طلال سلمان

حكاية عشق

نتدرب خلال شهور الربيع وأوائل الصيف استعدادا للمشاركة في احتفالات مناسبة كانت ترقي في أذهان بعض الأهل وأطقم التدريس والتلاميذ إلى  مرتبة التقديس. المناسبة ليست كالمناسبات المعتادة مثل عيد جلوس جلالة الملك وعيد ميلاده وطلوع المحمل. ملابسنا لهذه المناسبة تختلف فهي بألوان تميل إلى الصفار والحمرة بينما كانت في المناسبات الأخرى بيضاء ناصعة. كذلك اختلفت الرقصات التعبيرية التي كنا نتدرب لـتأديتها في تلك المناسبة. الألحان تميل إلى ألحان الصلوات في معابد عهود الفراعنة كما تخيلها مؤلفوها وعازفوها الذين ارتدوا لهذه المناسبة أزياء مصرية قديمة وانتحلوا صنادل جلدية. الألحان والرقصات والملابس والأطفال والرايات على الأرصفة ومن الشبابيك والشرفات كلها توحي بأجواء الخشوع مختلطة بمظاهر الفرحة والرضا.

***

هناك عند النهر في منطقة الاحتفال، لعلها غير بعيدة عما عرفناه عندما كبرنا بمنطقة الروضة، طافت على سطح مياه النهر عشرات المراكب من كل نوع، من الفلوكات الصغيرة إلى اليخوت الفاخرة وكلها مزدانة بأعلام مصر الخضراء ورايات المعابد الزرقاء ولافتات تحي النهر بلغاته التي يفهمها، وأقصد الهيروغرافية واليونانية واللاتينية والعربية. تتوسط هذا الأسطول المتنوع من عازفي الموسيقى والراقصات والبحارة مركب فاخرة بستائر وأشرعة ألوانها تناسقت وانسجمت وفوق أكبر أشرعتها تاج مينا موحد القطرين دليلا مؤكدا على وجود جلالة الملك فاروق والملكة فريدة وجميع بناتهما داخله. ومن فوق كل القوارب وعلى الشاطئين وفي أحد أقرب الميادين إلى الشاطئ يصطف الأطفال وتلاميذ المدارس يؤدون رقصات أشبه ما تكون بالفرعونية بين تعالي الزغاريد في كل أحياء القاهرة، إنه يوم العيد، عيد وفاء النيل.

***

أعترف أنني قبل كتابة هذه السطور حاولت الاطمئنان إلى أن ما ورد فيها ليس محض تأليف أو اعتمادا فقط على ذاكرة لعلها بلت من كثرة الاستعمال والاستشهاد. لجأنا، أنا وزميلتي الآنسة وفاء، إلى مخازن حفظ الذاكرة وأغلبها أجنبي الجنسية واللغة. عثرنا على نسخة من جريدة مصر الناطقة بالإنجليزية تصف بدقة متناهية ومعتمدة على الصور والصوت أحداث هذا اليوم العظيم. استأنا بطبيعة الحال لعنصرية، أو ربما استشراقية، كاتب المشهد أو المذيع، وبخاصة عندما وصف بعبارات استنكارية أن الفراعنة كانوا يلقون في النيل في هذا اليوم ومن باخرة الفرعون بواحدة من أجمل عذارى المملكة المصرية وهي حية، يلقون معها أيضا الكعك والفاكهة وأنواعا شتى من الأضاحي والتمائم بعد تلاوة التراتيل وأداء الصلوات، وأن هذا التقليد ظل يمارس حتى وقت قريب.

