طلال سلمان

حفل تكريم الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في دمشق:الساحر على لسانه جلوة لما نحس واختراق لما نجهل.يا ثالث النهرين:في كل منا شيء منك(صور)

يهمي علينا من اسمك الندى، وترشنا دمشق بعطر ياسمينها، ونحن نلتف من حولك، ايها الشريد الجبار المتهالك تحت اثقال ذكريات الزمن الجميل.
لم يتبقَّ لنا من الذين كبرنا بهم الا دمشق الاسد حصنا والا انت، ايها النجفي الذي اعياه الكمد وان بقيت روحه فتية شابة كارادته.
وبين اشراقات الامل الغض في بدايات قرن الجواهري وبين النهايات المفجعة للقضايا والعقائد والرجال تهاوت اجيال في المسافة الفاصلة بين الحلم الغض وبين العجز عن تحقيقه.
ولانك حادي النصر، المبشِّر والمحرِّض والداعية، تستنهض، ترد الضال والمضلِّل، تفضح المتقاعس والقاعد والمستكين، وتقتحم على المنحرف والمرتد والطاغية بيته وتسحبه لتعلِّقه من ذيله على جدار اللعنة الى يوم الدين.
في كل منا شيء منك، ايها الغني بما عرفت وبما نسيت، بما قلت وبما قالوا فيك، بما شهدت عليهم، وبما شهدوا منك، لكأنك جميعنا في نشوة الاقبال والامال وفي خيبة الارتداد عن الهدف المقدس، في رحبة الاستبشار بالقدرة على الانجاز وفي مرارة السقوط في لجة تشهِّي السلطة، بما تستولد من احقاد وصغارات واقتتال بين الانا والانت والتي غالبا ما تنتهي بمصرع البلاد والعباد في آن.
ايها الاخوة والاخوات ولا القاب تعدل محمد مهدي الجواهري.
لقد شرفتني السيدة الوزيرة نجاح العطار بدعوتي للوقوف امامكم في حضرة هذا المشاكس الابدي الذي لم يطلب يوما على امتداد قرنه الراحة ولم يدع للطغاة فرصة ان يرتاحوا منه ومن صرخات المحرومين مثله حقهم في الحرية، في الكرامة، في الحياة.
وكيف تكون حياة حرة وكريمة والامة مستباحة من المحيط الى الخليج من الوريد الى الوريد، من عراقها الى العراق؟
آسف ان طغت نبرة الحزن على بهجة الاحتفال باجتماعنا من حولك لكنك تقدم الينا بنفسك المحصلة المريرة، اهذا ما كنا نقصد؟ اهذا كل ما انتهينا اليه؟
والتكريم كأنه مواساة متبادلة عما فقدنا وما تبقى للاقلية المتبقية حتى لا يأخذها الطوفان الى العصر الاسرائيلي.
ولولا دمشق، وحافظ الاسد فيها لما التقينا، ولعل واحدنا كان سينكر الآخرين وهو يهرب من نفسه والذكريات حتى لا يضبط متلبسا بجريمة التطرف والارهاب ومعاداة النظام العالمي الجديد.
دمشق صدر البيت الاول من القصيدة: لها الشعر ومنها الشعر وفي فيء عروبتها يتسامق الشعراء وينتثر المبدعون عبر عبق ياسمينها فاذا هم بعض رقراق بردى وبعض من شمخة المجد في من صنعوا للامة تاريخا يليق بها.
القاهرة بدمشق عاصمة الدنيا، وبغداد بدمشق فجر الغد الابهى، اما بيروت بدمشق فهي منتدى الثقافة والفكر وقلعة الصمود والمنعة واستعادة الروح المغيبة.
دمشق النابض فيها قلبنا تأخذ اليوم معك ايها النجفي الى قلبها فتؤكد ذاتها عبر تكريمك.
الجرح الدليل
من دمشق الى دمشق والجرح العربي النازف هو الطريق وهو الدليل والذين لم يعودوا من الفتوحات البكر لا ينسون ولا تبرح اخيلتهم الامكنة وتغص الهزيمة بصهيل خيولهم.
والماضي ليس مقبرة ندفن فيها احداث حاضرنا والمستقبل، والشعر ليس بعض الماضي، ومتى كانت الرؤى والنبوءات والاحلام ماضيا؟ والشعر ليس نقشا اخرس على جدار متهدم وليس نمشا على اوراق الشجر اليابس.
الشعر اصل الوجدان، يذهب ابعد من العلم، لكنه ليس بديله، ومن اين جاء الكومبيوتر واقتحام الفضاء واختزال العالم بتقدم المواصلات لولا النبوءة والاحلام والرؤى التي خلَّينا العقل بعيدا عن العبث بها حتى لا يفسد علينا الشعر؟
ايها الاخوة، الرفاق سابقا
هذا اجتماع جديد للاقليات العربية في الوطن العربي زمن التهويد…
لقد اصابتنا لعنتك ايها الشيخ… فاخذتنا لغتك بعيدا عن واقعنا الى قلب حقيقتنا التي صارت مستهجنة ينكرها اهلها لخوفهم منها على انفسهم.
