طلال سلمان

«حزب الله» يستعيد تجربة مصر في نجدة شعب فلسطين

في أواخر أيلول 1962، تلاقينا ثلاثة من «المشارقة» جمعتهم الرغبة في مشاركة الجزائريين فرحتهم بارتفاع علمهم الوطني خفاقاً في بلادهم التي حرّرت نفسها من مستعمرها الفرنسي بدماء المليون شهيد من أبنائها: السياسي العراقي العروبي النزعة الراحل صديق شنشل، وصاحب مجلة «الحوادث» الزميل الراحل سليم اللوزي، وكاتب هذه السطور.
لم نكن نعرف أحداً بالذات، وإن كنا نعرف الكثير عن الزعماء الخمسة العائدين من سجون الاستعمار أبطالاً.. وهكذا تصرفنا وكأن كل جزائري أخ شقيق وكل جزائرية «بطل» كما جميلة بوحيرد. وخضنا محاولات صعبة للحوار مع الإخوة الذين عرفناهم من خلال تضحياتهم الأسطورية. كان جهلهم باللغة العربية حاجزاً يمنع الحوار، وأما «فرنسيتهم» فكانت مطعمة بالعامية المستولدة هجيناً.
ذات زيارة إلى «فيلا جولي» للقاء الرئيس الأول لدولة الاستقلال، الذي كان قد انتخب للتو، أحمد بن بله والذي كان يرافقه العقيد هواري بومدين (الذي خلعه في ما بعد ليتولى بنفسه الرئاسة) استوقفنا جدل حاد بين الجندي الحارس عند المدخل وبعض الصحافيين الفرنسيين الذين جاءوا لتغطية الانتخابات الأولى في الجزائر المستقلة. بعد لحظات، انفجر الحارس غضباً فرفع بندقيته في وجه الصحافيين الذين «يعيّرونه» بأن الجزائريين هم مجرد «أتباع» لجمال عبد الناصر ومصر.
صرخ الحارس: هل ترى هذه البندقية؟ إنها من ناصر! هل ترى بزتي هذه؟ إنها من ناصر! هل ترى حذائي هذا؟ إنه من ناصر! وأنت تريدني أن أتبرأ من ناصر؟! إمشِ، تخيّب، ولد الحلوف!
خلال اللقاء مع القائدين الجزائريين روى صديق شنشل كيف كانت مصر جمال عبد الناصر تساعد العراق بكل ما طلبه، عبر رئيسه عبد الكريم قاسم بداية، ثم لما انحرف قاسم وبات دكتاتوراً اتجه المعارضون العراقيون إلى القاهرة يطلبون مساعدتها، فاستقبلت العشرات بل المئات منهم كلاجئين سياسيين، ثم تولت (الجمهورية العربية المتحدة التي تكوّنت من توحيد مصر وسوريا 1958) تزويد المعارضة العراقية بكل ما طلبته من عون، بما في ذلك السلاح! وذكر أسماء لضباط «أبطال» في المخابرات الحربية المصرية ـ السورية كانوا يهرّبون السلاح من سوريا إلى المعارضة العراقية (التي لم تتأخر حتى قامت بالانقلاب الذي أطاح عبد الكريم قاسم في 8 شباط 1963).
وروى سليم اللوزي حكايات مطوّلة عن شبكات تأمين السلاح إلى «الثوار في لبنان»، أثناء الانتفاضة ضد كميل شمعون، ربيع العام 1958، وذكر أسماء ضباط معروفين بتاريخهم النضالي الممتاز، معظمهم من المصريين وبينهم سوريون.
[ [ [
خلال وجودنا في الجزائر انفجر اليمن بثورته التي أطاحت ذرية الإمام أحمد حميد الدين.. وكان نداء الاستغاثة الأول موجهاً إلى القاهرة، وجاءت النجدة الأولى، وكانت عسكرية تضم نخبة من رجال المخابرات الحربية، والكثير من الأموال، ثم كان ما كان من تطور الأحداث إلى حرب حقيقية في اليمن بين الثوار تدعمهم مصر بالقوة العسكرية، وبين رجال القبائل الذين جندتهم السعودية لقتال الثورة التي أخرجت اليمن من كهوف العصور الوسطى.. بالسلاح!
[ [ [
بعد سنوات طوال، تيسرت لنا ظروف رحلة أفريقية شملت دولاً عدة في القارة السمراء التي تفجرت بالثورة ضد المحتلين الأوروبيين الذين نهبوا خيراتها وأذلوا شعوبها..
كان المغتربون القدامى من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، يروون بفخر حكايات تنفخ الصدور زهواً، وتملأ عيونهم بالدمع، عن البطولات التي أنجزها رجال المخابرات الحربية المصرية، وهم يقاتلون تسلل النفوذ الإسرائيلي إلى تلك القارة التي يشكل العرب قمتها وأقل قليلاً من نصف سكانها.
[ [ [
مع اندفاع الحركة الوطنية الفلسطينية إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بالكفاح المسلح، سمعنا روايات لبطولات حقيقية قام بها رجال المخابرات المصرية، وغالباً كمتطوعين، لتزويد المقاومة الفلسطينية الناشئة بالسلاح… أما في غزة فكانت المخابرات المصرية تساعد الفتية الثوار بالخرائط وما تعرفه من معلومات عن قوات الاحتلال الإسرائيلي وتوزعها، وتزودهم بصور لبعض القادة الإسرائيليين لا سيما من عرفوا بتسمية «السفاحين» من ضباط الاحتلال الذين كانوا يطاردون الثوار ويقتلونهم ويمثلون بجثثهم ليكونوا عبرة لمن يحاول أن يتخذهم قدوة ومثالاً.
