طلال سلمان

حرب على قمة

تعيش دمشق فرحاً منقوصاً: لقد نجحت في استضافة القمة العربية العشرين، برغم كل الحروب التي شُنت عليها، من القريب كما من البعيد، حتى لا تنال حقها المشروع في استضافتها.
لكن دمشق التي لبست ثياب العيد لم تكن تريدها قمة للتحدي أو للفرز بين المناصرين والمخاصمين، بل لعلها جهدت وبكل طاقتها لأن تكون قمة للمصالحة وإعادة وصل ما انقطع من أواصر الأخوة والتعاون مع بعض الأشقاء الكبار ، وعملت بكل طاقتها من أجل إزالة ألغام الشكوك والريب والخلافات، سواء منها المستجد تحت لافتة لبنان، أو القديم المخبوء منذ زمن والذي وُجد من يعيد تحريكه لغاية في نفس.. الإدارة الأميركية.
وهكذا فإن لحظة انعقاد القمة كانت هي بالذات لحظة إعلان الحرب عليها: أعيدت إلى السطح أحقاد شخصية كان يفترض أنها باتت في ذمة الماضي، وألقت المصالح الأجنبية ظلها الثقيل محركة هواجس الخوف على المصير، ليس مصدرها الإسرائيلي ، بأي حال، فإذا العلاقات بين الأخوة ساحة اشتباك..
وحين وقف الرئيس السوري بشار الأسد أمام باب قصر المؤتمرات يستقبل ضيوفه الآتين من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، كان يستشعر غصة لغياب الأشقاء الكبار الذين كانت تربطهم ببلاده وبنظامه علاقة استثنائية وصلت في حالات مشهودة إلى الترابط بالدم في أكثر من حرب مع العدو الإسرائيلي ، كما ظل حبل الود موصولاً على الدوام، برغم احتدام الخلاف السياسي في حالات مشهودة ولكنها معدودة.
ولقد عكس خطاب الرئيس الأسد الشعور بالمرارة وثقل المسؤولية أكثر من الشعور بالزهو. صحيح أن الرهان: تعقد أو لا تعقد قد طُوي، لكن رهاناً جديداً تم عقده على الفور، وبعد فراغه من إلقاء كلمته: هل ستتفجر الأوضاع القابلة للتفجر بعد انعقادها مباشرة أم تتأخر عملية التفجير، لاستيعاب صدمة نجاح سوريا في عقد القمة؟
إنها قمة غاب عنها الملوك.. وبالتالي فقد اختفت من مقدمات الخطب تعابير أصحاب الجلالة، ولا سيما ذلك المشفوع بخادم الحرمين الشريفين.
لكن الآخرين الذين جاءوا لأنهم لم يجدوا سبباً وجيهاً للمقاطعة كانوا على ثقة بأن مضيفهم، رئيس سوريا، لن يأخذهم إلى حرب لا يريدونها، لا مع الأشقاء، ولا مع الأصدقاء، ولا حتى مع من تعتبرهم دمشق أعداء ويحاولون هم أن يفتحوا باب السلام معهم..
ولقد دارى الرئيس بشار الأسد واقع ضيوفه، فالتف بعباراته عن العراق (تحت الاحتلال الأميركي) حتى لا يحرج الوفد العراقي الذي غاب عنه رئيسه لانهماكه بإدارة المعارك في البصرة ضد جيش المهدي ومن معه، بالاستناد إلى طيران الاحتلال ومدفعيته..
كذلك فهو قد راعى ضيفه رئيس السلطة الفلسطينية فشدد على مبادرة صنعاء التي وئدت لحظة ولادتها والتي لم يتورع الرئيس الفلسطيني عن نفض اليد منها والتوكيد على شروطه القديمة للمصالحة مع حماس .
ولأن كرسي الفراغ يستولد الشياطين فإن المقعد اللبناني الشاغر قد أعطى مدداً لمن يريد أن يجعله سبباً في نجاح القمة أو فشلها، برغم أن الأزمة في لبنان قد عبرت حتى الآن ثلاث قمم من غير أن ينجح أهل الحل والعقد في ابتداع حل لها يرضي الأطراف ، كل بحسب قوة دعمه، وليس بحسب قوة تمثيله.
ولقد عكس تقرير الأمين العام لجامعة الدول العربية جمود المبادرة العربية عند مفترق الاختلاف في تفسيرها… ولم تتأخر النجدة عن الوصول: فقبل أن ينهي عمرو موسى كلمته كان وزير خارجية السعودية الأمير سعود الفيصل يشن حملة قاسية على المعارضة في لبنان لينتهي إلى الاستنتاج ذاته: لو أن سوريا رغبت بالحل لأمكن إنجازه!
وكان بديهياً أن يسود القلق في أوساط الصحافيين اللبنانيين الذين يتابعون أعمال القمة، والذين كانوا يأملون أن يكون خطاب الأسد باباً للفرج… ولو بعد حين!
أما فاكهة المؤتمر فكانت في ذلك الخطاب الاستثنائي في صراحته الذي ألقاه القائد معمر القذافي، الذي ما زال بعد تسع وثلاثين سنة من تسلمه زمام الأمور في ليبيا التي جعلها جماهيرية يرفض أن يطلق عليه لقب الرئيس .
لقد اندفع معمر القذافي يعدّد المخاطر التي تتهدد المصير العربي جميعاً، وتنذر بانقراض العرب دولاً وشعوباً وأمة، بسبب انقساماتهم وفرقتهم وضياعهم وغربتهم عن العصر الذي لم يعد فيه من مكان إلا للتكتلات الكبرى (الاتحاد الأوروبي، مثلاً)..
وكانت المفارقة مفزعة بين الواقع الرديء الذي تعكسه القمة لحالة العرب وبين شرط وجودهم في مستقبل هذا العالم الذي لا مكان فيه للضعفاء…
[ [ [
ليست هي قمة الحد الأدنى ..
كل القمم العربية يمكن إدراجها تحت عنوان قمة الحد الأدنى .
لكن خطر الانقسام العميق الذي ظلّل هذه القمة تحديداً ينذر بشر مستطير يطاول الأمة جميعاً.
لقد نجح الرئيس بشار الأسد في استنقاذ قمة دمشق: ولكن العمل العربي المشترك ظل في مستوى الأحلام.
وما بعد القمة هو الأصعب.
مع ذلك علينا أن نخترع الأمل.
ونجاح قمة دمشق يضخ شيئاً من الأمل، لمن أراد الخير لأمته، سواء أكان العنوان فلسطين أو لبنان أو العراق أو السودان أو غير هذه من الدول المهددة في وجودها ذاته.

Exit mobile version