طلال سلمان

حكاية مستعادة من زمن الولادة

الدنيا ليل، والأب غائب، والأم تطلق صرخاتها تباعاً وتدور في أرض البيت متوكئة على الجدران، وأنت ”السيد”: معقد الرجاء والمنقذ وصاحب الأمر.

الدنيا ليل. وفي العتمة يحتشد الذئاب والغيلان والأشرار الذين لا يحبون الأطفال.

.. و”الكفراوي” ليس في دكانه لكي تستدين منه ما يؤنس رحلتك الطويلة إلى بيت الداية.

أنت ”القائد” الآن. لا رجل إلاك، ولا قرار لغيرك. والقرية تخضع لك وتستكين لوقع خطواتك العجلى التي بدأت مرتبكة بالتوجس، ثم انتظمت بعدما أنست إلى الهدأة التي تزكي سيادتك على كل أولئك المتعبين المستسلمين لسلطان النوم!

لم تكن بحاجة إلى أن تسألك إن كنت تعرف بيت ”الداية”.

كانت تعرف أنك تعرف جميع البيوت، وأن جميع أهلها يعرفونك ويميزونك باللقب الفريد.

الغربة امتياز أحياناً. أنت فارس هذه القرية النائمة. يمكنك أن تعوّض الآن اضطهاد النهارات الطويلة. لن يلومك أحد إن رفعت صوتك بالغناء، أو تنحنحت وسعلت بقوة مقلداً الرجال، أو ضربت الأرض بقدميك لتُشعر الكل بمرورك، أو مططت عنقك متيحاً لخيالك الشاحب أن يمتد ويمتد حتى يلامس أعالي القرميد. وحدك تستطيع أن ترى الآن ما لا يرى، وأن تلمح رأس خيالك الممطوط وقد تجاوز القرميد المؤكد وجاهة صاحب البيت الكبير. طربوش صغير. بتراكم الطرابيش تتأكد الوجاهة ويأخذ ”أبو دودي” دورك عند اللحام، لكن عليك أن تعترف: ليس الطربوش وحده، بل الفارق بين من يشتري بالكيلو ونقداً وبين من يشتري أوقية وبالدين!

اللحام الحران! له حسابه، هو الآخر. لو أن بيته على الطريق لرميت بابه بحجر ثقيل! ولكنه على أي حال ليس بعيداً من هنا، تنعطف مرتين حتى إذا واجهت شجرة الميس العالية تبيّنته خلفها، وربما أسعدك الحظ بحجر صغير ترمي به تلك الواجهة التي يزركشها الزجاج الملون!

تكاد تنعطف، لكن صرخة مدوية تصعقك. لا يعقل أن يكون هذا صوت أمك. تهدأ، تحبس أنفاسك لتتأكد من أن الصرخة صدرت من داخل رأسك ولم تصلك من خارج. تتذكر فيأخذك الهلع: ربما ماتت أمك بينما أنت مشغول بالانتقام لنفسك من أولئك الصبية، أقرانك، الذين يتضامنون ضدك أنت الغريب. أرجئ التفكير بالثأر الآن. أرجئ استقواءك بالليل وعتمته والأشباح التي نقلتها فجأة إلى صفك واتخذتها حليفاً بينما كنت ترتعد منها كلما عدت متأخراً من ”نزهة” مسائية طويلة لتذوق مواسم الفواكه الجديدة.

تركض عبر خيالك، تكاد تتعثر به وهو يرتدّ إليك مع اندثار خيوط الضوء القليلة المتسللة من مصباح بعيد. تحرك يديك لتطرد الأشباح وترميها بآخر قطرة نور متسللة من نافذة مغلقة لبيت ترك أهله النور مضاءً من أجل الأطفال، أو ربما دفعاً للصوص.

خالتي الداية، خالتي الداية، أمي أرسلتني إليك. أمي تريدك. إنها تتوجع. عجلي، خالتي الداية.

صدرت عن الداخل حركة تفيد أن من في المنزل قد استيقظوا. شقت الداية الباب، يسبقها صوتها: عرفت أنك أنت! ليس في الضيعة امرأة في لياليها إلا أمك. كنت أتوقع أن ترسل إليَّ غداً. انتظرني.

لفت رأسها بشال صوفي سميك ثم تقدمتني وهي تقول: ستمرض! سيضربك البرد بنزلة صدرية! لماذا خرجت بهذه الثياب الخفيفة؟! قل لي: كم طفلاً أنتم… ثلاثة وهذا الآتي هو الرابع؟! أعرف ذلك؟! أنتم لا تتوقفون عن الإنجاب! في منطقتكم يتزوجون باكراً جداً، ولا يجدون ما يفعلونه قبل العراك وبعده غير إنجاب الأطفال! ينجبونكم ويقذفونكم إلى الشارع! إسمع، أبوك إنسان طيب، وهو شاب وسيم! أمك طيبة ولكنها دائماً مشغولة بكم، هي إما حامل ومتعبة، وإما مرضعة على حافة المرض، طبيعي أن تمرض.

