طلال سلمان

حرب مرفوضة عالميا وعرب خوف

بينما تهبّ على منطقتنا رياح سموم تنذر بمخاطر جدية على شعوبها وكياناتها السياسية ومنظوماتها الاجتماعية تتجاوز كل ما شهدناه في »حقبة الصلح المنفرد« من هزائم وانتكاسات وتراجعات، فإننا في لبنان نبدو مشغولين بمباذلنا المحلية بأكثر مما يجوز.
ولكي نفهم ما يدبر من حولنا (ولنا ضمنا) علينا أن نفتح عيوننا ونمد بصرنا الى خارج المستنقع السياسي اللبناني بكل مباذله وفضائحه الشخصية والعامة، وأن ننسى الحروب الصغيرة داخل السلطة التي لا تتوحد إلا على الغلط، وصراعات المعارضات التي لا تجتمع إلا على ما يفرّق اللبنانيين وعلى ما يتجاوز قدراتها من شعارات مدوية وعلى ما هو بعيد عن هموم الناس واهتماماتهم الفعلية، سواء منها ما يتصل بالأزمة الاقتصادية الحادة أو بانعكاساتها المباشرة على أوضاعهم المعيشية واطمئنانهم الى مستقبلهم فوق أرضهم.
لا بد من أن نتجاوز اليأس الذي تستولده أحوالنا الداخلية أو المواقف الرسمية العربية، ومعظمها متهالك ومبشّر بالهزيمة من قبل أن تقع، ودافع للاستسلام من قبل أن تطلق الإدارة الأميركية الرصاصة الأولى إعلانا لمباشرة حربها ضد العرب في العراق، بينما شارون ماض في حربه عليهم في فلسطين، وإن بقي عاجزا، حتى هذه اللحظة، عن الانتصار فيها.
ولكي نستمد بعض الأمل علينا أن ننظر الى البعيد:
إن موجة من الغضب العارم تجتاح العالم، هذه الأيام، اعتراضا على الطغيان الأميركي الذي بلغ مع إدارة جورج بوش حد التباهي بحقها في التفرد بإعلان الحرب على كل بلد أو جهة أو تنظيم أو شخص تقرر أن توجه إليه تهمة »الإرهاب« أو »إنتاج أسلحة الدمار الشامل«.
العالم في الشارع رفضاً للحرب الأميركية ضد العراق، ورفضا للحرب الاسرائيلية ضد فلسطين، وبشعارات لم يرفع مثلها العرب، بل إن أنظمتهم قد ترى فيها »تطرفا« غير مقبول، و»استفزازا« باهظ الكلفة وخروجا عن »الاعتدال« أو عن الاستكانة التي لا تعني ما هو أقل من التواطؤ، طلبا لسلامة غير مضمونة.
إن أخبار التظاهرة الاستثنائية التي شهدتها لندن، عاصمة الحليف الأكثر التصاقا بإدارة جورج بوش، لم تحظ من الإعلام العربي بأكثر من صورة وبضعة سطور، مع أنها »حدث تاريخي« بكل المعايير: فمنذ عقود لم ينزل الى الشوارع في عاصمة الدولة الأعرق في التآمر السياسي على العرب، مئات الألوف من البريطانيين (البيض، زرق العيون، والشعر أشقر)، يعلنون رفضهم الحربين: حرب الإبادة التي تخوضها اسرائيل شارون، فعلا، ضد الفلسطينيين، وحرب التدمير الشامل التي تعد إدارة جورج بوش لمباشرتها ضد العراق..
كان بين شعارات هذه التظاهرة الطوفان، التي لم نشهد مثيلا شعبيا (غير رسمي) لها في أي بلد عربي، والتي جاء المشاركون فيها على حسابهم الخاص ولم تنقلهم وسائل النقل العامة أو الخاصة مجانا (وعلى حساب المنظم): الحرية لفلسطين، لا تهاجموا العراق، أوقفوا الحرب الدموية، شارون مجرم حرب، فلسطين حرة، نحن ضد الحرب إلخ…
كذلك فقد شهدت عواصم ومدن أخرى في إيطاليا (روما) وأوستراليا وحتى في الولايات المتحدة الأميركية (دنفر) تظاهرات تحمل شعارات مشابهة، وتنتصر للعرب الغائبين أو المغيّبين عن شوارعهم كما عن الاستعداد لمواجهة الحرب عليهم.
ومن حسن حظ العرب أن مشروع الحرب الأميركية قد ارتطم بالحرب الاسرائيلية الفعلية ضد شعب فلسطين، فحدث ارتباك بل خلاف خرج الى العلن فأحرج إدارة جورج بوش التي قررت وأعلنت في وثائق رسمية رئاسية أنها لن تتردد في العمل بمفردها، في أي مكان، بمعزل عن حلفائها ومستغنية عن القرار الدولي (مجلس الأمن).
ولعل الحوار الذي نشرته الصحف الاسرائيلية والذي دار عاصفا بين مستشارة الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي كونداليسا رايس وبين الموفد الاسرائيلي الخاص الى واشنطن وهو مدير مكتب شارون، دوف فايسغلاس، يكشف طبيعة هذا الخلاف بين الحليفين الشريكين المتوحدين الآن في حربهما الصليبية العنصرية ضد العرب (والمسلمين):
قالت رايس: بأيديكم، أنتم في اسرائيل، أعدتم عرفات الى مركز المسرح العالمي. إنها خطوة مخطئة تعارض موقف الرئيس تماما..
ورد فايسغلاس: نحن نحترم مصالحكم، لكن يجب ألا يعتقد الفلسطينيون أن أيدينا مغلولة بسبب استعداداتكم للمعركة ضد العراق..
