طلال سلمان

حروب في خندق واحد

من المألوف في المواسم الانتخابية أن يتخفف المرشحون من اعتباراتهم الأخلاقية، وأن يخوضوها »معركة حياة أو موت« مع خصومهم الذين غالبا ما يكونون إلى ما قبل تشكيل اللوائح حلفاءهم وشركاءهم في معركة المسار والمصير!
ومن المألوف أيضا أن ينزلق »المتطهّرون« إلى بؤر الفساد والإفساد، بذريعة أن »الضرورات تبيح المحظورات«، فيغضوا الطرف عن مصادر »النفقات« الضرورية للمعركة، ويشيحوا بأبصارهم عن مخالفات للقانون وعن استغلال للنفوذ وعن ارتكابات وتجاوزات لا يقرّها عُرف ولا يقبلها عقل.
ومن المألوف أيضا وأيضا أن يتبادل القائمون بالأمر، حملات الطعن والتشهير مع أسلافهم والمسؤولين السابقين الذين ورثوا عنهم »التركة الثقيلة«، وهي دائما وفي مختلف العهود ثقيلة، فيُظهر هؤلاء أولئك وكأنهم »رأس الفساد«، بينما يُظهرون أنفسهم حراس المال العام وديدبان المصلحة العامة وإجمالاً ملائكة أبراراً لم يلحق بهم الدنس ولم تمس يدهم الحرام لا من قريب أو بعيد.. حتى وهم يهدرون المال العام على بياناتهم الانتخابية وحملاتهم الانتقامية وهجماتهم الكيدية على خصومهم.
يعرف اللبنانيون أن ساستهم إجمالاً أقرب إلى صنف الشياطين منهم الى الملائكة، وهم لا يحبون الملائكة أصلا ولا يخفون إعجابهم بالشطار، الملاعين، »أولاد الحرام«، »لاعبي الثلاث ورقات«، »مزوجي الذكر للذكر«، الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، ويوجهون الى من يُصنَّف »طيبا« تهماً خطيرة تبدأ بأنه »ابن حلال على نياته« ولا تنتهي بأنه »حمار« و»غبي« و»لا يفهم بالسياسة« ولا يعرف »كيف يدبر حاله« ولا كيف »يدبر جماعته«، وأنه »آدمي صحيح، ومستعد أن أزوجه ابنتي ولكن الأخلاق لا تنفع في السياسة، السياسة بحاجة إلى قبضايات، إلى أهل دهاء وخبث، وإلى من يفتحون باب الدولة والمنافع لأنصارهم وجماعتهم ولا يبقونها احتكارا لخصومهم بحجة النزاهة. مرحبا نزاهة!«.
ويعرف اللبنانيون أن الملائكة لا يصلون إلى الحكم مطلقا، وأن »الحاكم المرشح« يأخذ معه السلطة إلى معركته الانتخابية فيستقوي بها وقد يقهر بها خصومه أو أنه يستخدمها لإعادة توازن مفقود مع منافسين أقوياء.
لكن اللبنانيين يستغربون، هذه الأيام، أن تستعر الحروب وتبلغ ذروة ضراوتها بين أبناء الصف الواحد أو اللون السياسي الواحد أو بالإذن من زياد الرحباني رفاق السلاح في الخندق الواحد.
هذا الخندق الواحد الذي اتسع، في رؤية زياد، بحيث ضم الأضداد ولم يرفض أحداً، ازداد اتساعا الآن بحيث تحول إلى خنادق بين الحلفاء وجبهات مشتركة بين مقتتلي الأمس حلفاء اليوم الطامحين لأن يكونوا شركاء في حكم الغد.
لا يتفق رفاق الخندق الواحد، أبناء الصف الواحد، إلا في المزايدة واحدهم على الآخر في التودد إلى »خصومهم« المشتركين السابقين ونفاقهم والترحيب بعودتهم بغير توبة أو ندم إلى الخندق الذي صار فندقاً وصندوق فرجة.. على الاقتراع!
أما في ما بينهم فالسيف هو الحد، وحيث يتعذر السيف فالتلفزيون!
أقسى المعارك الدائرة رحاها الآن هي بين »أهل البيت«، إلى ما قبل سنتين، أو أقل، وربما إلى ما قبل شهور أو أقل، وهي على سبيل المثال لا الحصر:
1 حرب سليم الحص رفيق الحريري، وتكاد تشمل كل أنواع الأسلحة، بما في ذلك تلك المحرمة دوليا في الحروب (كأسلحة الدمار الشامل، والكيماويات)!!
