طلال سلمان

حكايات آخر زمن

قبل يومين قضيت نهارا بكامله بصحبة شاب في الثلاثين من عمره زاملني لعامين بعد تخرجه. يعني يعرف عني، عن بعض تاريخي وطباعي وأولوياتي أشياء، وأعرف عنه، منه ومن غيره، أشياء أكثر. عشت معه نهارا مثمرا. لم أمل للحظة واحدة. أظن أنني لم أحاول إخفاء استمتاعي بالمسالك التي اختار النقاش الخوض فيها. خلعت فور بدء الزيارة روب الأستاذية وطلبت منه أن يتصرف ويتكلم كما يتصرف ويتكلم مع أقرانه من  الشباب. ينسى أنه يتصرف ويتكلم في حضور رجل من زمن آخر. كان الطلب صعب التنفيذ أو هكذا اتضح. ففي ظنه ربما أو في قناعته أنني لم أعد أحمل الكثير من قسمات الشباب وانفعالات عواطفهم ودفء مشاعرهم وجسارة ردودهم. لا شك أنه كان يخيل للشاب الجالس أمامي أن هذا الرجل الواقف أمامه يستحيل عليه أن يفهم ما يدور في أذهان الشباب وإذا فهم فلن يُقدر وإذا فهم وقدر سوف تبقى فجوة الزمن بينهما واسعة لن يتخطاها أي منهما ليصل إلى الآخر أو حتى ليقترب منه.

• • •

عشت بعض أو معظم سنوات شبابي وسنوات منتصف العمر أتخيل أنني لن أعيش لأكون في شكل وتصرفات هذا الرجل المسن الذي كنت أراه وهو يمشي في شارعنا يهز بعصاه الهواء ويضرب أغصان الأشجار ويطرد الأطفال وفي اليد الأخرى ما يهش به أو بها الذباب. كنت أراه وهو دائما بذقن غير حليقة ولم تكن أبدا من لون واحد، لا هي بيضاء ولا هي سوداء ولا هي رمادية. ملابسه نظيفة وحذاؤه يلمع. يطل على الشارع فيتوقف اللعب حتى لا تصيبه الكرة أو يصطدم به أحدنا فيغضب ولغضبه يغضب أهالينا.

• • •

أنا من عائلة قديمة لم تنجب ذكورا بعدد من أنجبت من الإناث. على كل حال لم يتح لي أن أقابل جدا من الاثنين، جدي لأبي وجدي لأمي. رحلا قبل وصولي. أما الجدتين فواحدة منهما أذكر من صورة فوتوغرافية أنها كانت دائما تجلس على كرسي مرتفع وفي يدها بندقية لا تفارقها ووجهها يعكس صرامة لا تخطئها عين. زوجها الذي هو جدي لأبي أذكره من الصور يرتدي زيا يجمع بين ضرورات مهنتين، مهنة مثقف تلك الأيام ومهنة رجل الأعمال بصفته وراقا وصاحب مكتبة، يقال أنني زرتها مع والدي وأنا صغير جدا، وكانت تقع بميدان السيدة زينب. لا جد لي حملني أو أجلسني على حجره أو احتضنني. لم أختبر كطفل حنان رجل مسن. عشت طفولة وربما سنوات مراهقة أتصور أن الجدود لأنهم رجال ومسنون فهم لا يعيشون ليراهم الأحفاد. أخشى أن أعترف بأنني فكرت كثيرا في أنهم حتى لو عاشوا لما اهتموا بأحفادهم. تصورتهم قساة القلب وملتهين بأنفسهم. تصورت الجدين على هذا النحو ربما لأنني لم أغفر لهما أنهما رحلا. عشت طفلا وشابا ثم رجلا أغضب كلما تخلى عنى أحد في العائلة ورحل.

• • •

في حياتي رجال كثيرون قرروا أن يلعبوا أدوار المسنين وما زالوا في منتصف العمر. لي زميل عملنا معا في الخارج يكبرني بعامين أو ثلاثة كنا في العشرينيات عندما بدأ يصبغ شعره بألوان رمادية ويرتدي ملابس داكنة ويختلط بالمسنين، يرتاد مقاهيهم ويتكلم مثلهم. على عكسه قرر أبي أن يتقاعد وما زال في مرحلة منتصف العمر. خاف على نفسه لو بقي في الوظيفة الحكومية أن يشيخ قبل الأوان. كتب لي وقد تجاوز الستين يبرر قرارا ينوي اتخاذه. جاء في الرسالة أنه وقد عاش وحيدا لسنوات بعد رحيل أمي بدأ يشعر بأن دماء دافئة عادت تجري في عروقه ونشاطا يحل في أطرافه وأفكارا خلاقة تلهب فكره.

• • •

أعيش أياما ليست كأيام عشتها من قبل. أعيش في أيام لها معنى. لكل يوم منها اسم ووزن. كنا نسمي الأيام ونعرفها بالأحداث الجارية حولها أو السابقة عليها أو اللاحقة لها. عشنا أيام الحرب العالمية أو أيام سابقة عليها أو لاحقة لها. أيامي الراهنة أيام من صنعي أنا ومن أجلي أنا. أحياها بحرص. أخاف عليها مما يجري حولها وأغلبه ليس من صنعي ولا يجب أن يؤثر في حياتي وتصرفاتي، أي في أيامي إلا بالقدر الذي أريد. لا أحمل يومي مسئولية ما سبقه من أيام وأحداث. لكل يوم استقلاليته وحريته. لا أعامل أيامي كما يعاملها غيري من البشر. تختلف المعاملة ليس فقط لأنني صرت في هذا العمر مختلفا ولكن أيضا لعامل الندرة، فأيامي لن تكون بوفرة الأيام وأنا في العشرين أو الأربعين أو حتى الستين. هذه أيامي وهي معدودة  وتلك أيام الزمن وهي وفيرة. لم أكترث وأنا أصغر عمرا بالأيام الغزيرة فهذه كانت أموال مشاع يغرف منها من يشاء ما يشاء ثم يلقي بها غير مهتم بمصيرها. أيامي أغلى وأحلى. أخاف عليها من ظلم الزمن. أحميها من الزمن. أخاف عليها من جشع البشر. لا أحد غيري يقترب منها إلا في وجودي وبترتيبي وتحت مراقبتي حتى لا يتغول الغريب فيها كما تعود أن يفعل في أيام الزمن.

أيامي وهي قليلة ولكن رائعة لا أنهكها. لا أثقل عليها بذكريات ماض ثقيل. لا أجرها معي إلى مغامرات خائبة. أشركها لتحكي معي حكايات نسجناها معا. أدعوها لتعرف أنها محظوظة لوجودها معي. هيبتها محفوظة وقيمتها تتضاعف ودائما في غدها أحلى من أمسها.

• • •

نهض الشاب مستأذنا في الانصراف. وصل عند الباب وتوقف ثم استدار ليقول “أنا سعيد بما سمعت ورأيت. سمحت لي أن أقضي معك يوما من أيامك، كان بالفعل يوما مختلفا عن أيامي التي أعيشها. أتمنى أن تكرر الدعوة”.

ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق

Exit mobile version