وحسب وصف صحيفة »معاريف« الاسرائيلية فإن شارون بدا وكأنه قد قام بتلغيم الطريق التي توصل الأميركيين الى بغداد، من دون ضرورة لذلك..
لقد فضح شارون الخطة الأميركية حين رفض تنفيذ القرار الجديد لمجلس الأمن الذي يطالبه بفك الحصار عن رئيس السلطة الفلسطينية، في حين أن واشنطن تضغط على حلفائها وعلى »الأصدقاء الجدد« كروسيا لكي تستحصل من مجلس الأمن على قرار (ولو مبهم وعمومي التعابير) يجيز لها أن تشن حربها على العراق وفوقها غطاء ما من الشرعية الدولية.
***
إن بعض سلاطين العرب يتعجلون الهزيمة في فلسطين بأكثر مما يتمنى ارييل شارون، ويكادون يلومونه على تقصيره، والآن على تورطه في »إغضاب« الاميركيين والاضطرار الى وقف المذبحة، ولو الى حين..
وبعض سلاطين العرب يتعجلون الحرب ضد العراق بأكثر مما تعمل لها ادارة جورج بوش… ولقد وصل الامر بهؤلاء الى حد عقد صفقات مبدئية، مع شركات عالمية كبرى، لتعويض اي نقص نفطي ينتج عن توقف النفط العراقي، كما ان بعض »معتمديهم« من »رجال الاعمال« تقدموا ليكونوا واجهة او سماسرة او شركاء من الباطن مع بعض الشركات العالمية الكبرى (الاميركية او التي تحظى برعاية اميركية) التي سترسو عليها المناقصات الهائلة لاعادة اعمار العراق (بعد تحريره من كل مرافقه وأسباب الحياة فيه!!).
وعلى حد تعبير دبلوماسي عربي عريق فإن »افضل« المواقف العربية تصدر عن اللقاءات الثنائية او الثلاثية، فإذا توسعت اللقاءات تدنت المواقف حتى صارت رديئة بل تخدم الحرب الاميركية.
وفي تقدير هذا الدبلوماسي العريق فإن كثيراً من هؤلاء يظهر انزعاجه كلما تراجع احتمال الحرب الاميركية بسبب تزايد معارضيها سواء داخل اميركا او في اوساط حلفائها التاريخيين او بين الدول التي تفترض واشنطن انها لا تقدر او لا تجرؤ على الاعتراض.
اما في اسرائيل فان المحللين السياسيين يقدرون انه »من الممكن ان نكون على ابواب مرحلة سندفع فيها ثمناً للاخطاء اكثر بكثير مما دفعناه حتى الآن. والشتاء المقترب سيكون ساخناً وعنيفاً وحافلاً بالمخاطر«.
* * *
لقد حققت فلسطين، بدمها، نصراً سياسياً طيباً، والخوف عليه الآن ان يهدر عبثاً في صراعات داخل السلطة او بين اهل السلطة و»اخوتهم الاعداء«.
ولا بد ان هذا الرفض العالمي للحرب الاسرائيلية ضد فلسطين ولمشروع الحرب الاميركية ضد العراق، سيجبر ادارة جورج بوش اقله على التردد، خصوصاً ان اصوات الاعتراض داخل الولايات المتحدة تزداد ارتفاعاً (وبينها اصوات الرؤساء السابقين جميعاً، بمن فيهم جورج بوش الاب، ووزراء الخارجية السابقين جميعاً، بمن فيهم مادلين اولبرايت وهنري كيسنجر).
بقي ان يجرؤ العرب على حماية موقفهم الرسمي العلني برفض الحرب، فلا يتخلون عنه تحت ضغط حملة التخويف التي تشن عليهم بتهديدهم في مواقعهم، او بودائعهم التي قد تكون اغلى من الاوطان.
ان الانتفاضة الشعبية العظيمة دخل الارض الفلسطينية المحتلة قد حققت نصراً سياسياً طيباً بدماء 1800 شهيد وحوالى 40 الف جريح، وبآلاف العائلات التي فقدت منازلها في عمليات التفجير والتدمير، وببنية تحتية مدمرة، وببطالة تصل الى 50 في المئة، وبمنع تجول يومي فرض على نحو نصف مليون انسان في الاشهر الثلاثة الاخيرة، وبإغلاق داخلي يقطع تقريباً كل طريق بين اماكن سكن الفلسطينيين الذين هم على مسافة 10 دقائق، وبأكثر من نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر…
وفلسطين تسهم بانتفاضتها في حماية العراق وسائر الاقطار العربية التي ستحرقها نيران الحرب الاميركية التي تستعجل ادارة جورج بوش ساعة الصفر فيها.
وحماية الانتفاضة في فلسطين واجب وطني داخلي في كل قطر عربي.
وتظاهرة المئة الف وأكثر، التي ملأت شوارع الضاحية، الاسبوع الماضي، هي فعل حماية للبنان بقدر ما هي دعم معنوي ممتاز لشعب فلسطين في انتفاضته المجيدة.
المهم ألا يظل الشارع العربي مغلقاً على الرعب، من حاكمه او من المتحكم بهذا الحاكم، وألا نكتفي بالجلوس امام شاشات التلفزيون لنتفرج على الحروب الظالمة التي تبيد مستقبلنا.
فلنكن في مثل جدية الاوروبيين في مناصرة قضايانا المحقة.

Exit mobile version