طلال سلمان

حروب »ديموقراطية« بين دكتاتوريات

يكاد السؤال يفرض نفسه على الحوار الأخرس الدائر حالياً حول الحرب الاميركية المقررة، والمعلنة ضد العراق، ومؤدّاه:
من هو الاعتى في دكتاتوريته: جورج بوش ام صدام حسين؟!
حتى مع التسليم بكل النعوت القاسية التي تطلق على »صدام« فتصوره وحشاً خرافياً لا يرحم، فرض على شعبه حكماً دموياً مرعباً وورطه في حروب غير مبررة كلفته ملايين الضحايا وأفقرته وأذلته وهو الشعب الكريم بطبعه الغني بعزة نفسه وبدوره التاريخي في صنع الحضارة الانسانية كما بثروات بلاده، وهي غير محدودة،
.. حتى مع التسليم بأن صدام حسين هو النمرذج الاكمل للدكتاتور، فماذا عن الرئيس الاميركي جورج بوش وإدارته اليمينية وشبه الصهيونية، وهو يفرض على العالم كله قراره بتوريطه في حرب ضد العراق، بذرائع بعضها لفقته المخابرات المركزية الاميركية وبعضها الآخر غير مقنع، ثم إنها بمجموعها قد ابتدعت على عجل ودون سابق تمهيد بحيث يتعذر تسويقها كحكاية العلاقة بين صدام حسين وأسامة بن لادن؟!
الى ما قبل شهور قليلة لم يكن مشروع الحرب ضد »الدكتاتور« في بغداد، ومن ثم ضرورة »تحرير« الشعب العراقي وتمكينه من بناء »الديموقراطية«، مطروحاً او ملحوظاً في برنامج عمل »المخلِّص« جورج بوش.
فجأة، انتبه »النبي النووي« الى ان صدام حسين قد ارتكب جرائم خطيرة ضد الشعب العراقي، كرداً وعرباً وتركماناً وكلداناً واشوريين الخ، في الشمال والجنوب والوسط والشرق والغرب الخ.
وفجأة انتبه الى ان هذا العراق المهيض الجناح، المحاصر، المجوَّع شعبه، الممنوع عن مرضاه الدواء والاستشفاء، والمُخضع منذ العام 1991 الى نوع من الوصاية الدولية الصارمة، يجوبه »المفتشون« تحت قيادة المخابرات المركزية الاميركية من اقصاه الى اقصاه، يدخلون جامعاته ومختبراته وبيوته ودور العبادة فيه ودكاكينه ومعامله الصغيرة، ويراقبون كل ما يدخله من ادوية وبضائع وتجهيزات وصولا الى الدفاتر المدرسية وأقلام الرصاص…
فجأة انتبه الى ان »الدكتاتور« في بغداد ما زال يمتلك اسلحة دمار شامل، لم تكشفها سبع سنوات من التفتيش الصارم واثنا عشر عاماً من الحصار الدولي الصارم.
لم يهتم جورج بوش برأي شعبه، بداية، ولا هو توقف امام الرأي العام العالمي، ولا هو سأل عن تأثير قراره بالحرب على »أصدقائه« العرب، أو على حلفائه التاريخيين في الغرب (ماعدا بريطانيا بلير طبعاً)… بل هو قرر وأمر وباشر التنفيذ بوسائل »الديموقراطية« المعروفة عبرالتاريخ: الرشوة لمن تُذله حاجته، والعصا لمن عصى.
لم يتوقف جورج بوش لحظة ليرى الى التظاهرات الغاضبة التي اجتاحت شوارع العواصم والمدن والقصبات، داخل اميركا قليلا، وخارجها كثيراً، والى نتائج الاستطلاعات التي دلت على أن الأكثرية الساحقة من شعوب العالم، وبنسبة تصل الى 84 في المئة، هي ضد الحرب.
أسكت الصين بحاجتها الى السوق الأميركية الغنية والواسعة، والى التكنولوجيا، وابتز روسيا بحاجتها الى المساعدات والى قروض البنك الدولي و»إرشادات« صندوق النقد الدولي، وشق أوروبا (الحليفة) مستدرجاً العديد من دول شرقها الخارجة حطاماً من تجربتها البائسة في »المعسكر الاشتراكي«.
أما إيطاليا برلسكوني فلم تكن بحاجة إلى من يقنع حكمها الفاسد المفسد بضرورة المشاركة في »الأعمال القذرة« باعتبارها »مهنته« الأصلية.
وحين صدر عن المستشار الألماني ما يشير الى اعتراضه، فرض عليه »الحظر« وأعلن عليه الحرب مستعيناً هنا »بالسجل الأسود« للنازية في ألمانيا ضد اليهود!!
أما حين تقاربت باريس وبرلين في الموقف المعارض للحرب فقد صنفهما بأنهما »أوروبا القديمة« مقرراً أن أوروبا الجديدة هي التي تجمع في إطار حلفها الأطلسي أتباع المعسكر الاشتراكي السابق، المحتاجين الى الخبز.
وها هو يُحرج تركيا فيكاد يخرجها، إذ يهدد بإثارة الأكراد فيها مجددا، (ولعله قد باشر ذلك عبر بعض العمليات العسكرية المحدودة من نظم المخابرات المركزية وتلحينها) إضافة الى التهديدات بوقف المساعدات المالية وبحرمانها من حصتها في الكعكة العراقية »بعد التحرير«!
أروع تجليات »الديموقراطية« مارسها جورج بوش مع »أصدقائه« العرب: التهديد المباشر للأسرة السعودية، بشقها من داخلها، وإثارة القبائل عليها، وصدمها مع المؤسسة الدينية حليفها التاريخي والتلويح باحتمال تقسيم المملكة (التي لم تكن موحدة أبداً في تاريخها!!) الى ثلاث دول: الحجاز ونجد و»الشرقية« حيث النفط واختلاف المذهب عند أهلها عن أكثرية أشقائهم في الوطن والدين والمصير.
لا دور لمصر، بالمطلق. والأردن غرفة عمليات خلفية، ومنطلق لبعض العمليات المشتركة الخاصة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي لكي يطمئن شارون.
أما أقطار الخليج فمنصات لإطلاق الصواريخ، وقواعد خلفية لطلائع الهجوم، لا تُسأل رأيها ولا يسأل عن رأيها.
أليس جورج بوش هو النموذج الأرقى للديموقراطية، وعلى مستوى الكون؟!
في أي مقارنة لا تصمد »ديموقراطية« صدام حسين أمام »ديموقراطية« جورج بوش.
أما في الخلاصة فإن »حرب الديموقراطيات« هذه مؤهلة لأن تدمر مع العراق المستقبل العربي، وربما الوجود العربي…
… خصوصاً إذا ما أضفنا إليها »الديموقراطية« الإسرائيلية التي أعادت تأكيد أصالتها ورسوخها بتفويض جديد للسفاح أرييل شارون.
وماذا يتبقى من دكتاتورية صدام حسين إذا ما قورنت بدكتاتورية هذين العريقين في الديموقراطية: جورج بوش وأرييل شارون؟!
ومن الذي سيسأل غداً عن بحور الدم العربي التي ستسيل في أرض الرافدين حتى تلاقي أنهار الدم الجارية بامتداد مساحة فلسطين؟

Exit mobile version