طلال سلمان

حكومة اميركية كونية فيتو عربي

من الطبيعي ان يستهول رئيس مجلس الامن، مندوب فرنسا، جان ديفيد ليفيت، »الانجاز التاريخي« الذي يستاهل ان تخرق من أجله العطلة الاسبوعية، السبت، وان يهتف بما حرفيته: »توجد في حياتنا كدبلوماسيين بعض الايام نشعر فيها باننا نصنع التاريخ.. والليلة، ربما كان مجلس الامن يصنع التاريخ. هذه الليلة تبنينا استراتيجية طموحة للغاية لمحاربة الارهاب في جميع أشكاله«!
مسكين هذا »التاريخ« الذي تُنسب صناعته تارة الى »شبح« مختفى في قعر العالم، وطوراً الى عدد من الدبلوماسيين المرفهين، بينما صناعه الحقيقيون يعكفون على استكمال خطتهم لوضع اليد على العالم، بقاراته جميعاً، وبشعوبه جميعاً، وبدوله جميعاً، في حاضره ومستقبله.
فما بدا للوهلة الاولى وكأنه مشروع حرب كونية ضد اشباح كونية تنتمي الى المقلب الآخر من العالم، تجلى مع قرار مجلس الامن الصادر السبت كخطوة حاسمة على طريق اقامة الحكومة الاميركية الكونية لادارة شؤون العالم واخضاعه تماماً ونهائياً لنظامها الجديد.
لقد انجزت الولايات المتحدة الاميركية، المجروحة في كبريائها والمندفعة الى الانتقام لضحاياها (بغير ان تنسى مصالحها ومطامحها المعلنة التي جاءت اللحظة المناسبة لتأمينها)، وضع يدها رسمياً وعملياً على آخر معاقل الشرعية الدولية، وصادرت القرار في هيئتيها: التشريعية، الجمعية العامة للامم المتحدة، والتنفيذية: مجلس الامن.
بذريعة »الشبح« اسامة بن لادن، الذي لم تهتم الولايات المتحدة بان تقدم دليلاً واحداً على تورطه أو مسؤوليته عن التفجيرات فيها، حُشرت الشعوب (والدول غير الغربية) جميعاً في قفص الاتهام، وصار كل من يفكر بالاعتراض أو بمناقشة التهمة والادلة(؟!) أو بالتساؤل عن مستقبله في ظل الهيمنة الاميركية، ارهابياً أو مشبوهاً بحماية الارهاب او بتمويله أو بالتستر على الارهابيين وايوائهم وتمكينهم من تدمير الحضارة الانسانية ومستقبل البشر فوق هذا الكوكب الصغير!
ولولا شيء من التحفظ لجاز القول: انه لو لم يكن اسامة بن لادن موجوداً لوجب ابتداعه، ولوجب تعظيم شأنه وتضخيم امكاناته وقدراته المالية والتنظيمية!. ولو لم يكن له مثل هذه الملامح الاسطورية (سليل الثراء غير المحدود، المتحدر من صلب السلفية، المهووس بقتال الشيوعية وسائر اشكال الكفر، ثم العمة واللحية والقفطان والرشاش والقدرة على امتطاء الحصان والاندفاع معه باقصى سرعته لسبعين ميلا بغير توقف الخ…«.
ولولا شيء من الاسى على ضحايا التفجيرات لجاز القول ايضاً: ان الضرورة تقضي بتكبير شبح بن لادن، و»عولمته« لتتكامل اسطورته مع الغرض المنشود، فهي لا بد ان تملأ الكون وتستفزه وتستنفره للقتال ضد هذا السفاح الاخطبوطي الذي يقتل بلا رحمة، وبلا تمييز بين الاعراق والجنسيات، وفي كل الامكنة والازمنة بغير تدقيق في الاهداف وهل تضعف العدو او هي تقويه؟! وهل هي تفيد في فضح جرائمه لفض الناس من حوله ام هي تفيده وتقدمه في صورة »الضحية«، فتغطي جرائمه المموهة بجرائم موصوفة ومكشوفة تنقلها شبكات التلفزة العالمية على مدار الساعة الى كل انحاء الارض فتستثير عطف الشعوب وتنسيها او تهوِّن من مصائبها او هي تجبرها على كبت غضبها خوفاً او مداراة او تقية او نفاقاً حتى لا تقع في خانة المؤيد او الموافق او الشيطان الاخرس الذي لم يمنع الارهاب ولم يوقفه، بل لعله لا سمح الله قد اعجب بالمخطط والمنفذ لهذه العمليات الجهنمية المروعة!
أتمت الولايات المتحدة الاميركية وضع يدها نهائياً على الامم المتحدة، وحولت مجلس الامن الدولي الى »دائرة اجراء« مهمته تعقب من تصنفهم مطلوبين ومطاردة المشبوهين المتهمين، ولو بغير دليل… فالحكم يصدر اولاً وبعد ذلك تتم المحاكمة.. ويستحيل على محامي الدفاع ان يدلوا بمرافعاتهم ولو على شكل المراثي التي تستذكر حسنات الفقيد المجرم الخطير!
انقلبت الادوار رأساً على عقب: لم تعد الامم المتحدة ملاذ الشعوب المقهورة، والمحكمة الدولية المعنوية لمحاسبة قوى الاستعمار العالمي، قديمه والجديد، ومنبر التظلم والادانة للمهيمنين على مقدرات الكون، حماة الطغاة، مستعبدي الشعوب وناهبي خيراتها وحارميها من حقوقها في مواردها الطبيعية.
صارت أي دولة »تستريب« فيها واشنطن، لأي سبب تراه، هدفا محتملا لعمليات التأديب العسكرية، باسم الشرعية الدولية، وبقرار معلن يوازي الحكم المبرم الذي لا يقبل المراجعة أو الاستئناف.
أما الشعوب فتبقى في خانة الضحية المزدوجة: لحكوماتها المصنفة »خارجة على القانون«، بحسب المحكمة الأميركية، ثم لعقوبات المجتمع الدولي التي ستنفذها الجيوش الأممية… فضلا عن أنها قد تستفز الأشباح الأخرى البن لادنية!
ولم يعد »الجيش الأممي« قوة من مناضلي العالم المقاتلين ضد الاستعمار والاحتكار والاستغلال، بل بات قوة عسكرية هائلة الإمكانات، أذرعتها تطال ذروة الفضاء وآخر الأرض، تملأ الهواء والبحار وتنفتح أمامها اليابسة جميعا، فتقرر من له حق الحياة ومن لا بد من إعدامه لحماية الحضارة والتقدم الإنساني نحو الغد.. الأميركي الأفضل!
في هذا الوقت من يهتم بسقوط خمسة شهداء أو عشرة أو عشرين أو مئة شهيد يوميا على أرض فلسطين؟!
ومن يجرؤ على التصدي لإسرائيل بوصفها النموذج المصفى لإرهاب الدولة، تقتل بغير تمييز، تنسف البيوت، تحرق المحاصيل، تحاصر حتى الموت شعبا عريقا تحمل الحضارة الإنسانية بعض بصماته، وكان بين حملة مشاعل التنوير في عهود الظلام والعسف والقهر التي كانت سائدة في الجزء الخلفي، آنذاك، من العالم.
برغم ذلك يمكن للعرب، بعد، حق الفيتو، إن هم اجتمعت كلمتهم على تبرئة أنفسهم من الإرهاب وكذلك من الخضوع له.
إنهم، عبر فلسطين وشعبها، النموذج النقيض للإرهاب الأميركي، بغير أن يكونوا بأي حال نماذج مكررة لشبح أسامة بن لادن.

Exit mobile version