وتبريرها المعلن، كما يقول رئيس الحكومة: انه يريد أن يسلبني موقعي.
2 حرب سليمان فرنجية، نجيب ميقاتي ليمتد عمر كرامي، نايلة معوض ومن معهما، وهي تتخذ لنفسها شعارات »حرب الإلغاء الشهيرة«.
3 حروب رفاق الحلف الثلاثي (سابقا): ميشال المر ميشال سماحة (والذريعة نسيب لحود) وليد جنبلاط إيلي حبيقة، أما الوجه الآخر فيتمثل في تحالف المر الكتائب والحزب السوري القومي (والذريعة نسيب لحود) وتحالف التقدمي الاشتراكي الكتلة الوطنية الكتائب ضد الحزب السوري القومي وحركة »أمل« و»حزب الله« المتحالف مع حبيقة!
4 حرب »حزب الله« المتحالف مع الكتائب (نادر سكر) و»ثورة الجياع« بقيادة الأمين العام الأول للحزب الشيخ صبحي الطفيلي… وهي حرب ضارية على الجمهور الواحد الذي تعلق أمله الأخير فوق، والذي يرى أن الجميع يشده الآن الى تحت!
5 حروب الحزب الشيوعي حبيب صادق الياس أبو رزق، والحزب الشيوعي ورفاق »الحركة الوطنية« بالأمس، التقدمي الاشتراكي والقومي السوري الخ..
أخطر ما في هذه الحروب أن السلطة تبدو، بصيغة أو بأخرى، وكأنها متورطة فيها جميعا، تارة من موقع الحليف لبعضهم وطوراً من موقع المخاصم للبعض الآخر.
.. علماً بأن هذه السلطة، بل هذه الدولة، جمهورية ما بعد الطائف، هي »دولة« أبناء الصف الواحد هؤلاء جميعا.
لا بد من أن أحداً ما يخطئ في تسديد الرصاص أو في تحديد الهدف: فمن حيث المبدأ لا مصلحة لجمهورية الطائف في أن تحارب أركانها أو في أن يحترب أركانها!
كذلك فلا مصلحة لأركان جمهورية الطائف في إضعافها فكيف بتهديمها، ولا في أن يحتربوا فيرثهم خصومهم الذين لا يمكن أن يقتربوا منهم فيحالفوهم إلا على حساب تلك »الجمهورية« التي قاتل أولئك الخصوم لمنع قيامها ما وسعهم القتال لأنهم كانوا يدركون أنها ستلغيهم إذا ما قامت..
لا بد أن أحداً ما يخطئ في تسديد الرصاص أو في تحديد الهدف: لأن الإصابات جميعا في معسكر الحلفاء، رفاق السلاح، الأعضاء المؤسسين للخندق الواحد.
لقد ضاعت حدود الخندق فلم يعرف هل صار الكل حلفاء وخصوما، فيه، أم صار الكل خارجه؟!
ولم يعد معروفا إن كانت ما تزال هذه »الدولة« دولة أهل الخندق، رفاق الصف الواحد، يهمهم أمر سلامتها وإدامتها أم أنهم يفضلون فعلاً عودة »النظام القديم« الذي كان ألغاهم لو لم يتمكنوا وضمن ظروف معلومة وبمساعدة سورية معلنة من إسقاطه!
لقد ضاعت حدود الخندق وطاش الرصاص فصار معظمه يصيب سوريا، مع أنه ينطلق من بنادق سورية.. بالمنشأ كما بالذخيرة.
الطريف أن الذريعة غالبا ما تكون ادعاء العمل على حماية سوريا وحماية العلاقات المميزة بين لبنان وسوريا، لدرجة يصح معها القول: »اللهم احمني من أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم«!
كذلك فإن الرصاص الطائش (الرسمي منه وغير المنتمي؟!) بات يصيب الجميع، بدءاً بمطلقه وانتهاءً بالأخوة الأعداء.
أما أول الضحايا فهم الناخبون الذين تاهوا بين دولة أهل الطائف وأهل الطائف المعارضين لدولتهم وسلطة الدولة المعارضة لأهلها وأهل الدولة المعترضين على سلطتهم.
وأما آخر الضحايا فهي الديموقراطية التي لم تعد مرّة فحسب، بل هي تنزف بينما الجمهور يفترض أنها مجرد كوميديا فيضحك ويضحك ويضحك كالطير… من الألم!

Exit mobile version