طلال سلمان

حـــارس الصــح: أحمـد عبـد البـاقـي

من الصعب أن أنظر إلى «غياب» احمد عبد الباقي من «الخارج»، وهو الذي تولى محاولة تعليمي «أصول الحساب» انطلاقاً من ميزان الربح والخسارة، والعائدات في مقابل النفقات، ثم ذلك «المجهول» المسمى «الاحتياطي». فأحمد عبد الباقي التقيته مع الصديق سعيد مراد، احد أركان الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أيام كان الصندوق ضمانة لمن يمضون أعمارهم في العمل المأجور… وحكى له ياسر نعمة ثم توليت بنفسي شرح مشروع «السفير» شعراً!. حدّثته عن العروبة، عن حق الناس في الحرية وفي التقدم وفي العدالة، عن فلسطين بوصفها قضية الأمة وتحريرها شرط الوحدة والوحدة شرط المنعة والطريق إلى الغد الأفضل.
كان يستمع ويهز رأسه صامتاً، وإن أفلتت منه بين حين وآخر جملة معترضة يريد منها إفهامي ـ بلطف ـ أن حديثي خارج الموضوع… وحين هدأت حماستي أمسك بورقة وقلم وأخذ يعلّمني مبادئ الحساب: كم رأسمالك؟ كم تقدر نفقات مشروعك: إيجارات المقر، أعداد الموظفين، تقديراتك لرواتبهم، ثمن الورق، كلفة الطباعة… الخ.
لكن المغامرة لم تكن تتوقف أمام الأرقام. كانت الحماسة تجرف الوقائع، فينظر إليّ مشفقاً، ثم يتقدم نحو شيء من التعاطف مشوباً بكثير من التنبيه والتحذير: لكنك مع نهاية الشهر لن تستطيع ان تدفع للناس خطبا حماسية!
اندفعت، ومعي عدد من رفاق السلاح (السياسي والفكري) في المغامرة.
كان يجيء بين الحين والآخر ليدق جرس الإنذار. وكنت أصغي إليه ثم اندفع بالهوس المهني إلى مزيد من الإنفاق. أكثر من مرة أبلغني انه لا يستطيع الارتجال في الأرقام كما يرتجل الخطباء كلماتهم ولا هو يقدر على مجاراتي في اندفاعاتي الخارجة على أي منطق حسابي، مهما تعاطف ابن عانوت في إقليم الخروب مع ابن شمسطار في بلاد بعلبك!
مع النجاح الذي فاق كل تقديراتنا وأحلَّ «السفير» في المرتبة الأولى إلى جانب الزميلة «النهار»، منذ الشهور الأولى، أخذ احمد عبد الباقي يعامل اندفاعاتي وراء السبق الصحافي، ونجاح رفاق الصف الأول في تثبيت قواعد النجاح، مهنيا، بشيء من الجدية، من دون أن يتخلى عن تحفظاته الكثيرة وتنبيهه المتواصل إلى ضرورة مراعاة التوازن بين الإنفاق المؤكد والمدخول المعلق على ظروف البلاد، التي ما لبثت ان تدهورت مع تفجير الحرب الأهلية (الأولى) و«السفير» لما تحتفل بعيدها الاول.
توالت التنبيهات، التي تحولت إلى انذارات… لكن احمد عبد الباقي كان يقترب منا أكثر فأكثر، مقتنعاً بضرورة الاستمرار في إصدار «السفير»، بغض النظر عن اختلال «ميزان المدفوعات… لعلها الحماسة، لعله إيمانه بأن دور «السفير» في تلك المرحلة كان ضروريا.
صار «الصديق» هو الناصح. صار شريك النجاح هو المنبّه. وانضم إلى «الأستاذ أحمد» نجله «فؤاد»، ثم نجله «سليم»، فكريمته رلى وسائر مجندي «مؤسسة عبد الباقي للتدقيق» فصار آل عبد الباقي بعض أسرة «السفير».
… وعندما أتعبت الظروف القاسية صحة احمد عبد الباقي كان قد اطمأن إلى أن «السفير» في أيد أمينة: فالأستاذ فؤاد سيكمل الرسالة.. حماية «السفير».
ولقد رحل «الأستاذ أحمد»، بعدما قاوم المرض بخلق فارق، وها نحن نفتقد شريكاً في الحلم، وحارساً أمينا لمسيرة «السفير» نحو النجاح، وهي تتقدم نحو عامها الأربعين.
وداعاً أيها الرفيق، شريكنا في الحلم، منقذنا من الأوهام، مشجعنا على التحدي… ومصحح أرقامنا المغلوطة، لتأكيد إيمانه بأننا لا بد ناجحون.
أحمد عبد الباقي: يا حارس الصح، مكافح الغلط… ستبقى في «السفير» بعض روحك. شكراً لك أيها الذي تعلّمنا منه أن النجاح لا يعفي من محاولة تجنب التهور، وأن الأرقام هي مصدر الشهادة، بداية وانتهاء.

Exit mobile version