طلال سلمان

حسين العودات: الحوراني الذي ضاق السجن بثقافته..

عرفت سوريا أكثر ما عرفتها من «الحوراني» الأصيل حسين العودات الشهير بأبي خلدون والذي تآخت عائلتي مع عائلته أبناء وأحفاداً في السراء والضراء.

تعارفنا في أواخر الستينيات وعاشت صداقتنا حتى رحل، قبل سنة تقريباً.. وقد توطدت الصداقة مع هذا البعثي السابق اليساري العروبي التقدمي بغير تعصّب، مميز الثقافة والمعرفة بالتفاصيل، حامل الإجازة في الأدب الفرنسي (وكذلك السيدة أم خلدون التي أفنت شبابها في التعليم). وهو من عرّفني إلى أدباء سوريا وشخصيات مؤثرة لا تُنسى مثل الدكتور جمال الأتاسي.

أما على المستوى السياسي فقد عرّفني على اللواء خليفاوي (رحمه الله) عندما شغل منصب رئيس الحكومة وباشر ثورة إدارية لم يقدر لها أن تكتمل.

ولقد صحبنا حسين العودات إلى مسقط رأسه «أم الميادن» في حوران وروى لنا حكايات عن نشأته، وقد تضمّنت وهو يافع أن يأخذ قطيع الغنم إلى المرعى، وكيف حل مشكلة «المرعاز» حين سقط مريضاً وتبعثر القطيع في الجهات جميعاً حتى اختار كبشاً وعلّق له الجرس، فإذا بالقطيع يعود إلى الانتظام (بكل التوريات السياسية في الحكاية..).

في مسقط رأسه سأله بعض أبنائي عن موقع معركة اليرموك فقال إنه قريب جداً… وركبنا السيارات مسافة محدودة فبلغناه، وشرح لنا «أبو خلدون» أين كان الروم وكيف باغتهم جيش الإسلام من حيث لا يتوقعون وقد أعانته عبقرية خالد بن الوليد في استخدام الجمال كخزانات للماء لقواته وهي تعبر الصحراء ففاجأ جيش الروم وانتصر عليهم انتصاراً ساحقاً.

في حرب تشرين كان «أبو خلدون» قد غدا مستشاراً لرئيس مجلس الوزراء، وبهذه الصفة كان بين الذين كانوا إلى جانب الرئيس الراحل حافظ الأسد في غرفة العمليات، وشهد ـ بفرح حقيقي ـ الإنجازات الباهرة للجيش السوري وهو يستعيد الجولان المحتلّ بما فيه المرصد في موقعه الخطير فوق أعلى قمة من جبل الشيخ.. قبل أن يوقف السادات تقدّم الجيش المصري في سيناء معلناً تسليمه بوقف إطلاق النار (أي الكارثة التي تسببت في هدر دماء النصر) وكلفتنا «هزيمة» جديدة كان بين نتائجها الكارثية اتفاق كمب ديفيد وما تلاه من إساءات لفلسطين شعباً وقضية مقدسة.

لم أعرف مثقفاً قرأ مكتبة عظمى مثل حسين العودات (اللهم إلا الفضل شلق) فاستوعب ما قرأ ثم كتب كثيراً من المقالات والأبحاث وقضايا الفكر السياسي (وهو صديق المفكر الإسلامي المعروف محمد شحرور).

وكان ينتج كتاباً بين كل اعتقالين، برغم أنه يحمل التقدير للرئيس حافظ الأسد وحنكته السياسية وجهده في بناء سوريا، مع اعتراضاته على الطبيعة البوليسية للنظام.

ولقد كتب أبو خلدون مقالات عديدة في «السفير» استكملها في ما بعد حتى صارت كتباً في الإسلام السياسي وفي القرآن والعصر وفي حقوق المرأة في الإسلام… وكانت السيدة أم خلدون سنده في كل ذلك.

قبل عام تقريباً، وبعد معاناة طويلة مع المرض الذي ضرب جهازه التنفّسي رحل أبو خلدون عن دنيانا مفتقداً ابنه الوحيد وابنته المناضلة والأحفاد وقد توزّعوا كل في منفى.

***

نشر هذا المقال في “السفير” في 8 نيسان 2016، في رثاء المناضل حسين العودات.

