طلال سلمان

حريري ثاني بين مقاطعين مقاطعين

.. وما بين الحريري الثاني والحريري الأول مسافة ضوئية تعادل المسافة بين الأسطورة التي هي مزيج من الخرافةوالحلم وبين الحقيقة البسيطة والعارية والباردة.

انتهى زمن الأسطورة، وانتفى سحرها، وبات الحريري الثاني عضود طبيعيد في نادي الرؤساء، وقد كان الحريري الأول «اختراقد» أو اقتحامد بالوهج الذهبي لنادٍ ليس بين شروط الانتساب إليه الثراء الفاحش.

مع الحريري الأول، وبوصفه استثناء، لم يكن ثمة مجال لفرض الشروط ناهيك بإمكان ممارسة حق النقض (الفيتو). كانت الموجة عالية، والزخم الذي أحاط بموكب الرجل الذي بنى ثروته في السعودية ونسج أهليته السياسية في دمشق ثم جاء من بابها، أقوى من أن يفكّر أي عاقل بالتصدي له بالمعارضة أو بالاعتراض.

أما مع الحريري الثاني، الخارج متعبد من تجربة قاسية مع الواقع، فلن يتساهل أي طرف لا في حقه بأن يمثل، ولا في حقه في أن يعترض واثقد من أن صوت اعتراضه سيُسمع.

وإذا كانت جلسة الثقة النيابية بالحريري الأول قد شهدت إجماعد لم يخرج عليه إلا نائب واحد (نجاح واكيم) فإن الثقة بالحريري الثاني ستكون أضعف وعدد المعارضين سيكون أكبر، كما أن عدد «الغائبين» مرشح لأن يكون ملحوظد.

ويخطئ الحريري الثاني إذا ما تصرّف وكأنه عائد منتصرد، وأنه الآن أكثر قوة مما مضى، وأنه يستطيع «ضبط» حكومته الجديدة وفرض الانسجام عليها.. بالأمر!

هذه مقاربة شخصية وعصبية، وبالتالي غير سياسية، لمسألة سياسية غاية في الدقة،

ذلك أن رفيق الحريري ليس في نظر الآخرين، وحتى الآن على الأقل، «مشروعد سياسيد»، كما ينظر هو إلى نفسه.

وكثير ممَّن قبلوا به، طوعد أو مداراة، افترضوا أنه «مشروع» يأخذ عنهم همّ الاقتصاد ويترك لهم متعة السياسة،

ولعله لم يدخل «السياسة»، في نظرهم، إلا من باب التمديد أو التجديد للرئيس الياس الهراوي… والملفت في هذا المجال أن من اضطروا إلى الاعتراف به «منافسد» كبيرد قد وقفوا على الضفة الأخرى وأشبعوا التمديد والتجديد تجريحد وتسفيهد، وفي جملة أهدافهم من حملتهم أن يخلصوا من «عهد الحريري»!

الملفت أيضد أن أيد من هؤلاء لم يرشح الحريري لرئاسة الحكومة، برغم أنهم لم يرشحوا غيره، وبرغم معرفتهم الأكيدة أنه «عائد» لا محالة..

لا مجال للانتصار في عراك فوق كومة من الأنقاض والخيبات والأحلام المجهضة والرهانات الفاشلة والمقامرات الانتحارية.

إنها حروب صغيرة بين متشابهين، ينتمون إلى «النظام» نفسه ويحملون قيمه ذاتها، الاختلاف يكون في الدرجة لا في النوع. في براعة التكتيك لا في صلابة العقيدة، وحده العجز عن الإنجاز الباهر هو المشترك.

وهي حروب لا تنتهي لأنها علة وجود «أبطالها»: أن واحدهم يوفّر لنفسه أسباب الحياة في استبقاء الآخر لا في إلغائه.

من هنا هذا «الإجماع» على الحريري. لقد اطمأنوا الآن إلى أنه أضعف من أن يستطيع إلغاء أحد، ولذلك يتمسّكون به لاستنزاف ما تبقّى من وهجه بعدما ذهبت تجربته في الحكم بالكثير من «استثنائيته».

ü ü ü

التواضع «عملة» غير لبنانية، وكذلك الاعتراف بالخطأ،

ورفيق الحريري يتصرّف وكأنه قد انتصر مرتين: تخلص من حكومة ميتة، و«عاد» بحكومة يفترض أنها «ترضيه» أكثر وتزعجه أقل.

كذلك يستشعر زهو الانتصار ذاته الوزراء العائدون والوزراء الخارجون بوصفهم خصومد سياسيين ناجحين وليس لأنهم فاشلون في مواقعهم.

لكن لا مجال لحكومة «حريرية» أخرى.

فإذا كانت مقاطعة الحريري ممنوعة (من طرف الحلفاء)، فإن مقاطعة الحريري لهؤلاء الحلفاء ممنوعة أيضد،

وليس من حسن طالع الحريري، بأي حال، أن يحاصر بين «المقاطِعين» منذ اتفاق الطائف، وبين مَن يحرجهم فيخرجهم ثم يصنّفهم «مقاطَعين»، بتهمة أنهم «مشاكسون».

لا تتحمّل البلاد كل هذه الأنواع من «المقاطعة» السياسية، فكم بالحري حكومة ستظل انتقالية، مهما أعطيت من تسميات توحي بالديمومة، وآتية لتحقيق أمر استثنائي يكاد يتعذّر الإقدام عليه حتى في ظل الإجماع.

وإذا كان ممنوعد مكافأة مَن قاطع الانتخابات النيابية بإدخاله الوزارة، فممنوع بالمقابل زيادة عدد المقاطعين للمشروع الرئاسي الذي وُلد مشوهد والمشكوك ـ بعد ـ في قابليته للحياة.

Exit mobile version