طلال سلمان

حكاياتي مع السيجارة

قضيت سنوات طفولتي وفجر مراهقتي في بيت الأب فيه يدخن بحرص وحسب توقيتات لا تتبدل والأم تكره رائحة الدخان وتحرمها على المطبخ.  الوالد يدخن في مواعيد تكاد لا تتغير. سيجارة مع قهوة الصباح وأخرى بعد استراحة القيلولة، ولا تدخين بينهما. سنوات قضيتها أيضا في صحبة ” شلة” لا أحد فيها يدخن. إن حدث وشوهد واحد منها يدخن على ناصية من نواصي اللقاء تردد الخبر لدي الأمهات في كل البيوت وانهالت على المدخن ويلات الأمهات كافة.
***
كنت في السادسة عشرة أو حواليها عندما فتحت بالصدفة المحضة “مراية” الدولاب الكبير في غرفة نوم أهلي بتكليف من والدتي. امتدت يدي في جوف الدولاب الضخم بحثا عن شيء لا أذكره الآن لترتطم بعلبة ناعمة الملمس الخارجي، سحبتها فإذا بي أسحب “كروزة” حمراء اللون ثقيلة الوزن تجمع كما خمنت ثم تأكدت عشرة من علب سجاير ماركة دانهيل الإنجليزية الشهيرة. دفعني إلى تمزيق غلافها الخارجي الناعم شهرتها “الاستعمارية” وشعبيتها بين ممثلات الأفلام الإنجليزية، وإن لم تكن في شهرة سجاير لاكي سترايك، الماركة المتميزة في أفلام الحرب الأمريكية. سحبت علبة من العلب العشرة وخرجت مع الشلة أتباهي وسط مظاهر الاحتجاج والاستنكار. عدت ليلتها إلى البيت بدونها.
***
تخرجت وقد احتلت السيجارة مكانة مرموقة في مظهري قبل أن يتمدد نفوذها ليحتل موقعا متميزا في مكونات شخصيتي. أذكر بدون تفاخر أنها نجحت أيضا في أن تصبح طرفا في حياتي العاطفية، تسجل فوزا بعد فوز وتتلاعب بحرية في رغبات القلب وشهوات الجسد. أعترف الآن أنها استمكنت حتى تمكنت. بدت في مطلع علاقتنا ناعمة وضعيفة ورقيقة. لا يتحمل جسدها لحظة رطوبة أو موجة قيظ وجفاف. ارتاحت إلى حمايتي فتعلقت وإلى ضرورتها في حياتي فازدادت تعلقا.
***
أظن أنني ارتحت إلى نعومة ملمسها ومظهرها فتعلقت وإلى صلابة إرادتها فازددت تعلقا. لم نحسب حساب يوم فراق. الاثنان لا يفترقان إلا عند النوم وليس كل النوم على كل حال. إذا دعاني داع للتعرف على سيجارة جديدة المحتوى والمظهر ثارت سجائري وشنت حربا عادت بالضرر الجسيم على عضو أو آخر من أعضاء جسدي. أنسحب قليلا من ساحة القتال ولكني عائد حتما. السيجارة تعرف وأنا أعرف.
***
كثيرا ما دعاني الأستاذ هيكل، وبخاصة خلال رحلاتنا في أوروبا وآسيا، الى أن أجرب تدخين سيجارا من سجائره الفاخرة. اعتذرت في كل مرة وهو غير مصدق، كيف وأنا أعشق التدخين أرفض الارتقاء من تدخين سيجارة أمريكية الأصل إلى تدخين سيجارا كوبيا لا يقوى على ثمنه إلا أقل المدخنين. كانت حجتي أمامه، وأمام محفوظ الأنصاري الذي لم يتوقف عن دعوتي للانضمام لجماعة السيجار، أن سيجارتي لن تفارقني. امتنع كبريائي عن عذري الصحيح وهو أنني أنا الذي لن يفارق وسيجارتي أول من أدرك هذه الحقيقة.
***
كنت في تونس عندما أصابتني حمى تسببت في تضخم هائل في اللوزتين وإلى خشية حقيقية من جانب أفضل أطباء مستشفى التوفيق من أن تنسد مجاري التنفس والبلع واستقر أمرهم إلى حقني بالكورتيزون فورا بعد تلقيني درسا في أخلاقيات التدخين. قالوا لزوجتي، بصوت الواثقين والمتحيزين للبشر على حساب ما عداهم، “لا عودة إلى التدخين. فما حدث له أو معه ليس أقل من إنذار أول ولعله الأخير. هو حي الآن لأنكما تسكنان قريبا من المستشفى وإلا كنت الآن تخرجين من المستشفى وتعودين إلى بيتكما بدونه”.
***
قضيت بمنزلي من فترة النقاهة أربعة أيام، قضيتها جالسا في غرفة الموسيقى وعلى أريكتي المفضلة وعيناي معلقتان بشاشة التلفيزيون  وأصابعي ملتصقة بعلبة سجائري التي وجدتها في مكانها تنتظر عودتي ولساني ملتهب من سخونة عبارات الإدانة وصرخات العتاب الموجهة إلى سيجارة خرجت، لست أدري كيف ومتي خرجت، من علبتها والتصقت ببعض أصابعي.
لم تستقر ساكنة، أظن أنها كانت تتحرك متألمة تحاول التفلت من قبضة أصابعي عندما سمعت اتهامي الصريح لها بخيانة العهد. أذكر أنني قلت لها إنني لم أبخل عليها يوما بحب أو غيرة أو حضن. عشت أيامي معها إن غابت أو غبت أعرب لها عن شوقي، خصصت لها أقرب موقع جغرافي من قلبي وهو الجيب في جميع قمصاني الإفرنجية ويسميها التوانسة  بالسورية، نسبة إلى القمصان التي كان يرتديها المترجمون السوريون واللبنانيون في الجيش الفرنسي المحتل، بينما ارتدى رجال تونس الملابس العربية العثمانية. خانت العهد لأنها تسببت عن علم وخبرة في إصابتي بمرض استدعي نقلي إلى المستشفى.
توقف العتاب بعودتنا إلى علاقة أوثق انتهت بعد عشرين سنة بنقلي إلى مستشفى مصطفى محمود في قلب إمبابة وأنا بين الحياة والموت. هذه المرة أصيب القلب إصابة مباشرة. هناك وفي وجود حشد من أفراد عائلة وأصدقاء وزملاء وزميلات عمل مبللة عيونهم بالدموع أفقت على نية قطيعة لا مفر منها.
***
أنعي لنفسي  طول الوقت وإلى يومنا هذا نهاية علاقة لعلها الأطول والأقرب إلى قلبي وعقلي بين غيرها من علاقات أقمتها مع أغراب أو أقرباء. لا أنكر أنني أحلم بما دار بيننا على انفراد أو في حضور آخرين. أعيش وفيا لها رغم كل ما تسببت فيه. أحن إليها إن رأيتها بين أصابع غريب. أختار في المطعم أو المقهى مكانا لمائدتي بين موائد المدخنين على هواء المكان يحمل لي زفرة دخان أطلقها أحد المدخنين.
***
لن أعود يا معشوقتي. لن أعود.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق
Exit mobile version