طلال سلمان

حكومات ناي نفس عن دولة

سؤال من خارج السياق يطرح نفسه الآن: كيف سيمارس الحكم في لبنان سياسته المعتمدة رسمياً تحت عنوان «النأي بالنفس» في القمة التي ستعقد بعد ثلاثة أيام لدول عدم الانحياز؟!
السؤال مدخل إلى استراحة قصيرة من أخبار المذابح الجماعية التي تستنزف الجوار السوري بكل ظلالها السوداء على الداخل اللبناني الذي تشغله التفجرات الدموية في «طرابلس الشام» والتي ما تكاد تتوقف حتى تتجدد بنيران المزايدات السياسية التي يتبارى فيها هواة مستجدون مع محترفين متمكنين، بينهم ملتحون وعلمانيون وقاعديون وثوار متقاعدون وطارئون على العمل السياسي بالشعار الديني وطارئون على الشعار الديني لأغراض سياسية.
لنحاول القفز من فوق حالة التسيّب الأمني والخوف الجماعي التي يعيشها اللبنانيون في ظل التزايد اللافت في معدل جرائم القتل والنهب المنظم التي يظل مرتكبوها طلقاء و«مجهولين» برغم أن الجمهور يتداول أسماءهم بلا حرج، مع تحديد الجهات الراعية أو الحامية… بالثمن المعلوم!
لنحاول أيضاً تجاوز جرائم الخطف التي تتوالى بوتيرة يومية والتي صارت لها «تسعيرة» معروفة تقريباً، فالثري السوري غير «رجل الأعمال» اللبناني الذي يعرف الخاطفون ـ ومن مصادر رسمية ـ كيف كوّن ثروته، وسواء أكان مصدرها الفعلي التهريب أو المخدرات أو العمل لمصلحة جهات أجنبية… أما الضيوف من الإخوة العرب، والخليجيين بالذات، فيحظون بمعاملة استثنائية لأن وراءهم دولاً قادرة على المساعدة كما على الإيذاء… وهي قد فعلت ويمكنها أن تفعل أكثر، مما يمكن أن يصيب بالضرر مئات الألوف من اللبنانيين الذين ذهبوا إلى تلك الدول الشقيقة يعملون فيها بكفاءاتهم ليؤمّنوا لأهلهم هنا فرصة العيش بكرامة… وآخر الضحايا هو الضيف الكويتي الذي صاهرنا وعاش بين ظهرانينا مؤمناً أن رابطة القومية والدين والود المقيم تحصنه وتضمن له حياة كريمة بين «أهله» هنا، كما تضمن لأنسبائه اللبنانيين فرصة العمل الكريم في بلاده التي لم تنكر أفضال أشقائها العرب في المساهمة بإعمارها وازدهارها.
ولننس للحظة حكومة النأي بالنفس التي لا تفتأ تتهرب من مسؤولياتها تاركة للجيش والأجهزة الأمنية أن تتلقى الصدمات وهي مكشوفة الصدر والظهر، يخضعها المستفيدون من الفتن لامتحان يومي في وطنية قادتها وعناصرها، ويرمونها بآفاتهم الطائفية والمذهبية، ثم يطالبون بمحاكمتهم!
لقد استقر في يقين الرعايا اللبنانيين أن بلادهم بلا حكم وبلا حكومة وبلا مرجعيات مسؤولة، وإن تراكمت ألقاب أصحاب الفخامة والدولة والمعالي تملأ قاعات الاحتفالات وتتزاحم على افتتاح المهرجانات الغنائية وحفلات الرقص الكلاسيكي والجديد… ومن يتابع الإعلانات وصور كبار المسؤولين وهم يتصدرون الصفوف الأولى ثم ينهضون مصفقين، وقد يصعدون إلى خشبة المسرح للتهنئة والتقاط الصور مع الفنانين النابهين، يكاد يحسد لبنان على رخائه واستقراره وانصرافه إلى الفرح والانشراح بينما الأكثرية الساحقة من إخوانه العرب تعيش في أجواء حروب أهلية معلنة أو مستترة تلتهم البشر والعمران وإنجازات الآباء والأجداد.
