طلال سلمان

حروب خميس وباريس 2

يوم الخميس من كل أسبوع، ومع اقتراب المغيب، يعيش اللبنانيون في ظل »حالة طوارئ« تشبه تلك التي تعلن تحذيراً من زلزال أو استباقاً لطوفان أو تمهيداً لإعلان نتائج انتخابات المتن الفرعية أو ما شابه من مقدمات الحرب الأهلية الكامنة أو المتوقعة دائماً في هذا البلد الأمين.
فالخميس هو الموعد الأسبوعي لانعقاد مجلس الوزراء، رأس السلطة والقيادة الجماعية الشرعية للبلاد بما هي عنوان »الاتحاد الوطني«… ولقد بات هذا الموعد، منذ الأخذ بمبدأ »المساكنة« بين الرئيسين المختلفين، مصدراً للخوف على مجلس الوزراء والشرعية والاتحاد الوطني ووحدة البلاد فضلاً عن مصادر رزق عبادها الصالحين.
صار لهذا الموعد ومجرياته المتوقعة والمحتملة طقوس وتقاليد:
يتفرج اللبنانيون، بداية، على مشاهد الدخول إلى »الحلبة«، البعض بقفزات رياضية، والبعض الآخر بنظرات استكشافية للمكان ومن فيه، والجميع بابتسامات وملفات وحقائب متورمة بما تضمه من تقارير، وثمة مرافقون لرفع الحمل الثقيل غالباً ممثلاً بجدول الأعمال المزدوج… احتراماً للمساكنة وحكم الرأسين!
قبل أن تنتهي الجلسة، ووفق الخطة المرسومة، يقوم »الفريق الإعلامي« الملحق بكل من الرأسين، بتسريب أخبار أو خبريات أو شائعات أو تصريحات عن صياغات جديدة لمشاريع قديمة كانت دائماً موضع خلاف… ويجري إعداد المسرح للمعركة الجديدة في سياق الحرب المفتوحة منذ اليوم الأول للمساكنة والمرشحة لأن تتواصل فصولاً حتى لحظة الافتراق المرتجى والمنشود و.. المستحيل!
أما في »الداخل« حيث يتواجه الفريقان، فسرعان ما تنكشف الخطط المعدة سلفاً: مَن يستدرج مَن وفي أي موضوع، مَن يتولى الهجوم من »فرق الصدم« ومَن من »أفواج التدخل السريع« يتحمل مسؤولية الرد ونقل المعركة إلى ميدان آخر، مَن يتولى طرح الموضوع المتفجر واستدراج الفريق الآخر إلى »الكمين« المعد بعناية… وهكذا ترتفع حرارة الجلسة ويتزايد عدد المشتبكين، وينفتح المجال واسعاً أمام أصحاب المساعي الحميدة من وسطاء الخير، وتعلو الأصوات بالنظام ومن خارج النظام وعلى حساب النظام، وتضيع طرقات مطرقة الرئاسة على الطاولة المتطاولة لتتسع لبضعة وثلاثين »ممثلاً« للقوى المؤتلفة في »اتحاد وطني«، في زحام الاعتراضات والصراخ والمجادلات الثنائية والثلاثية والرباعية بين من يرفضون أن يكونوا آحاداً وتلامذة في »مدرسة المشاغبين«، ويصرون على أنهم يمثلون أحزاباً وتيارات وقوى لها حق الرأي، وربما حق »الفيتو« على ما يعرض فيقبل أو يرفض أو يرجأ ريثما يتحقق التوافق العزيز المنال.
لكي تكتمل كاريكاتورية المشهد لا بد من التذكير بأن »مجلس الوزراء« قد جُهّز بأجهزة كومبيوتر من أحدث طراز، تقتعد الطاولة كشهود زور، فلا من هو بحاجة إليها، فعلاً، إذا افترضنا أنه يحسن تشغيلها، ثم إنها ستتعطل حكماً إذا ما استخدمت كوسيلة إيضاح أو كمخزن لوقائع الجلسة الفضائحية.
قبيل منتصف الليل، وبعد جهود مضنية لتهدئة الغاضبين والمغضبين، يخرج وزير الإعلام إلى الصحافيين بالمقررات الروتينية، محاولاً طمس آثار الحروب بابتسامة عريضة… أما ما جرى فعلاً فسيبدأ تعميمه، بالهاتف الخلوي الذي يلعب الآن دور الصاعق في حروب الرئاسات، على شكل روايات مجتزأة أو مبتسرة أو محرفة، تروي كيف صرخ الرئيس بالوزير، وكيف هجم الوزير على صاحب الدولة، وكيف اشتبك جيش الرئيس الأول مع جيش الرئيس الثالث فتدخل احتياط الرئيس الثاني لفض الاشتباك وإعادة كل طرف إلى مواقعه قبل انفجار الموقف…
