طلال سلمان

حماس في سلطة امتحان

من خارج أي توقع، جاء لقاء سعد الحريري مع الرئيس الأميركي جورج بوش متزامناً باللحظة مع إبلاغ البيت الأبيض نتائج انتخابات المجلس التشريعي في فلسطين (التي ما زالت تحت الاحتلال…) وهي النتائج التي أعطت الأكثرية المطلقة لحركة »حماس« على حساب »فتح« بكل ما انتهت إليه وأفقدها موقع قيادة شعبها الذي استمر مسلّماً بها على امتداد أربعة عقود…
ومع أن هذا الحدث الطارئ لم يكن على جدول أعمال اللقاء الاستثنائي في واشنطن، فمن المؤكد أن تداعياته عربياً وإسلامياً ودولياً كانت تشغل بال المضيف وتلقي بظلالها على كلماته حول الديموقراطية في لبنان وموقع القرار الدولي 1559 منها… أما ضيفه، »رئيس الأغلبية النيابية« فلا بد أنه انتبه إلى أن التطورات قد تجاوزت الجدل البيزنطي المقرر بقصد مقصود حول السلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها…
ذلك أن لبنان سيكون من أكثر المعنيين بالانقلاب الفلسطيني الديموقراطي متمثلاً بوصول »حماس« إلى السلطة في فلسطين بديلاً من فتح التي ظلت الأغلبية المطلقة لدهر وعلى حسابها…
فالتغيير المتعدد الأبعاد الذي سوف تشهده فلسطين تحت الاحتلال سوف يعيد طرح قضايا كثيرة معلقة تتصل بالصراع مع العدو الإسرائيلي داخل فلسطين وعلى النطاق العربي، مع تسارع ردود الفعل الغاضبة واللائمة والمستفزة التي صدرت عن قيادات غربية متعددة…
ولن يستطيع أحد تجاهل وقائع ذات دلالة بينها أن أول المهنئين، شخصياً وعبر استقبال رسمي لقيادة »حماس«، كان الرئيس السوري بشار الأسد، وبينها أيضاً أن وزير الدفاع الإسرائيلي أشار إلى استحالة التعامل مع »حماس« وحذرها »من ضربة غير مسبوقة«، في حين أن الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون تحدث عن »فرص كثيرة تمكن حماس من ابتداع الحل الوسط«.
وبديهي أن يبادر الرئيس المصري حسني مبارك إلى توجيه التهنئة لقيادة »حماس«، مع دعوة إلى تغليب الروح الوطنية على العصبوية التنظيمية، وهو الذي يستطيع أن يفاخر بأنه سمح بانتخابات نيابية ديموقراطية بهذه النسبة أو تلك أدت إلى فوز ثمانين نائباً، أو أكثر قليلاً، من التنظيم المصري الشقيق ل»حماس«، الإخوان المسلمين.
فلقد انتهى النظام المصري، وبعد دهور من الصراع ومن إنكار القوة الشعبية لتنظيم الإخوان المسلمين، وتحت ضغط المطالبة الغربية التي وصلت حد التلويح بقطع المساعدات، إلى »الاعتراف« بهذا التنظيم الذي قاتل ثورة 1952 وقاتلته، وإلى السماح له بالمشاركة في الحياة السياسية… ولو من دون ترخيص شرعي…
كذلك كان بديهياً أن يتصل الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مهنئاً، وهو الذي اكتوت بلاده بنار تجربة دموية مرعبة، نتيجة عدم الاعتراف بشرعية »أخوة غير أشقاء« لحركة »حماس« في بلاده، ممثلين بجبهة الإنقاذ، ربحوا الجولة الأولى من انتخابات ديموقراطية، ثم قمعوا فمنعوا ومعهم كل الشعب الجزائري من إكمال الانتخابات واستيلاد مجلس نيابي بالديموقراطية!
ذلك أن تنظيمات أصيلة أو مستولدة من »الإخوان المسلمين« قد ورثت أو وُرّثت بالقوة في العديد من الأقطار العربية، الحركة القومية بأحزابها العريقة (البعث والقوميين العرب)، وكذلك بعض التنظيمات اليسارية التي اهتدت إلى العروبة متأخرة، وورثت معها القضايا التي كانت تمنح تلك الأحزاب شرعيتها الشعبية، وأولها وأخطرها: قضية فلسطين، ورفض التسليم بالاحتلال الإسرائيلي قدراً (أقله لكامل أرضها).