كنت أسعى أمامها، فإذا ما ضاعت مني بعض كلماتها تباطأت حتى لا يفوتني ما تقوله. في الحقيقة كنت أتباطأ حتى أتملى أكثر من خيالها على الأرض، أمامي، وهو يتخذ أشكالاً مضحكة. أحياناً كان يتداخل خيالي بخيالها فأتصورها قد حملت، وقد أخذت تدور في أرض الغرفة متكئة على الحيطان كأمي، وأتصورني خارجاً في الليل لأطلب داية للداية. أعجبتني الفكرة… هذا يدخلني نادي الرجال.

حين اقتربنا من بيتنا زادت الأنوار المنبعثة منه تداخل الأخيلة.

توهمت أن الجدران تنضح عبر العتمة عرقاً، وسمعت صرخات متقطعة يختلط فيها الوجع بالنشوة، بل هي قاربت في لحظات حدود ”الزغرودة”. لم يكن في الصرخات أثر للحزن. وشعرت بأهمية أن أكون ذكراً. من حق الرجل أن يزهو بقدرته الخارقة على استيلاد حياة أخرى.

دخلنا يسبقني خوفي. العتمة خلفي الآن، لكن كل خوفي الذي جمدته المهمة المقدسة قد عاد إليَّ، وها هو يختلط الآن مع خوفي من الداية القوية والسمينة كبقرة جارنا ”الأبرش”، ومع خوفي على الوالدة التي كانت غارقة في عرقها ووجهها يشع بمسحة نورانية تجعلها أبهى من تلك الصورة المنطفئة لوجوه القديسين في الكنيسة. من أين للقديسين بهذه الحبات المفضضة من عرق العافية والخلق التي تتناثر على الوجه الطيب فتجعله مثل بدر بقاعي خارج لتوّه من بركة السباحة؟!

قالت الجارة التي كانت قد نفضت عنها النوم وأعدت كل شيء: لن يتأخر طويلاً. إنه مستعجل، وهي تساعده كثيراً.

أين الوالد؟

في مأمورية بعيدة.

صرخت بلا وعي: أنا هنا.

ابتسمت الوالدة، ومسحت الجارة رأسي بكفها المبللة، وزجرتني الداية: أخرج وابق قريباً من الباب. متى احتجنا إليك ناديناك.

سأخرج طبعاً، لا شأن لي بعمل النساء، ولكن ترفقي بها، من دونها نموت برداً وجوعاً..

سمعت صوت أمي الخافت يطمئنني عبر وجعها: لا تخف حبيبي، لن يكون أغلى منك أو أعز. لا أحد يأخذ مكانك. أنت الكبير. أنت رب العائلة، وقد عوّضت غياب أبيك.

تطاولت بقامتي وأنا أغلق الباب خلفي، وأمضي إلى الردهة باحثاً عن سيكارة، أشعلتها وجلست على كرسي أبي، وقد لففت ساقاً على ساق، وأخذت أنفث الدخان منتشياً: من حق رب العائلة أن يدخن.

وحين صدرت صرخة الوليد، وتعالت همهمات النسوة في الغرفة المغلقة، وقفت أنتظر البشرى التي لم تتأخر، ثم أخذت طريقي إلى فراشي ويدي تبحث في صدري عن الشعر المؤكد لرجولتي، مصدراً تلك النحنحة التي تميّز الآباء المكثرين.

* * *

بطاقة خاصة…

في عيدها، يأخذني إليها شميم الورد وعطر الكف الحانية وتلك الهالة البيضاء التي تقطر طيبة!

لتصدح باسمك الملائكة، يا واهبة الحياة، يا مصدر الخصب ومنبع الحب الذي لا ينضب.

لتكن لك طيبات الحياة، يا التي لا تستبقين لنفسك شيئاً منها.

وأنت العيد، وليس من الدكان يجيء عيدك، ومنك الفرح أيتها الآخذة عنا أوجاعنا والمتاعب والهموم، من قبل أن نسألك ومن قبل أن نخبرك، ولست بحاجة إلى أن تسمعي، فأنت دائماً تعرفين.

سلاماً أيها الربيع ولو كنت في يومك الأخير،

بطاقة عامة..

من قلب طوفان الأحزان يستولدون ”الأعياد”. هل يكفي اصطناع العيد لاستجلاب بهجة مهاجرة؟

وتأخذك الدهشة: إذا كانت الطرق مسدودة بانكسار النفس، والعيون مغطاة بذلّ الحاجة، فمن أين يمر العيد، وكيف له أن يصل إليك؟!

أكلما زاد حرمان الإنسان من إنسانيته زيدت ”أعياده”؟!

يجيء العيد من خارج الحب ويأخذك إلى دكان التاجر لتشتري باسمه الهدايا.

العيد للتاجر وحده. للشركة المنتجة، للوسيط، للمروّج والمسوق، ثم للبياع… أما المشتري فلن يكون معه أبداً ما يشتري به لحظة فرح واحدة في هذه الأيام المبيعة سلفاً ومن قبل أن تصلنا.

أليسوا يبيعوننا أعمارنا بالساعات والثواني؟

يحاصرونك بين التهديد والصاروخ، فتصير حياتك مجرد فاصل بين غارتين، أو منّة من ذاك الذي  فجأة  قرّر أن يمنحك سنة إضافية أو شمعة أخرى لعيد جديد.

Exit mobile version