طلال سلمان

حكم مسوولية عن»الحرب«

لم يذهب إسحق موردخاي إلى واشنطن، بعد باريس، ليبحث فيها مخاطر تطبيق الزواج المدني في لبنان على الأمن الإسرائيلي،
ولم يأتِ كوفي أنان إلى بيروت وسائر عواصم المنطقة ليناقش مع المسؤولين فيها، ولا سيما مع زعيم حكومة التطرف الإسرائيلي الآثار الايجابية لإلغاء الطائفية السياسية في لبنان على »المسيرة السلمية«.
بالمقابل فقد غاب عن خطابات المؤسسة الدينية وعن شعارات المسيرات الشعبية التي هبّت للاعتراض على أي مسّ بمؤسسة الزواج المقدسة أي ذكر لهذا الهجوم الإسرائيلي الشرس على لبنان واللبنانيين بالسلاح الأمضى الذي كانوا يدخرونه كحجاب أو تعويذة لأمانهم: أي القرار 425.
ومع التقدير لمقامات القيادات الروحية لمختلف الطوائف، فإننا ومنذ فترة طويلة نفتقد فيهم مثل هذه الحماسة، حتى لا نقول الحدة، ونتوقعهم في الصف الأول للتصدي لما يتهدد اللبنانيين في سلامتهم وفي أمنهم الوطني أو في ضيق مجالات الرزق، أو ما يشكون منه من سوء في الإدارة وهدر للأموال العامة، أو من خلل أحيانا في السياسة العامة.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر فلقد افتقدنا الدور الترشيدي لهذه المقامات للجمهور الذي يحترمها ويستمع إليها بالقطع، حتى لا ينقسم إلى حد الاشتباك ولا ينساق خلف غريزته الطائفية الى حد القطيعة، سواء في الملاعب الرياضية أو في الانتخابات النقابية،
وما جرى في الانتخابات النقابية، أمس، وقبله، بعد الذي جرى في الملاعب والأندية على امتداد الشهور الماضية، يكشف حجم المفارقة الفضيحة التي يعكسها طرح موضوع جدي كمشروع قانون الزواج المدني الاختياري والحلم المتمثل بإلغاء الطائفية السياسية، خصوصا وأن إلغاءها يكاد يكون رابع المستحيلات الثلاثة: الغول والعنقاء والخل الوفي،
ولولا قدر من التحفظ لكان التساؤل مشروعا عن مدى التواطؤ بين كل المستفيدين من هذه الحرب المفاجئة والمفتعلة إذ لا يمكن التصديق وكأن هذا الكابوس الذي خيّم على البلاد، بغير سابق إنذار، قد جاء بالمصادفة أو نتيجة خطأ في اختيار التوقيت، أو خطأ في تقدير رد الفعل المحتمل عليه.
فلا الياس الهراوي هو الأمين العام لحزب شيوعي، مثلاً، له برنامجه المعلن والذي على أساسه وصل الى الحكم، ومن واجبه بالتالي طالما انه قد وصل ان يطبق فورا هذا البرنامج، وبمعزل عن »الظروف المحيطة«.
ولا رفيق الحريري هو أمير الجماعات الإسلامية أو أحد قادة الإخوان المسلمين الذين يشترطون لاستلام الحكم إطلاق يدهم في تطبيق الشريعة، ووفق مفاهيمهم الخاصة، والمعلنة للناس، إذ لا حياء في الدين،
ولا نبيه بري هو قائد مسيرة العلمنة في لبنان، وصل باسمها وهو يمثلها ويعمل لنصرة أفكارها وتعميمها من موقعه على رأس المجلس النيابي..
وعلى امتداد خمس سنوات ونصف السنة من التعاون والشراكة (والمناكفة والخصام ثم المصالحات) في ما بينهم على مستوى القمة لم يظهر ما يوحي بمثل هذا التعارض الجذري في النظرة الى الدين أو الى منظومة القيم الاجتماعية،
وفي الشكل، فإن الياس الهراوي ومعه سائر أركان الدولة، كانوا يقصدون بكركي وكنائس أخرى، في المناسبات الدينية، فيتناول »الرئيس« القربان المقدس، و»يعترف«، ويصلي، وينال بركة البطريرك،
كذلك فإن كلاً من نبيه بري ورفيق الحريري يجهر بالتزامه بالشعائر الدينية، ويؤديها في منزله أو في المساجد، بلا أي إخلال،
وإذا كان ثمة إجماع على القول إن الياس الهراوي هو الأقل طائفية بين عموم الرؤساء الذين تسنموا سدة الحكم في لبنان، وانه اتخذ قرارات شجاعة في سياق الإصلاح الدستوري تنفيذا لاتفاق الطائف، فإن هذه التزكية لا تعني أبدا انه قد خرج في يوم على أصول دينه، أو أن ذلك الخروج كان شرطا للاصلاح السياسي.
لماذا هذا الجو الارهابي، إذن؟!