ولسوف يُكتب الكثير عن تجارب هذه الأحزاب وأسباب فشلها، ولكن المؤكد أن السلطة كانت الامتحان الخطير الذي »سقطت« فيه من وجدان شعوبها، وتحولت من أمل بغد أفضل إلى خصم خطير للأماني الشعبية ولحق أوطانهم في الحرية والتقدم.
لقد وصلت الغالبية من تلك الأحزاب إلى السلطة بالانقلاب العسكري لا بأصوات الناخبين.. وكان كل من تجبره التطورات على الخروج من السلطة يدمر كل شيء قبل أن يغادر (إلى الخارج، هذا إذا توفرت له السلامة) حتى لا يحاربه »النظام الجديد« بأخطائه وبأسلوبه ذاته…وبمعنى ما فإن هذه أول عملية انتقال سلمي للسلطة بين تنظيم سياسي عربي حاكم وتنظيم سياسي كان في المعارضة… وبالتالي فهو حدث تاريخي، يواكبه خوف عظيم من أن تفشل التجربة التي يشكل خصومها جبهة عريضة تحتشد فيها دول عظمى ومنظمات قوية وأنظمة عربية ترعبها كلمة التغيير…
ذلك أنه بقدر ما هي فلسطين قضية داخلية في كل بلد عربي (وإسلامي)، فإن إسرائيل قضية داخلية بالنسبة للغرب عموماً،
يستوي في ذلك الأميركيون والأوروبيون.
ولعل هذه أخطر معضلة ستواجه »حماس« وهي تتولى السلطة وتضطر إلى التعامل مع الغرب مجلببة بموقفها العقائدي وشعاره الديني.
وبين المفارقات اللافتة أن القوى العظمى التي ضغطت على الحكم في مصر وفي الجزائر (وفي الأردن بدرجة أقل) للاعتراف بالإخوان المسلمين، ومنحهم الفرصة ليكون لهم موقعهم السياسي »الشرعي« هي نفسها التي تجهر بخصومة »حماس« وتهدد بمعاقبة ناخبيها أي الشعب الفلسطيني مرة أخرى…
* * *
لقد أسقط الفلسطينيون سلطة فتح التي فجعتهم بفسادها، واختاروا بديلاً متطهراً، وإن كان براغماتياً في ممارساته السياسية، وقديراً في استقطاب الجماهير التي وجدت سلطتها تقودها إلى سلسلة من الهزائم التي تكاد تذهب بقضيتها.
ولكن عن أي فتح ترانا نتحدث الآن، وثمة ما بين غزة والضفة و»الخارج« مجموعات من فتح ندر أن تتطابق واحدتها مع الأخرى، ويستحيل أن تتطابق شعاراتها وطموحاتها مع سلطتها، بل إن ثمة تخوفاً جدياً من تصادم في ما بين فتحاويي السلطة وفتح الشارع.
لقد انتهى زمن الثورة بشعاراتها البرّاقة، وبالتزاماتها الوطنية، في زمن السلطة النقّالة والانتقالية والتي ضيّق عليها فسادها المساحة التي تركها لها العدو الإسرائيلي فاختنقت، وسقطت.
وثمة من يقول إن النزعة إلى السلطة قد استهلكت قيادات فتح حتى من قبل الوصول إلى فلسطين، وأن الانتخابات كانت بمثابة رصاصة الرحمة التي أطلقها شعب فلسطين، ومن ضمنه الأجيال الجديدة من مناضلي فتح، على التنظيم الأم الذي كان له شرف إطلاق الرصاصة الأولى في مسيرة التحرير.
أما »حماس« الداخل فهي التي ربحت، وأهم أسباب نجاحها قد جاءتها من منافسها الذي قتلت سلطته حزبه، إضافة إلى نضالات مجاهديها ودماء شهدائها… وهي في هذا تكاد تتساوى مع فتح خاصة في أن العديد من قادتها المؤسسين يتصدرون صفوف الشهداء.
ومؤكد أن العرب عموماً، وليس الفلسطينيون فحسب، يتمنون النجاح لهذه التجربة الفريدة: تداول السلطة بين حزب حاكم أنهته السلطة كحزب وحزب معارض يدخل امتحان السلطة وسط مصاعب هائلة.
وليس أعظم من التمني غير الخوف من أن ينجح العدو في استغلال الخلافات الحزبية، التي يتعاظم القلق من أن تتحول إلى خصومات فمناكفات فاشتباكات تذهب لا فقط بالتجربة الفريدة، بل بالأمل في أن ينجح الفلسطينيون بوحدتهم المؤكدة مجدداً من متابعة جهادهم الأكبر على طريق استخلاص حقهم في وطنهم وإقامة دولتهم على المحرَّر من أرضهم.

Exit mobile version