طلال سلمان

حكومة موريتانيا اف 16

ليس أسهل من استغلال الخطأ الفادح الذي ارتكبته حكومة موريتانيا بإيفاد وزير خارجيتها إلى إسرائيل، في هذا التوقيت بالذات، لتبرير خطايا سبق أن ارتكبتها حكومات عربية عديدة، أو وهذا هو الأخطر لتكرار المقولة الثابتة والدائمة والتي مفادها: لا أمل في العمل العربي المشترك ولا جدوى من اللقاءات، على مستوى القمة أو على مستوى السفح، فقرار العرب بمعظمهم ليس في أيديهم، وإنما يؤمَرون فيطيعون!
سوف نجد من يرفع صوته باتهام جامعة الدول العربية ولو باستخدام المنطق الشكلي للدفاع عنها: فالجامعة في قراراتها هي حصيلة المواقف العربية المتباينة التي لا تلتقي إلا عند… ما لا معنى له، أي عند الكلمات المبهمة والشديدة العمومية والتي تهرب إلى المطلقات لعجزها عن التحديد.
وسوف تواجَه موجة الانتقادات والإدانة لموقف حكومة موريتانيا بمن يقول: استضعفوها فوصفوها!
ولسوف تغيَّب، مرة أخرى، حقائق الوضع السياسي داخل هذا القطر العربي الأفريقي البعيد، والفقير، والذي سبق لشعبه الطيب ان عبّر عن موقفه »الفلسطيني« بأصرح وأقوى لغة »قومية« في مبناها ومعناها، وهو لا يكاد يغادر الشارع حتى يعود إليه مسانداً الانتفاضة بأهدافها الجليلة، مؤكدا وعيه بطبيعة المشروع الصهيوني في فلسطين، مجاهراً باستعداده للقتال بالسلاح ضد إسرائيل التي يدرك أنها تشكل خطراً على العرب العاربة والعرب المستعربة والعرب المستفرقة الخ..
عبر الإدانات التي ستنهال كالمطر على الحكم في موريتانيا (وهو يستحقها) ستغفل حقيقة بسيطة وهي: ان إسرائيل تعمل على مدار الساعة، وعلى كل الجبهات، السياسية والاقتصادية، العسكرية والدبلوماسية، الثقافية والزراعية، وفي الشرق الإسلامي والأرثوذكسي والهندوسي والبوذي والكونفوشيوسي وفي الغرب الكاثوليكي والبروتستانتي والمهجن لاستقطاب كل من يمكن استقطابه ولتحييد من كان صديقا للعرب ومتعاطفا مع نضال »شعبهم« في فلسطين على وجه التحديد.
وستغفل حقائق بسيطة مشابهة من نوع أن التغلغل الإسرائيلي في قلب العديد من الدول العربية، مباشرة او بالواسطة، لم يبدأ بالأمس القريب، ولن يتوقف اليوم، وهو سابق بكثير وأعلى بكثير من »مستواه« مع حكومة »نياق الشوط«.
.. أو من نوع ان بعض الحكومات العربية تجيء بالعصا الاميركية وبعضها بالجزرة الاسرائيلية المباشرة، ان على شكل مساعدات »مالية« او »عسكرية« او »زراعية«.
.. او من نوع وهذا هو الاخطر مساندة بعض الحكومات العربية ضد بعضها الآخر، حين يكون بين هذه وتلك خلافات حدودية او منافسات على المكانة والدور، سواء في آسيا او في افريقيا، ودائماً داخل ما يسمى افتراضاً »الصف العربي«.
.. وهو صف سهل تقسيمه الى صفوف عدة، بحكم واقعه، أما الصعب فهو توحيده عملياً، سواء على قضية سياسية كما فلسطين، او حتى على قرار شكلي كمثل القول ان الارض كروية وان القمر واحد وكذا الهلال، وان بداية شهر رمضان يمكن ان يحددها المرصد فيصوم العرب معاً ويكون عيدهم واحداً في تاريخه!
لا أحد يدافع عن خطأ الحكم في موريتانيا، وهو مستفز اليوم لأنه بلغ ذروة التحدي، لكنه لم يكن إلا كذلك دائماً ولكن لمن؟!
إن من سكت عن الخطأ في بداياته يصعب عليه ان يعترض على تفاقمه الآن.. خصوصاً أن موريتانيا كانت دائماً على الهامش، ولم تؤخذ مواقفها او اوضاعها بالاعتبار في اي يوم مضى، واكثرية »الرسميين« العرب لا يعرفون موقعها بالضبط ولا طبيعة تركيبتها السكانية، فضلا عن حكوماتها الانقلابية المهددة بانقلابات مضادة دائماً، ظاهرها قبلي وشبه عنصري، وباطنها التنافس الاميركي الفرنسي على بواقي الامبراطورية الفرنسية ووريثتها الشكلية ممثلة بمنظومة الفرانكوفونية.
على ان الاجدى ان نلتفت الى الخطة الاسرائيلية واستهدافاتها والتي قد تكون موريتانيا مجرد تفصيل فيها.
بديهي ان يكون بين اهداف اسرائيل الدائمة، والملحة الآن في ظل التداعيات المنطقية لتأثيرات انتفاضة الاقصى على الشارع العربي، ان تُظهر خواء قرارات الاجماع العربية، واستطراداً هزال كل ما يصدر عن جامعة الدول العربية وصولا الى ما يصدر عن القمم العربية… والسوابق كثيرة وفضاحة.
ولعل اسرائيل قد تقصدت ان تجيء الضربة بهذا التوقيت تحديداً لكي تصيب مقتلا من عمرو موسى، الذي عُقدت وتُعقد عليه آمال تفوق الامكانات المتاحة أمامه ل »بعث« جامعة الدول العربية كمؤسسة، واعادة قدْر من الاعتبار الى مؤسساتها المنسية، فضلا عن قراراتها التي تظل في العادة حبرا على ورق.
باختصار، إن الرد على قرار حكومة موريتانيا ليس بتأديبها فحسب، وهذا أمر يتجاوز اختصاص الجامعة وأمينها العام، بل يكون في فلسطين، بدعم انتفاضتها جديا، وفي تصعيد المواجهة مع اسرائيل. والخطوة الاولى هي امتناع بعض العرب عن التبرع بدور الوسيط بين الفلسطينيين وحكومة السفاح شارون.
الرد يكون في فلسطين التي تقدم فتيتها وقودا لانتفاضتها، وتعيد بدمها الى العرب بعض اعتبارهم المفقود.
وما كانت حكومة موريتانيا لتتورط بمثل هذا الخطأ السياسي القاتل لو أن سائر العرب كانوا حيث يجب أن يكونوا في انتفاضة فلسطين، وفي لجم اسرائيل عن المضي في حرب الإبادة التي تشنها على مشهد منهم جميعا ضد الفلسطينيين، وفي الضغط لوقف المدد الأميركي المتعاظم للاسرائيليين في حربهم المفتوحة هذه.
والأف 16 للتذكير، التي قصفت بيوت الفلسطينيين وسجونهم أميركية الصنع وليست موريتانية.
أما حكومة موريتانيا فأمرها لا يتجاوز بضعة آلاف من الدولارات!

Exit mobile version