ومن هو المستفيد من مناخ يتعذر معه حتى يكاد ينعدم النقاش المنطقي والهادئ حول »الشؤون العامة« وأفكار التطوير والتحديث والانتقال من »مشروع الدولة قيد التأسيس« الى المجتمع العصري والدولة الحديثة بمؤسساتها الديموقراطية المؤكدة لوحدة اللبنانيين ورسوخ سلمهم الأهلي وتصديهم لعدوهم الواحد: الاحتلال الاسرائيلي؟!
وهل تسمح طبيعة لبنان وتكوين مجتمعه، بالأديان والطوائف والمذاهب المختلفة، بالأحكام المطلقة مثل التلويح بتهمة الردة أو بتوقيع الحرم على مَن يحاول ممارسة حريته الشخصية في نطاق الدستور والقانون، وبما لا يشكل خروجاً على الدين او ايذاء لغيره؟!
من له الحق المطلق، في تحديد من هم »المرتدون« و»الكفرة« في اواخر القرن العشرين، وفي بلد دمرته اللعبة الجهنمية التي تتستر بالدين مرات ومرات؟!
لقد بدا، في لحظة، واثر انفجار الخلاف داخل جلسة مجلس الوزراء الشهيرة، وكأن الحكم في مأزق،
اليوم يبدو واضحاً ان البلاد كلها في مأزق.
لقد عاد الى الشارع بعض من كان قد احتله بقوة السلاح، وبعض من كان اخرج منه بقوة السلاح، وترددت اصداء شعارات مهدت لحمل السلاح او بررته، ذات يوم، ثم استخدمته في غير موقعه الصحيح،
انقسم الحكم، فترك الامر للشارع… وليس الشارع دار الحكمة، او مركز القرار، خصوصاً في قضايا خلافية تجعلها الحساسيات الطائفية والمذهبية متفجرة.
واول شرط لاستعادة الحكم الحد الادنى من هيبته ومن اهليته بمسؤولياته ان يسحب هذا الموضوع من الشارع، وان ينقذ ما تبقى من كرامة الدولة ومؤسساتها الدستورية ومن طيف الديموقراطية وان يعيد الاعتبار الى مجتمعه المدني، ويرفع عنه سيف الارهاب باسم الدين او باسم الطوائف.
ان خسائر الحكم تتبدى جلية في ما ربحته مؤسسات الانقسام تحت لافتة الدين او الطائفية او المذهبية،
والمشكلة ان الحكم يخسر الان من رصيد لبنان واللبنانيين، وليس من رصيده الخاص.
لقد تهاوت ادعاءات الديموقراطية والحداثة، وضرب مشروع بناء الدولة عبر هذه الحرب المفتعلة داخل سرايا الحكم والتي ربحها اولئك الذين يريدون فرض وصاية على الدولة والمجتمع، من موقع يجعلهم فوق الجميع.
ولقد خسرت مع الدولة المراجع الدينية التي اعتبرت الطرح مستفزاً فخرجت عن وقارها قليلا او كثيراً، واندفعت وكأنها في معركة حقيقية، فصدر عنها ما جعلها طرفاً في خصومة غير مبررة مع شرائح عريضة في مجتمعها،
وما تخسره الدولة لا يمكن للمراجع الدينية ان تربحه، وفي كل الحالات فان المجتمع يظل هو الخاسر الاكبر.
***
الحكم وحدة، في نظر المجتمع.
ولن يحاسب طرف ويبرأ طرف آخر في ظل انشطار المجتمع او سيادة منطق ارهابي يتلفع بشعارات دينية، في حين ان المعركة سياسية، بداية وانتهاء ولا علاقة لها بالدين من قريب او بعيد،
والحكم يسيء، بانقسامه، الى نفسه والى مجتمعه، ويستدرج المراجع الدينية الى ارض صراع، بينما الاكرم لها ان تبقى فوق الخلاف وفوق تناول المختلفين وبعيدة عن المسؤولية عن الشقاق،
الحكم وحدة، في المسؤولية، ومتى برز خطر جدي كالذي يجوس شبحه في الشوارع وفي المنتديات وفي النفوس الان، فان الناس لن يبرئوا اي طرف منه، حتى وان كانت لهم انحيازاتهم وعواطفهم تجاه هذا او ذاك من اطراف الحكم:
»طول عمرهم كانوا يختلفون لبعض الوقت، ثم فجأة يتفقون، ومن غير ان نعرف على وجه الدقة لماذا اختلفوا وعلى ماذا عادوا فاتفقوا«.
ان مواقع الرئاسة تكتسب وهجها من الانجاز الوطني وليس من الجماهير المستنفرة طائفياً او مذهبياً،
ان الزعامات الطائفية تأخذ الى الحروب الاهلية وليس الى الدولة العصرية،
ويفترض ان اللبنانيين عموماً، من المراجع الروحية الى الرئاسات الزمنية الى القوى السياسية الى المواطنين العاديين، اساتذة في علم العلاقة بين الطائفية وبين سقوط الدول في اتون الحرب الاهلية.
فمن يتصدى ليكون له شرف وقف هذه الحرب غير المبررة والتي لن يخرج منها »منتصر« واحد.. بالمعنى الوطني للكلمة؟!

Exit mobile version