طلال سلمان

حريري رابع امتحان اقسى في ظروف اصعب

صباح يوم الجمعة الماضي وقف 32 رجلاً، بينهم الرؤساء الثلاثة، على درج الحديقة الخلفية للقصر الجمهوري، وقد رسموا على وجوههم ابتسامة تليق بالصورة التذكارية للحكومة الجديدة الآتية كخاتمة سعيدة لحروب »الانتقام« التي انتهت بشيء من »الغرام«، وهي الحروب التي شغلت البلاد وأضرت بها إضرارا شديدا على امتداد السنتين الماضيتين من عهد الرئيس إميل لحود.
كانت الصورة أقرب إلى الطابع الاجتماعي منها إلى السياسة، لأن السياسة مفسدة.
ربما لهذا بدا وكأن الكل متشابهون، وهم غارقون في بزاتهم الرسمية الغامقة اللون، وفي ابتساماتهم التي يمكن أن تقرأ فيها الكثير من المعاني والدلالات البعيدة عن البراءة.
بعض هؤلاء كان مزهواً بالعودة (على حصان أبيض، أوقفه عند الحاجز) إلى دست الحكم بعد مسلسل بوليسي من الملفات والاتهامات الخطيرة والإحالة المتكررة إلى المحاكمة والتلويح بسجنه على ذمة التحقيق.
وبعض آخر أُبلغ قبل أيام بأنه سيوزَّر ضماناً للتوازن، فازدهى بأنه قد بات من علامات »الوحدة الوطنية«، وربما من ضماناتها، خصوصا أن هذه الوحدة تقدَّم دائما وكأنها معتلة ومهددة في سلامتها ولا يضمنها أو ينقذها أو يحميها إلا بضعة رجال من لبنان يمثلون طوائفه العظمى أو جلّها إذا تعذر الإجماع!
بعض ثالث أُبلغ في الليلة الفائتة، فقط، وكاستدراك أخير لمنع الإخلال بموجبات الوفاق الوطني واتفاق الطائف وتوازنات القوة اللازمة لبلورة المؤسسة قيد الإنشاء: مجلس الوزراء.
(ويبدو أن السرعة، التي هي من الشيطان، قد تسببت في إخلال بحقوق الأرمن سيتم تعويضه بإنصاف العلويين، وهكذا ستزيد الحكومة وزيرين لم ينعما بشرف الظهور في الصورة الرسمية، وإن كانا سيعززان قدرات هذه الحكومة على أداء مهمة الإنقاذ التي انتدبت نفسها لها..).
وثمة بعض رابع »زيادة عدد«، وبعض خامس لموازنة زيادة العدد..
المهم أن الناس لم يسمعوا أن أحدا من الوزراء قد اعترض على المبدأ أو على التفاصيل (كالحقيبة مثلاً..)، ولا أن واحدا منهم قد شرط شرطاً وعلق موافقته على قبولهم به (إن في السياسة أو في الاقتصاد)… ولا أن أياً منهم قد أظهر ممانعة ولو شكلية.
كان لسان حال الجميع: ما دام أن الرئيسين لحود والحريري، ومعهما أو خلفهما رئيس المجلس، فعلى بركة الله، والله ولي التوفيق، من قبل ومن بعد!
* * *
ليست الحكومة في لبنان تحالفا بين قوى سياسية لها برامجها المعلنة والملزمة، بما تمثله هذه التعابير في بلاد الناس: إذ تكون البرامج أساس التعاقد بينها وبين جمهورها، ومن ثم أساس التلاقي في حكومة ذات »برنامج مشترك« يتم »النضال من أجل تحقيقه« بالاستناد إلى القوى الشعبية التي تسند الأطراف المشاركة في الحكومة.
لذلك فالبيان الوزاري، مهما أُتقنت صياغته، سيظل بعيدا عن أن يكون برنامج حكم، وأقرب لأن يكون تجميعا للمطالب والاحتياجات الضاغطة والطموحات في عناوين عامة… ومن هنا التشابه الذي قد يصل إلى تخوم التطابق بين برامج الحكومات المتعاقبة، والتي تعذّر تحقيقها، فكانت تحال من حكومة إلى أخرى، بل ومن عهد إلى خلفه، مع تبديل في الأسلوب لا يطال المضمون أو الجوهر فعليا.
