طلال سلمان

حكايتي مع القهوة

سألتني.. ما بك يا بيه؟ أجبت.. المزاج غير معتدل. عادت تسأل.. طيب، أعمل لك فنجان قهوة يعدله؟.. بودي لو رددت على الفور بأن القهوة هذه المرة هي السبب في انحراف مزاجي فكيف تكون هي العلاج. أعلم بالتأكيد أنها لن تقدر الرد، فللتعامل مع القهوة مكانة تكاد ترقي عند أغلب من أعرف من أهل بلدي إلى مستوى “لزوم التقديس”، والمقدسات في عرف هؤلاء لا يمكن أن تضر البشر.
***
لا أبالغ في خلع صفة من صفات التقديس على فنجان القهوة. ما أذكره في صباي عن دوائر شرب القهوة يكفي دليلا. أذكر أنه كان محرما علينا التواجد في اجتماعات النساء في الصالون العربي في بيت جدتي حول صينية صفراء لامعة وقد رص عليها “سبرتاية” وعدد من الفناجين بعدد الحاضرات وعلبة البن التي ما أن تفتح إلا وتفوح في أنحاء الغرفة رائحة حب الهال مختلطة برائحة البن وروائح أخرى ليس أقلها شأنا رائحة المستيكة وجوزة الطيب. تصورت خطأ لبعض الوقت أن القهوة مشروب نسائي لا يمسه الذكور.
***
مرت سنوات قبل أن أتعرف على “قهوة” أخرى. كنا في سيدي بشر نقضي بعض أيام الصيف ومعنا شقيقتي الأكبر وزوجها. كانت هوايته المفضلة المشي أو الجري مسافات طويلة. كنا في معظم جولات مشينا ننتهي عند القهوة التجارية، قرب حي المنشية، وهناك نتناول إفطارا مصريا مع الشاي.  ذات جولة توقفنا أمام حلواني ومقهي “ديليس”، على الكورنيش قرب محطة الرمل، ليقول لي إنه يكافئني على شجاعتي وصمودي، وطلب لي وله إفطارا أوروبيا ومعه براد قهوة فرنساوي. كانت أول مرة أشرب فيها قهوة من أي نوع وقد تجاوزت بشهور السادسة عشر من العمر.
***
امتحنت في مسابقة التعيين بوزارة الخارجية وجرى تعييني بإدارة الصحافة. أذكر أنني وصلت إلى مقر الإدارة في صباح باكر. لم يكن في الإدارة غير الفراش الذي رحب بوصولي وقادني إلى مكتب قال عنه إنه خصص لي باعتباره الأقل حجما واتساعا بين كل المكاتب الموجودة بالغرفة. غاب دقائق وعاد يحمل صينية فضية اللون تتسع لكوب ماء وفنجان صغير و”كنكة” نحاسية يفوح من فوهتها دخان. راح بدون استئذاني يفرغ القهوة في الفنجان. راعني أن القهوة لم يصدر عنها رائحة من أي نوع باستثناء رائحة البن المحمص. قهوة بدون طقوس. عرفت فيما بعد أن القهوة تأتي كل صباح فور وصولي وأحيانا فور جلوسي على مكتبي. لا تهم رائحتها أو سخونتها أو مفعولها. كانت فرضا أكثر منها طقسا. سافرت لأجد هذا الفرض معمولا به في سفارتنا في نيودلهي ثم في روما وغيرها. كانت في غالب الأحوال تعود مع الفراش باردة دون انتقاص إلا من “شفطة” أو شفطتين. المهم لم أدمن هذه القهوة.
***
كنت في الهند قبل أن يجد الشاي منافسا له في مسقط رأسه. كنت هناك عندما لم يكن الهنود يشربون القهوة. كانت للشاي طقوسه الإنجليزية، نوع لعله الأشهر من الطقوس غير القابلة للتحسين أو التغيير. اختلطت في هذه الفترة بشباب من الجنسين من الطبقة الارستقراطية تمردوا على تقاليد وطقوس عديدة هؤلاء أقبلوا وأنا معهم بشغف مبالغ فيه على شرب القهوة الأمريكي (قهوة الفلتر) في مقهى أجنبي الطابع والتأثيث واسمه جاي لورد. حتى ذلك الحين لم تفلح أنواع القهاوي التي تعرفت عليها وجربتها بشغف أو بغيره في إجباري على إدمان أي منها.
***
جرت عادة الزملاء بسفارتنا في روما أن يلتقوا كل صباح في مقهى مسمى باسم الميدان الواقع فيه. هناك شربت قهوتهم وأيضا بدون طقوس إلا أنها قهوة سريعة الإدمان. ندخل المحل ونذهب مباشرة لنقف أمام ماكينة ليست قليلة الحجم يدخل فيها الفنجان فارغا ويخرج منها وبداخلة “مسحة” قهوة ساخنة تفوح منها رائحة قوية ولكنها ليست الرائحة الممزوجة بالميستيكة وجوزة الطيب. إنها رائحة بن صافي. أكرر أنها مسحة ولكن مسحة بقوة حصان. ما أن تصل إلى اللسان إلا ويقع التفاعل مكثفا وفاعلا مع المخ والأعصاب وغيرها من ملكاتنا ومكوناتنا.
***
أظن أنني رأيت في النمسا احتراما لشرب القهوة لم أشهده في مكان آخر، ربما باستثناء احترام الأهل في بيوت مصر، مصر المعز لدين الله والجمالية لـ”قعدة القهوة”. أهل العاصمة فيينا لا يشربون القهوة بالكثرة التي يشربها بها أهل أمريكا، ولكنهم يشربونها باحترام وتقدير واستمتاع حقيقي. المقهي النمساوي وبدقة أكثر المقهى الفييناوي دليل مجسم لهذا التقدير. أعترف أن الوقت الذي يقضيه الإنسان في مقهى من مقاهي فيينا الشهيرة وقت مستحق لن يقضيه في مقهى آخر في إيطاليا أو ألمانيا أو إنجلترا أو في أمريكا أو في عواصمنا العربية.
***
محظوظة، أو لعلها قادرة ومتمكنة، شركات زراعة البن وصناعة القهوة. أستلم كل صباح حوالي مائة رسالة تتمني لي صباحا سعيدا أو يوما طيبا أو تدعو لي بالتوفيق وترجو التفاؤل وراحة البال، وكلها أو قل سبعين في المائة منها رسمت في صدر الرسالة فنجان قهوة وإلى جانبه إنسان سعيد أو ناجح أو متفائل يتطلع للقهوة بالإعجاب والمحبة والشغف والرغبة ومشاعر أخرى. خطر ببالي استحالة أن يوجد في عالم الأعمال من ابتكر حملة إعلانية بالمجان لها هذا التأثير والتواصل اليومي مع مستهلكي ما ينتجون ويسوقون.
***
إن كنت حقا أدمنت في السنوات الأخيرة إدمان القهوة فالمسئولية يجب أن تتحملها الشركة الصانعة لماكينة “نيسبريسو” والشركات المنتجة للبن وصانعة القهوة الجاهزة والمعبأة خصيصا من أجلي. يتحملها أيضا كل من أساء لمعنوياتي أو كشف عن ضعفي أو تسبب في أن أقلق أو أغضب أو أفرح أو أفكر أو أتألم أو أن أشفي من ألم أو وجع، ويتحملها كل من حاول أن يتمنى لي يوما سعيدا وفي يده فنجان قهوة يتصاعد منه الدخان مختلطا بصوت محمد قنديل وهو يشدو برائعته “يا حلو صبح .. يلا حلو طل”.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق
Exit mobile version