وطني من مستنقع طائفي

حتى من قبل أن تتوقف الغارات الإسرائيلية على لبنان، مستهدفة إنسانه وعمرانه، كان العمل قد بدأ لتشويه صورة ما جرى حتى تتبدى النتائج كارثية، ولا تتبقى مساحة لتقدير الإنجاز الوطني بالصمود، ولإيفاء المقاومة حقها الذي شهد به العدو، والمتمثل في أنها نجحت في المواجهة التي امتدت لثلاثة وثلاثين يوماً بكفاءة نادرة، محققة إنجازاً تاريخياً.. إذ لم يحدث في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أن صمد جيش عربي واحد أو مجموعة جيوش، وبقيت في الميدان فلم تتخاذل ولم تتراجع ولم تهزم.
كان في حكم الممنوع، بل المحرّم، أن تتبدى المقاومة، كفكرة ثم كتنظيم شعبي متين يحظى بالتفاف أهله ومساندتهم، في صورة المنتصر.. فالنصر يكشف من لم يقاتل، ولا ينوي القتال، ومن سلّم بالهزيمة قبل أن تقع ضماناً لاستمرار نظامه وسلطته ولو بحماية العدو أو من كان عدواً ثم هداه الله إلى السلام فأقامه بقوة حرابه، ولحسابه.
ولأن الأنظمة العربية عموماً قد أدمنت الهزيمة حتى ألفتها وسلّمت بها قدراً، بل هي باتت تعيش منها وعليها، فإنها صارت تخاف أكثر ما تخاف من النصر، أي نصر، أو من إثبات القدرة على إنجازه، حتى لا تؤخذ بجريرته فتحاسب عليه.
من هنا هذا التواطؤ العربي العام، على المستوى الرسمي، لطمس صورة المواجهة البطولية التي أبداها لبنان، بشعبه وسلطته وأساساً بمقاومته، للحرب التي شنتها إسرائيل عليه… هذه المقاومة التي قاتل فيها رجاله بكل هذه الكفاءة العالية أحد أقوى جيوش العالم برغم المجازر في البشر وفي العمران وفي أسباب الحياة.
لا بد أن يمسخ ما أنجزه لبنان عبر مقاومته الباسلة المعززة بصمود الشعب الذي تخفف من أثقال الخلافات والاختلافات التي كانت تتبدى طائفية ومذهبية في حين أنها في جوهرها سياسية وتتصل بطبيعة النظام والسلطة وليس بمصالح الناس.
كانت صورة الصمود اللبناني تتبدى أصفى وأوضح عبر النظر إلى الجانب الإسرائيلي حيث تكشّف ارتباك القيادة السياسية إلى حد تبادل الاتهامات والتشكيك بالكفاءة، وانكشاف الفضائح المهينة في أعلى سلم القيادات العسكرية، وارتجاج المجتمع، لأول مرة في تاريخه، تحت وطأة الإحساس بالفشل، وبالتالي انهيار جدار الأمان، وافتضاح رعب الإسرائيليين واضطرار مئات الآلاف من عائلاتهم إلى تمضية ليال سوداء طويلة في الملاجئ،
وفي ذعر من الصواريخ التي تطالهم من خلف السياج الذي كانوا يفترضون أنه لا يخرق… وهكذا تذوقوا ما كانوا يذيقونه لكل الشعوب العربية المحيطة بفلسطين على امتداد نصف قرن أو يزيد.
كانت التظاهرات الشعبية العارمة التي تدفقت في شوارع العواصم العربية إنذاراً منبهاً للأنظمة إلى أن احتمال انتصار المقاومة في لبنان هو هو مصدر الخطر عليها…
وكان خيار هذه الأنظمة واضحاً: المساعدات للبنان المهزوم ولا تلقي الصدمات من لبنان المنتصر. ومن ثم محاولة دمغ المقاومة بشبهة انتمائها الطائفي لتلحق بها تهمة العمل لغيرها!
وصار قرار مجلس الأمن 1701 جدار الحماية المحصّن.
وصار الأمين العام للأمم المتحدة هو معقد الرجاء، وعليه أن ينجز ما لم تستطع الدول العربية مجتمعة ومعها الأصدقاء الكبار في العالم أن يضمنوه في هذا القرار، الذي جاء ظالماً للبنان وواضح الانحياز إلى معسكر الأقوياء، حلفاء إسرائيل بزعامة الإدارة الأميركية.
ومع التقدير للدور الإيجابي الذي لعبه السيد كوفي أنان، وشجاعته إن في زيارة الضاحية الجنوبية لبيروت، أو في لقائه العلني مع الوزير الممثل ل حزب الله في الحكومة، ثم في تصريحاته الأولى في إسرائيل، والتي أكد فيها أن الخروقات في الجنوب هي بأكثريتها الساحقة إسرائيلية ثم في مطالبته وإلحاحه على ضرورة رفع الحصار، فإن ثمة مهمات تتعدى نطاق صلاحيات هذا الموظف الأممي الكبير الذي جاءنا في رحلة وداع، والذي أقصى ما يستطيعه هو أن يكون الشاهد العدل على ما جرى في تقريره لمجلس الأمن بعد أيام.
لكن المطلوب يتعدى مهمة أنان: إن حماية الصمود اللبناني كإنجاز وطني وعربي عظيم، هي مهمة جليلة يجب أن يحرص الجميع على أن يكونوا شركاء فيها.
إن التفريط بهذا الإنجاز جريمة بحق الوطن وشعبه ودولته قبل أن يكون ثأراً من مقاومته، وسعياً لإضعاف قدرتها على استثماره سياسياً.
وعجيب أن يفضل بعض القوى السياسية أن يحظى بعطف المشفق وتصدّق رجل الخير، على أن ينال حقه من التقدير الذي استحقه بصموده الذي بذل فيه دمه ورفع به رأس شعبه وأمته.
ليس اللبنانيون طلاب حسنة أو صدقة.
لقد قاتلوا عدوهم، عدو الأمة، وصمدوا له، كالمرابطين القدامى، وألحقوا به ما استطاعوا من خسائر، وكشفوا عدوانيته للعالم، وفضحوا واقعه السياسي والعسكري، ومنعوه من إحراز نصر كالذي تعوّده..
ومن حق هؤلاء الأبطال أن يسائلوا غيرهم عما قدموه لوطنهم، لا أن يتلوا فعل الندامة أو التوبة عما ارتكبوه من إثم الصمود.
وجريمة في حق لبنان، والعرب جميعاً، أن يصار إلى محاولة إغراق هذا الإنجاز الوطني والقومي في مستنقع الحساسيات الطائفية والمذهبية، بذريعة ألا يفيد منه طرف على حساب الآخرين، وألا يتكشّف معه تخاذل الأنظمة التي طالما ضيّعت كرامة أوطانها لتبقى.

Exit mobile version