من هنا، فالحكومات تُعرف بأسماء رؤسائها أكثر ممّا ببرامجها، وتحاسَب من خلال »العاطفة« تجاه شخص رئيسها أكثر من مدى النجاح أو الإخفاق في تنفيذ المهام التي جاءت من أجلها أو جاءت بها.
»حكومة الحريري الرابعة«؛
هل يمكن تحديد الفروقات بين الحكومات الأربع؟!
ذلك يتعلق بما أفاده الحريري من تجاربه المتكررة، خبرة بشؤون البلاد ومعرفة »بالطبقة السياسية« وإتقانا »للعبة« التي كان يستمتع بها كمال جنبلاط والتي يبدو أن نجله وليد يمارسها بدرجة أعلى من الاستمتاع وإن اختلف الأسلوب قليلا!
ولن يتوقف الناس غدا أمام »البيان الوزاري«، خصوصا أنهم يعرفون سلفا ان اللغة العربية بغناها بالمرادفات والمفردات تحل الإشكالات السياسية وتسهل التوافق بين مختلفين، وتوفر القاعدة اللفظية المشتركة بين متفارقين في منطلقاتهم »النظرية«!
سيتوقفون أمام »حجم« الحكومة، خصوصا أنها مرشحة لأن تكون الأوسع في تاريخ لبنان!
وسيحاولون فهم المغزى من الربط بين الحجم والقدرة على الإنجاز، خصوصا أن قواعد التمثيل المعتمدة تختلف من »طائفة« إلى أخرى، ومن منطقة إلى منطقة، والحشد بذاته لا يشكل قاعدة سليمة وثابتة لما يسمى الوحدة الوطنية.
* * *
إن رفيق الحريري أمام امتحان جدي بل وخطير: فالفشل عليه وحده، والنجاح إذا ما حدث سيكون »مشتركا«، لكل فيه نصيب.
لقد عاد إلى دست الحكم منتصرا، معززا بثقة شعبية قلّ نظيرها، وبآمال عريضة تعجز دول كبرى عن تحقيقها.
وسيُذكر للرئيس إميل لحود أنه قد سهّل له مهمته إلى أقصى حد، فلم يستخدم حق الفيتو ضد أحد ممن يراهم الحريري »معاونيه الأكفاء«، ولم يحاول أن يفرض عليه شروطا ضيقة، وطوى صفحة الخصومة تحت ضغط الإحساس بالخطر على البلاد عموما، اقتصادا وسياسة وأمنا، وبالاختصار: مصيرا.
هذا لا يُنقص من قيمة »الشركاء في الصورة«، وإن كانت مشاركة عدد كبير منهم شكلية، لكنه سيزيد من مسؤولية الحريري الذي قبل بهم، ولعله طلب بعضهم.
الحريري أمام الامتحان مجددا، لكن الإمكانات المتيسرة أقل، والظروف أصعب، والاهتمام بلبنان يكاد يقتصر أميركيا ودوليا على الأمن الإسرائيلي!
لذا فالتحدي خطير، ومن الخارج قبل الداخل، وهامش الحركة أضيق، في السياسة كما في الاقتصاد، في ظل الضائقة المعيشية الحادة، (وهي جعلت الكثير من المواطنين يحتسبون ثروات المشاركين في الحكومة بدل الاهتمام ببرنامجها..).
الخطوة الأولى ان تكون الحكومة »حكومة واحدة«، والثانية ان تكون »حكومة« فعلاً، وان تتواضع في برنامجها فلا تفرض على نفسها ما لا تستطيع الوفاء به، وألا تتذرع بالماضي فيضيع منها المستقبل.
الحريري الرابع أكثر تواضعا، لأنه بات صاحب تجربة غنية، ثم انه يعرف حدود الممكن والمستحيل… أو هكذا ما يفترضه الناس.
وأصعب المباريات تلك التي لا يشارك فيها إلا فارس واحد.
أعان الله الحريري. أعان الله لبنان.

Exit mobile version