يكاد رثاؤك أن يكون رثاء لسوريا، قلب العروبة النابض، يا أبا خلدون… أنت الذي أمضيت عمرك كله مناضلاً بالكلمة والموقف، فأنتجت مكتبة كاملة عن جدارة هذه الأمة، فكراً وقدرات، وأهلية تبني المستقبل الأفضل.

ناضلت حزبياً، بل عقائدياً، وقدمت جهدك في خدمة الدولة حيث أمكنك أن تفيد بقدراتك في المجال الثقافي عامة وفي الإدارة والإعلام خاصة، وكنت بين من اختارتهم القيادة ممثلة بالراحل حافظ الأسد لتكون في «غرفة العمليات» إبان حرب تشرين التي اغتيل النصر الموعود فيها بانحراف الشريك الأكبر، السادات، الذي وظف دماء الشهداء لتسوية مستحيلة مع العدو الإسرائيلي.

وواصلت نضالك فكرياً وثقافياً فأنتجت مكتبة كاملة عن فلسطين وعن الدين وعن الصحافة وعن العرب النصارى وعن المرأة العربية وعن «الآخر في الثقافة العربية» وأشرفت على موسوعة المدن الفلسطينية إلخ…

كتبت كثيراً ونشرت عبر “دار الأهالي” في دمشق نتاج بعض الكُتَّاب والمبدعين.. وحاضرت كثيراً في جامعة دمشق وفي معهد التدريب الإذاعي والتلفزيوني التابع لاتحاد الإذاعات العربية.

لكنك بشخصك، بفكرك، ببيتك الذي تحول إلى منتدى ثقافي بإدارة رفيقة عمرك ونضالك السيدة «أم خلدون»، كنت واحداً من معالم النضال السياسي، التقدمي العربي، في دمشق.

ولقد تحمَّلت مثل سائر أبناء الشعب السوري جميعاً الكلفة الدموية الباهظة للحرب في سوريا وعليها وظللت تحلم وتعمل، كمعارض من أجل إصلاح النظام، ولكنك رفضت أن تنضوي في صفوف الجبهات والهيئات التي «استضافتها» عواصم النفط والغاز لتقاتل بها سوريا بذريعة خصامها مع النظام.

لقد عشت عمرك مخلصاً لوطنك وأمتك ولأفكارك، وناضلت بالرأي والنقد من أجل الإصلاح ليكون لسوريا النظام الذي يليق بشعبها الذي اجتهد في بناء وطنه وظل طليعة نضالية من أجل المستقبل الأفضل لهذه الأمة، مقاتلاً في فلسطين، مقدماً الدعم للثورة الجزائرية، معيناً شعب لبنان خلال محنة الحرب الأهلية التي ضربت وحدته وخربت دولته.

أيها الذي أعطى بفكره مكتبة كاملة، وعاش مناضلاً بالثقافة والرأي ومعارضاً بالموقف لا بالسلاح من أجل إصلاح يليق بوطنه… وحتى حين أنشأ دار الأهالي للنشر كان يساعد على تقديم نتاج المبدعين وأصحاب الأقلام المضيئة.

أيها الذي اعتصم بوطنه فبقي فيه حتى آخر رمق، في حين تشرد معظم أفراد عائلته كباقي السوريين المشتتين داخل الوطن المقطع الأوصال أو الهائمين في أربع رياح الأرض حتى لا يقتلهم رصاص الحرب التي بدأت معارضة ثم وجدت من يغذيها فيجعلها مقتلة لشعب سوريا، مدمرة لعمرانها، ودولتها بالأساس.

لقد آن أن ترتاح، أيها الحوراني ابن أم الميادين، الذي نُسف بيته في قريته وهو بالكاد قد أنجز بناءه ليتقاعد فيه.. ثم هدّه المرض الذي أصابه في قلبه وفي فكره قبل جسده وفيه.

ولقد آن لمناقشاتك الفكرية مع الدكتور شحرور حول القرآن والإسلام وموقعه من كرامة الإنسان وحقه في التفكير الحر طلباً للتقدم، أن تجد ختامها المفروض بقوة القدر.

وستفتقد «السفير» مقالك الأسبوعي، ويفتقد القراء الذين طالما أصر بعضهم على مناقشتك حتى الجدال…

إلى اللقاء، أيها الذي به يتباهى أصدقاؤه بل كل من عرفه أو قرأ له.

Exit mobile version