[ [ [
في ما بعد سمعنا من زميلنا المغربي الكبير الراحل الباهي محمد حكايات أسطورية عن «النجدات» المهمة التي أرسلتها قاهرة جمال عبد الناصر، وفيها شحنات سلاح، إلى الملك الراحل محمد الخامس حين هددته فرنسا، ثم بعدما «خلعته» ونفته خارج بلاده، وعيّنت بديلاً منه أحد المتعاونين معها.
[ [ [
في كل بلد عربي ومن المحيط إلى الخليج يستذكر الناس أدواراً مجيدة لمصر ـ الثورة، بقيادتها وجيشها ومخابراتها ورجالها الأبطال الذين كانوا جاهزين دوماً لمساعدة إخوتهم العرب، في مختلف أقطارهم، ولأبناء عمومتهم الأفارقة في نضالهم من أجل إجلاء الاستعمار واستعادة أوطانهم لكي يعيشوا في أرضهم بكرامة.
طبعاً لا يطمح «حزب الله»، ولا هو يقدر حتى لو رغب، في أن يقوم بدور مشابه لدور مصر على امتداد الخمسينيات والستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، في نصرة الثوار على الاستعمار والمضطهدين في بلادهم طلباً للحرية وحق الحياة بكرامة.
ومفهوم أن ليس لـ«حزب الله» خصومة مع مصر، بل هو قد عبّر دائماً عن تقديره لمصر ونضال شعبها والجهد البطولي لجيشها من أجل تحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي، ولدور مصر التاريخي في النهضة العربية، ثقافياً وفكرياً وسياسياً وعسكرياً، منذ مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في العام 1948 مروراً بالصمود للعدوان الثلاثي في العام 1956، وصولاً إلى هزيمة 1967 التي سرعان ما نهضت منها مصر أكثر قوة وعافية بما مكّنها من إنجاز العبور العظيم في 6 تشرين الأول ـ أكتوبر ـ 1973.
لكن مصر اليوم غائبة عن دورها، بل هي لا تريد أن تستعيده ولا أن تكمله، والقرار في هذا الأمر قرارها..
فأين العيب أو الغلط في أن يحاول «حزب الله» وأي تنظيم وطني ـ قومي ـ إسلامي، مساعدة شعب فلسطين لتمكينه من مواجهة حرب الإبادة وطمس القضية المقدسة، ومواجهة المشروع الإسرائيلي لتهويد كامل الأرض الفلسطينية وطرد شعبها منها ليعيش حالة اللجوء المذل في ديار الشتات؟
إن «حزب الله» لا يقدر أن يعوّض دور مصر، لا في فلسطين ولا في ديار القهر العربي مترامية الأطراف.
لكن «حزب الله» حاول، وبإمكاناته المحدودة، قياساً إلى مصر، أن يوفر ـ وبقدر طاقته ـ نجدة شعب فلسطين المحاصر بالموت الإسرائيلي في غزة، مفترضاً أنه بذلك ربما يستطيع أن ينوب، ولو جزئياً، عن مصر المغيّبة والمكبّلة بقيود معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلي بكل ما يرافقها من ضغوط دولية تحاول أن تبتز مصر في كرامتها الوطنية، كما في عروبتها، وكذلك في «إسلامها»؟!
لقد حاول أن يقوم بدور «مصري» في جوهره: أوليست مصر تحت الحصار الإسرائيلي، هي الأخرى؟! أليست مكبّلة بالاتفاقات التي تلغي دورها العربي المفتقد والذي لا يعوّضه أحد غيرها؟!
ومن ينجد فلسطين المحاصرة حتى الموت جوعاً، المقسّمة بين داخل وخارج، وبين «سلطة» لا تملك من أمرها شيئاً و«حكومة مقالة» لا تملك ما تدافع به عن شعبها المهدد بالفناء؟ وبين دول عربية تغض الطرف عما يجري للفلسطينيين أو هي تساعد على إضعافهم في وجه عدوهم (المشترك؟!)!
إن ما قام به ذلك المجاهد من «حزب الله»، بالتعاون مع بعض الفتية البررة من أبناء مصر وفلسطين، هو بعض البعض مما كان سيفعله حتماً بعض الشباب المصريين، عسكريين ومدنيين، مخابرات ورجال قلم، لو أتيحت لهم الفرصة.
ولسنا نطلب أكثر من أن تحترم السلطة في مصر التاريخ النضالي لهذا البلد العظيم، والذي سيظل شعبه الأكثر عطاء وتضحية من أجل فلسطين وسائر الأقطار العربية التي طالما اعتبرت مصر القيادة والريادة وبطل المواجهة من أجل الحرية والكرامة… وستبقى كذلك. أما الشتائم فتسيء إلى مصر وتاريخها أكثر مما تسيء إلى مجاهدي «حزب الله».

Exit mobile version