شريد بين متشردين يحتفلون بعيد ميلاد الزمن القديم بينما الزمن الجديد يتكفَّل باطفاء آخر شمعة وآخر التماعة نور لكي يحل السلام.
من يكرِّم من؟ وكأن الكل يودِّع الكل ويهم بمغادرة موقعه في القصيدة بعدما فقد الوزن ايقاعه وانتثرت القافية مشطرة كانقاض بيت فلاح صامد في جبل عامل دهمته الغارة قبل الفجر او بعد صلاة الصبح او عند أذان الغروب.
نتلاقى في زمن الافتراق، ونرطن بلغة بائدة، لكن الشمس هي شمسنا والارض هي ارضنا، وجوهنا ترابها وحدقات العيون، وننادي ابناءنا باسمائها الحسنى، ونقاوم اخراجنا من التاريخ بأن نغوص فيها اعمق فاعمق لنعيد معها وبها اعادة كتابة الابجدية واستيلاد الفجر الجديد.
يا العراق…
ياهفهفات الطيب من نسيمات الخمائل غربي الكرخ، الخافقات ظلالها من سجسج…
ومشحوف يهس في رقراق الاهوار مزركش، منقَّش مقمَّش، مرقَّش، بزغاريد الفرحة اليتيمة لافقر الفقراء في اغنى بلاد ا”.
كوفة المتنبي
وسواد العراق نجيع… بين كوفة المتنبي وكربلاء الحسين، نجيع بين قرنة آدم والبصرة الثكلى نجيع، بين الشمال المشلَّع والشمال المسلَّع نجيع، كيف الشمال ولا عراق كيف الجنوب ولا عراق؟ كيف بغداد الرشيد، ولا عراق، كيف سر من رأى ولا عراق. وكيف العراق ولا عرب او قضية؟
ايها المنفي وانت بذاتك وطن ينتسب الى عصرك فيقول واحدنا متباهيا: عشت مع الجواهري، سمعت شدو الجواهري، ادركت الجواهري واخذت عنه…
ايها الباقي واعمار الطغاة قصار
لقد شيَّعت من الملوك نفرا بالكاد استبقى التاريخ منهم الاسماء، ولم يتبقَّ في ذاكرة الناس من الرؤساء والكبراء والامراء الا من خلَّدت بشعرك ولو هجاء…
ايها النجفي بالعمامة الصغيرة، لقد كللت هامة الشعر العربي وصرت عمامته، يا آخر العظماء من شعراء الضاد.
حيث تحل يكون العراق، فدمشق بغدادك والقاهرة، والجزائر بغدادك وبيروت، وصنعاء بغدادك والرباط وطرابلس بغدادك وتونس… فكيف يكون عراق ولا جواهري؟؟
وانا الوليد الذي اغراه هذا النجفي الشريد بأن يفعل فعله فتقتحم عليهم البيوت باللعنة على المنحرف والمفرِّط والبائع وطنه بحفنة من الدولارات.
انا اليوم المكرَّم مرتين: عبر لفتة دمشق الاسد وعبر حادينا الجواهري.
وكلما ضُيعت لنا عاصمة او أُسقطت، تجمعنا من حول دمشق نحاميها ونحتمي بها، نستنقذ بها اجيالنا الاتية واحلامهم البكر علها تعوِّض احلامنا المجهَضة.
وهذا القرن من النضال شاهد، بعذاباته التي لم تزعزع ايمانه الراسخ، بمنافيه التي تؤكد صلابة العقيدة فيه، على اننا حاولنا فلم ننجح تماما لكننا لم نسلم ولم نخن فكرة الثورة ولم نُسقط اعلامنا ولم ننقل من خندق الثورة الى خندق الاحتلال.
فتى الشعر الجميل
يا لسيل الخطأ الجارف اين أودى بنا،
يا للحماقات والكبائر وسوء التقدير والتفرد والقمع والعسف التي حولت الجماهير الرافعة ارواحها فوق اكفها طلبا للتحرير والحرية الى قطعان من المعذبين في الارض الممنوعين من ممارسة انسانيتهم، الهاربين من جلاديهم في الوطن الى جهنم التي في الغربة والضياع وتسخير عقولهم وعافية الزنود لمن كانوا يطمحون الى منازلتهم انتزاعا لحقوقهم في ارضهم.
ويا ايها الجواهري النجفي الدمشقي البغدادي، البيروتي، القاهري التونسي، المغربي، اليمني، يا فتى الزمن الجميل الذي شهد احلام شبابه توأد امامه، ويُطلب اليه ان يهيل بما تبقى من يديه عليها تراب النسيان مع البراءة وطلب الغفران.