 ما أزال إلى يومنا هذا أذكر”عصافير الجنة” الفيلم الأمريكي الذي عرض بكل الذكاء الممكن والفخامة أسطورة عاشت في جزيرة من جزر الباسيفيكي تحكي قصة حضارة عتيدة في جزيرة يثور فيها بين الحين والآخر بركان عنيف وشرس يغرق ناحية أو أخرى من أنحاء الجزيرة باللهب واللافا المنصهرة. فما كان من كهنة الجزيرة وملوكها إلا إصدار الأمر بإلقاء إحدى أجمل عذارى الجزيرة في قلب البركان عند بلوغه قمة غليانه. ولمزيد من إتقان الأسطورة وفرض الاقتناع بها قرر المستشرقون من مؤلفي الأسطورة أن يهدأ البركان بل ويبرد بمجرد تلقيه الضحية في قلب فورانه.

***

للمستشرقين بعض الحق في توصيفهم الدقيق لحالة العشق التي كانت تربط المصري العادي بالنيل. أقول كانت لأنني غير واثق تماما من أن المصري ما يزال يعيش الحالة التي عاشها مع النهر منذ قرون عديدة خلت وكما عشتها أنا معه طفلا كنت ثم مراهقا ثم شابا.

أذكر أننا كنا نستدعى من إجازاتنا الصيفية باعتبارنا أعضاء في فرق الكشافة وجمعيات الرحلات لنؤدي من الألعاب واللوحات الرياضية والمسرحية أدوارا طالما تدربنا عليها خلال شهور الربيع وأوائل الصيف. كنا، كما كان الفلاحون والمسئولون، نتطلع بشغف وشوق ومعهما كثير من الرهبة ونوع غير خاف من التقديس إلى حلول موعد الفيضان. أذكر أنني، وكنت شابا غير صغير السن، أخرج إلى شاطئ النيل أو إلى كوبري قصر النيل لأمشي مع رفاقي ومياه الفيضان الغاطسة في الحمرة تغمر أقدامنا ونعود فرحين وقد اكتست بالطمي أحذيتنا.

***

لا أظن أنني رأيت النيل ساكنا. عرفته ينبض دائما بالحركة والحب والعطاء. انتقدوه إن زاد عطاؤه عن المطلوب والمرغوب، وعندما أحسنت الدولة ترويضه ندم الكثيرون وأنا منهم. الوحش الجميل فقد بعض فتوته ومعها أحد دواعي تقديسه. ومع ذلك استمر ساحرا وجذابا، استمر فاتنا.

عشت معه أوقات لا تنسى. عشت معه أحلى لحظات مسيرته. عشت أعتقد أنه لا شيء أجمل وأروع من نيل أسوان المتسرب بين الجنادل بكثير من الدلال والنعومة. أعرف أصدقاء من الجنسين، وكنا في رحلة صعدنا إليه حتى منابعه، لم يصمدوا أمام سحره “الأسواني” حتى ألقوا بأنفسهم في أحضانه شوقا وعرفانا. توقفنا طويلا أمام لحظة خلود، هي اللحظة التي التقى عندها النيل الأحمر بالنيل الأبيض، وتعمدنا في نهاية الرحلة أن نقف طويلا أمام لحظة خلود أخرى، لحظة التقي النيل العذب بالبحر المالح.

***

أذكر أحلى أيام عمري معه. كم مشيت على شاطئه الغربي من “الكيت كات” حتى القناطر الخيرية لا أمل صحبته ولا يمل تطفلي. كم قضينا من ساعات أمسيات مع فلاح يزرع أرضا من طرح النيل، نزوره تجديفا بقوارب تتسع لاثنين لا أكثر.  نتبادل حبات الطماطم وأكواب الشاي بأكلات جاهزة، نغسل الطماطم بمياه النيل ونسمع شعرا في حب النهر وأحلام المستقبل. سافرت بعيدا وطويلا. عدت أبحث في النيل عن جزيرتي والفلاح. خانت عهودنا فاشتراها من أقام عليها كازينو للسهر. حزنت وسافرت مرة أخرى وعدت لأسمع أن الكازينو اختفى لصالح فندق، وأن النهر اختطفته العمائر، وأن الناس غير الناس.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version