طلال سلمان

حكم يواجة جمهورة

يتصرف بعض الحكم وكأن الحوار معه مستحيل لسبب بسيط جدù: أن لا ضرورة للحوار!
فهناك من يرى أنه كلي المعرفة، لا يفوته شيء ولا تغيب عن مداركه حركة أو تصرف ويتحوّط لأي تطور متوقع، وبالتالي فلا حاجة به إلى غيره، خصوصù ممن لا يسلمون بقدرته الكلية على التنبؤ والتحوّط والاستدراك والانجاز الكامل الذي لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من قدامه.
ولأن الغرور يعمي فإن الحكم يبدو عاجزù عن التقدير السليم واستطرادù عن التصرف السليم!
إنه غارق في أوهام قوته المطلقة مما يجعله يستهين بالمشكلات القائمة سواء أكانت سياسية أم اقتصادية، ويخطئ في تقدير جسامة الأزمة الاجتماعية التي تعيشها البلاد.
وهو لا يصغي حتى للقلة من وزرائه الباقين على صلة ما »بالشارع«، والذين لم تجرفهم نِعَم السلطة إلى أبراج عاجية لا تصل إليها أصوات الناقمين »تحت«.
ولم تكن مفاجأة أن ينتبه بعض الوزراء، في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، إلى خطورة المفارقة التي يعيشون: إنهم، هم المتحدرون من صلب الحركة الشعبية، يجدون أنفسهم في مواجهة أبسط المطالب المحقة للفئات الشعبية التي تسحقها الضائقة الاقتصادية في البلاد.
وفي مقابل النزعة السلطوية التي تندفع بإغراء التبسيط المخل، أو الاستقواء تكتيكيù بما هو استراتيجي، إلى إقفال باب الحوار والتهديد بالقمع المباشر وسيلة لعلاج مشكلات أكثر خطورة من أن يحلها القمع، ارتفعت أصوات عاقلة تذكِّر من نسي بأن »مجلس الوزراء ليس مجلسù لقيادة الثورة«، وأن المعترضين في الشارع هم »الجمهور الطبيعي« الذي يفترض أنهم يمثلونه وليسوا مجاميع من المتآمرين والمتواطئين على قلب النظام!
إن تعطيل الحوار لا يؤدي الا إلى تصادم الحكم مع جمهوره المفترض،
والعتو السلطوي سيدفع بأصحاب المطالب المنضوين الآن تحت لواء الاتحاد العمالي العام إلى حيث لا يقصدون ولا يريدون الوصول سياسيù.
إن رفض الحوار الصحي والصريح والمباشر والصادق سينزع عن الحكم صفة المرجعية والأب الصالح والمسؤول المباشر عن الحقوق البديهية لشعبه قبل المطامح والأماني الغوالي.
وكيف لجائع أن يصدق أساطير الازدهار الاقتصادي والرخاء الآتي بينما هو لا يجد فرصة للعمل في وطنه، أو لا يعطيه عمله خصوصù في »الدولة« ما يكفيه ويقيه شر العوز؟!
إن هذا الجمهور يتوجه بمطالبه إلى الحكم لأنه يفترض أنه إنما يحكم باسمه،
إنه يفترض في حكومة تضم البعثي والتقدمي الاشتراكي والقومي والثائر والمنتفض تحت راية »حركة أمل« لرفع الغبن عن المحرومين، انها إنما جاءت لتحقق ما قصرت عنه عهود تحكم »التحالف الجهنمي بين الاقطاع السياسي والطغمة المالية« تحت لواء الإثارة الطائفية،
وهو يفترض في حكم جاء بعد حرب أهلية طويلة ومضنية كان بين الأسباب »المحلية« لتفجرها الظلم والحرمان والغبن وأحزمة البؤس من حول بيروت، أنه سيضع الانصاف وتوفير فرص العمل والكسب الحلال وعدالة التوزيع على رأس أولوياته،
لكن الحكم لا يحاور إلا تحت ضغط الاضراب،
وهو يحاور ريثما يفك المضربون إضرابهم، فإذا ما أكدوا حسن نيتهم، وأجهضوا احتمال استغلال تحركهم من طرف الخصوم المتربصين بالجمهورية الثانية وسائر منجزات اتفاق الطائف، وجدوا أنفسهم أمام أبواب موصدة، واتهموا بالغفلة أو بخيانة »ناخبيهم« الذين شرّفوهم بالوكالة عنهم وحمل راية مطالبهم.
وهكذا تندفع الحركة النقابية تحت ضغط المرارة والشعور بأنها قد استغفلت الى أبعد مما كانت تقصد، خصوصا وهي تواجه بالتجاهل أو بالاتهامات الظالمة.
على أن الأخطر أن الأزمة تبقى في الشارع، وتضيف إليها الخيبة أبعادù متفجرة، كما يغري إهمالها »المعارضات الانقلابية« بتبنيها واعتمادها وسيلة لاستعادة »الجمهور« الذي كان قد لفظها أو ابتعد عنها بعدما انكشف له إفلاسها أو افتضحت طبيعة مغامراتها الانتحارية.
إن الفشل في محاورة الحركة المطلبية التي تعبّر عنها الآن القيادة النقابية هو بكل المعايير فشل للحكم ككل، وبالتخصيص للوزراء والقوى المتحدرة من أصول شعبية،
وعندما يضطر وليد جنبلاط إلى الجهر بأنه لا يستطيع مواصلة الاعتصام بالصمت والتنكر لتاريخ أبيه وحزبه،
وعندما يضطر أسعد حردان إلى تذكير مجلس الوزراء بأنه »قومي« طالما ناضل في الشارع مع هؤلاء الذين فيه الآن من أجل مطالب مماثلة،
وعندما يضطر محمود أبو حمدان إلى مواجهة المجلس بأنه إنما ينتمي إلى الذين يطالبون ولا يستطيع خيانتهم أو القبول بقمعهم،
عندئذ يصبح من السهل تحديد أسباب الأزمة وأخطرها الامتناع عن الحوار، أو عدم الجدية فيه، أو دخوله بهدف تمييع المطالب وتسفيه القوى والقيادات التي ترفعها،
ولن تنفع الاتهامات العشوائية في تمويه طبيعة الأزمة، ولا في صرف الناس عن تبين المتسببين في نشوئها وفي استمرارها وتفاقمها إلى حد خطر التفجر!

Exit mobile version