يا فتى الشارع الذي كان ببيت من الشعر يخرج الى الطاغية وقد عاش ليشهد الطاغية وقد اخلى الشوارع من حول البيوت الى زنازين من يخرج منها بغير اذن لا يعود اليها، ومن يطأ الشارع يقتله الفراغ والخوف اذا اخطأه الرصاص.
ها نحن نلتقي وكأننا في مأتم جماعي، وما عوَّدتنا نظم المراثي بل ان رثاءك لمن استحقه كان تجديدا للعهد بتعويض غيابه.
ترى ايها النجفي، هل ذهب الشعر مع الزمن الجميل ومع الرجال الذين اعطوا ارواحهم ليكون الوطن ولم يبيعوا الوطن لكي تمتلئ جيوبهم؟
هل ذهب الشعر يا جواهري ولم يبق من النثر الا ما يخدم معاهدات الصلح المنفرد واجراءات بناء الثقة ومستلزمات التطبيع بين الجلاد والضحية؟
هل ذهب الشعر والشعراء وجاء زمن المقاولين والسماسرة كابناء شرعيين للطغاة والسفاحين وها نحن نشهد عمليات التسلم والتسليم؟
ولكنك علمتنا ان الشعر فينا يموت فيستبقينا ويحفظ اسماءنا ويهدي الاجنة الاتين الى موقعهم من ديناهم…
ايا الفارس ولا سيوف.
لقد لقيتك في جنبات الارض جميعا الا في بغداد، فما جئتها مرة قبل الطوفان الا وانت منفي، وكنت احسها هي المنفية… وحين كنت اقصد النجف كنت احسها منفى الاولياء امواتا واحياء، فأفهم اكثر كيف يكون الانسان منفيا في وطنه، وكيف يغترب الوطن عن ابنائه وهو في صميم قلوبهم!.
يا شاهدا على العصر واهله، من قضى منهم ومن ينتظر مثلك، نحيي فيك بعد العبقرية انك لم تهن ولم تيأس ولم تلقِِِِِِِِ السلاح والعجز ليس بالسنين بل بالارادة.
انت الديوان
يا ثالث النهرين: لأنت الديوان، وغيرك قصيدة.
افليس الجواهري ديوان الشعر العربي… أليس من خلاله تعرفنا الى ما كان وسيكون الشعر: الفخر والرثاء، المديح والهجاء، الذاتيات وغايات القضية؟
انى طوَّفنا فنحن في رحابك نحوم بين ألِفك والياء، ونردد بعدك بعض قولك اذ لم تغادر اي متردم ولم تترك لنا غير ان نستعير من لغتك وان نسبح في بحرك البلا ضفاف.
واين نحن من تراثك، فكيف بعدما التقى دجلاك وقصَّر الرافدان عن قريحتك وكنت اغزر منهما ماء ومعنى؟
والعراق الشِّعر النصر، الفرح، العز، الحرية، العروبة والموت فلا وسط.
الثورة او اليباب، الحسين او يزيد وموعد الحسين في غدو الايام الساقطة كلها يزيدية.
فيك نقرأ التاريخ ونتعرف الى تقلبات الزمان وتبدل الرجال وتأخذنا مواسم الطوفان الى غير العنوان الذي كنا نقصده.
لطالما غنَّيتَ دمشق، والعروبة وكل العرب فيها وان تكرمك دمشق الآن اليوم فهو رد للجميل.
ودمشق موئلنا وملجأنا ودار الحماية، تطعمنا من رغيفها الاخير وتتقاسم معنا رصاصاتها الباقيات ثم تتقدمنا لتحمي بغداد وبيروت والقاهرة وهي تهتف بنا: القدس! القدس!.
ودمشق تكرم بك ذاتها وتحلك في مكانك الصحيح: قلادة في عنقها بعدما كنت رمحا تعلو لراية القضية ونشيد العائدين باكفانهم الى ميسلون، كل ميسلون.
ولئن كرمتك دمشق فانها تكرمنا وتاريخنا في شخصك، هي لا تكرم الامس فيك فحسب بل تكرم القيم التي يجب ان ترسخ كملامح للغد، مقاومة الظلم، الشجاعة في قول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر، الحدو لموكب الاحرار والحرية، التصدي للخطأ واطلاق الشعر لاسترداد الشوارع من العسس والمخبرين والكسالى والقاعدين والمستسلمين الذين جعلوه فارغا كالمقبرة.
ويا دمشق البداية والنهاية والبداية الاخرى
نأتيك من الامكنة جميعا، من الازمنة جميعا، لنعيد تصحيح الاتجاه،
ومن دمشق الصمود، دمشق حافظ الاسد، تكون الخطوة الاولى
وسلام عليك يا ثالث النهرين، وسلام على كل من غرف من وجدان الامة فأعطانا
والسلام عليكم ورحمة ا” وبركاته.

Exit mobile version