مع الصباح تتكامل الروايات حول حرب الليل لتشيع الشكوك حول إمكان انعقاد جلسة أخرى لهذا المجلس الذي لا يجتمع إلا لينشق على ذاته، ولا يتلاقى أعضاؤه إلا ليصطرعوا حول أمور لا يعرف الناس الحقيقة عنها: فالرقم رقمان، وربما ثلاثة، والرأي رأيان في كل أمر وربما سبعة أو عشرة آراء، والقرار أي قرار قد يعطل بالحذف أو بالإضافة أو بإساءة التفسير!
ولأن لكل رئيس وسائل إعلامه ومسرّبيه الخصوصيين، فإن حرب الليل التي أوقفت بهدنة اضطرارية، ستتجدد نهاراً، إعداداً واستعداداً للجلسة المقبلة التي يهدد كل طرف بأن يجعلها »الفاصلة« وهو يعرف أن ذلك متعذر عليه، فيكتفي بأن ينصب نفسه بطلاً منتصراً على شريكه… مع وعيه بأن المهزوم الحقيقي هو »الشعب العنيد« ومصالحه المشروعة التي يلتهمها الدين العام بخدمته الثقيلة الوطأة، ملتهمة خبز الناس واطمئنانهم إلى غدهم في ربوعه التي كانت خضراء!
الطريف أن هذا »المجلس الحربي« للسلطة في لبنان لا يضم إلا »رفاق السلاح« في »الخط الواحد«: فلا هو جبهة ائتلافية مثلاً بين الشيوعيين وأهل اليمين، وليس بينه من اليسار إلا أهل اليسار أو الميسورين… ويفترض أن كل من فيه مع »المقاومة« ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومع »التحرير«، ورئيسه رئيس قمة بيروت حيث ترعرعت المبادرة العربية التي جاءت »رؤية« لأمير وانتهت لحساب »رؤية« إسرائيلية لرئيس الكون الأميركي.
وبرغم أن في المجلس بعض »الاشتراكيين« المنسيين أو الذين نسوا الاشتراكية، فإنه بمجموعه مع خصخصة كل ما هو عام، بما في ذلك الهواء والسماء ونور القمر وأشعة الشمس وأمواج البحر وثلوج صنين…
مع ذلك فإن المرفق الوحيد الذي تمت خصخصته فعلاً، قبل سنوات، وهو الهاتف الخلوي، يتحول إلى ساحة لأعظم حروب القرن، ربما لأن المتساوين في تأييد الخصخصة لم يعرفوا المساواة في الحصحصة.
من الهاتف إلى الكهرباء، ومن سد شبروح إلى التعيينات الموقوفة، ومن »الفانات« العاملة بالمازوت إلى »باريس 2«، ومن الامتحانات المعطلة نتائجها بسبب إضراب المعلمين عن تصحيح المسابقات، إلى أموال الضمان الاجتماعي وتقديماته، ومن الزيارات الخاصة إلى الزيارات الرسمية التي تتم من دون إذن ومن دون محاضر تحفظ لتنظم العلاقات مع الدول الأخرى…… من يصرخ أولاً؟! ذلك هو السؤال.
أما الموضوع فهو: من يخرج أولاً…
وأما ما يجري في المنطقة وما يدبر لمستقبلها، ولبنان منها وفيها، بدءاً من فلسطين وانتهاءً بالعراق، فأمور تفصيلية لا تستحق الوقوف أمامها والاستعداد لما تفرضه من تماسك ورص للصفوف وتمكين لوحدة اللبنانيين في مواجهة الخطر الإسرائيلي الداهم، كما في مواجهة الحرب الأميركية المفتوحة على العرب والمسلمين، بذريعة الإرهاب… تلك جميعاً من المسائل الثانوية التي لا يتوقف أمامها »مجلس الحرب« على الذات الذي ينعقد كل خميس، ليزيد من أسباب ضيق الرزق وضيق مجال التنفس أمام اللبنانيين.
الطريف أن التصريحات الرسمية التي يتناوب على إطلاقها الرئيسان تزيد من حدة الأزمة: فالأول يركز على المخاطر والتحديات، والثاني يرد بالمبالغة في تطمين الناس إلى سلامة أوضاع البلاد، وانهمار الاستثمارات بما يفيض عن الحاجة ويضمن ثبات الليرة إلى أبد الآبدين.
الحكم اثنان، وربما ثلاثة، وأحياناً أربعة… فكيف تكون الدولة؟!
مع ذلك يقولون إنه لا مجال للتبديل أو للتعديل، فليس لأي من اللاعبين الكبار بديل، لا اليوم ولا غداً ولا في أي يوم… وربما لهذا يبحث اللبنانيون عن بديل لوطنهم البائس حاضره والمظلم مستقبله.
قبل »باريس 2« لا بد من حكم واحد بمشروع واحد، فما نفع باريس في غياب بيروت المعطل بعض حكمها نكاية بالبعض الآخر للحكم.
وفي انتظار وحدة الحكم من تراه المعني بوحدة اللبنانيين؟!

Exit mobile version