لقد باتت المهرجانات والحفلات الراقصة والغنائية امتيازاً لبنانياً جديداً، ترقى الجبال وتحتل السواحل، بل لقد غدا لكل مدينة أو قصبة مهرجانها، حتى لكأن اللبنانيين في حفل غنائي مفتوح، تموج فيه حلقات الدبكة، بما يؤكد القطيعة بين هؤلاء الرعايا… بينما بعض مدنهم تعيش في ظل اشتباكات مفتوحة متعددة الطرف والغرض، وبعض مناطقهم تعيش في قلب النسيان، وبعض «قبائلهم» و«شيوخهم» والتنظيمات الهامشية التي استولدت على عجل، تقيم «دولها» الخاصة بالقوات المسلحة والأجهزة الأمنية فيها، فتلقى الرعاية الرسمية والاحتضان الإعلامي الفظ.
إن لبنان يعيش في قلب الخطر، يتناهب شعبه القلق على المصير، وقد استقر في أذهان الناس عموماً أن لا مرجعية مسؤولة يلجأ إليها فتعينه على الظالم ـ الخارج على القانون في الغالب الأعم ـ وتحفظ له حقوقه الطبيعية في بيته وعمله وأمنه الشخصي، فضلاً عن أمن البلاد بكل أهلها وضيوفها.
مع ذلك فالحكومة حكومات متنابذة، تسعى كل منها للإيقاع بالأخرى، وتشترك جميعاً في تعطيل الدولة أو ما تبقى منها.
… وكل حكومة من هذه الحكومات تنأى بنفسها عن الأخرى، فإذا البلاد بلا كهرباء وبلا اتصالات وبلا اقتصاد وبلا أمن، مطارها مهدد بالإقفال في أية لحظة، وثمة من يخطط لتعطيله كعذر شرعي لافتتاح مطار القليعات انتقاماً من بيروت بذريعة ضاحيتها الجنوبية، وتسهيلاً لإنجاز الخدمات الضرورية التي يحتاجها المقاتلون ضد النظام السوري.
إن الحكومة تنأى بنفسها فعلياً عن اللبنانيين… وطرابلس الشاهد والشهيد، فأن يكون خمس أعضائها، بمن فيهم رئيسها، من طرابلس ثم تعجز عن وقف المأساة الدموية في العاصمة الثانية فذلك يعني أن هؤلاء السادة إما مقصّرون وإما متسبّبون وبالتالي يفترضون أنهم سيكونون بين المستفيدين انتخابياً من مأساة هذه المدينة ذات التاريخ الوطني والقومي المضيء.
ما أكثر الزوار وما أقل النتائج المرجوة لتفريج كرب الرعايا.
وما أكثر أسفار المسؤولين إلى الخارج، رسمية وخاصة، وما أقل الأرباح من هذه الجولات المكوكية التي لا تهدأ من دون أن نلمس ثماراً، سواء في المجال الاقتصادي أو السياسي.
حتى الوعود بالجنة النفطية تكاد تتبخر بسبب التناحر بين الحكومات المتعارضة التي أثبتت براعة فائقة في تعطيل مصالح البلاد والعباد، في حين أن قبرص (وإسرائيل ضمناً) تتقدم بخطى واثقة نحو أن تتحول إلى دولة نفط وغاز، حتى أن روسيا تعهدت بأن تقدم لها قرضاً بالمليارات على حساب إنتاجها المرتقب.
… كيف ستكون الحال إذا ما انزلقت الحالة السورية إلى ما يماثل الحرب الأهلية والعياذ بالله؟!
المؤكد أن المعنيين رتبوا أحوالهم الشخصية بما يساعد على الإفادة من مثل هذا الاحتمال، لا قدر الله.
ولكن ماذا عن الرعايا اللبنانيين؟!
الحكومة ـ الحكومات تنأى بنفسها عن تقديم أي جواب عن مثل هذا السؤال… أما الرعايا فكيف وأين يمكنهم النأي بأنفسهم عن أنفسهم!

Exit mobile version