طلال سلمان

حرب ضد الذات!

بإرادة الحياة. بحب الارض والتعلق بكل صخرة وكل حبة تراب أو رمل. بالإيمان بالإنسان العربي في لبنان وخارجه. بهذا فقط استطعنا أن نبقى هنا. ونستطيع الآن أن “نبشر” بعصر ما بعد الحرب وان نعمل له وكأنه آت غداً.

الوقائع والمعطيات والتقديرات والمعلومات والتقارير والاستطلاعات والاستنتاجات المنطقية جميعاً تقول بالعكس. وتحكي عن لبنان بصيغة الماضي ولا تلحظ له وجوداً مستقلاً او محدداً في المستقبل.

لكننا كمن مُني بكارثة لا يستطيع التسليم بنتائجها القاسية. ويكابر ويصارع لتخطي هذه النتائج وتأكيد قدرته ومن ثم وجوده المهدد. يهرب من الانتحار إلى المغامرة، مكتفياً ـ إذا ما فشل-بشرف المحاولة بديلاً عن خزي الاستسلام.

كل شيء فينا ومن حولنا حطام.

فلقد استهلكتنا الحروب متعددة الاسماء والشعارات على امتداد عصر 13 نيسان 1975 الذي لا تبدو له، حتى الآن، نهاية واضحة، مثله في ذلك مثل عصر 5 حزيران 1967. ومثل عصر  4 ـ 6 حزيران 1982. والكل في أي حال واحد وان تعددت الوجوه والساحات… فالهزيمة القومية هي هي وما نشهد ونعيش هي تجليات متنوعة ومتكاملة لها، لا أكثر.

بل لعل كل شيء قد بدا، فعلاً، مع اقامة الكيان الصهيوني على ارض فلسطين.

لكن ذاكرتنا المثقلة بوقائع آخر الحروب لا تتحمل عناء استعادة وقائع اول الحروب. وان كنا ممن يفترض انها حرب واحدة لا غير. تتجدد وتتعدد متخذة في كل حين اسماً حركياً مختلفاً.

12 سنة من القتال ضد الذات!!

12 سنة بلا شمس. بلا قمر. بلا نغمة ناي، بلا زغرودة فرح. بلا ابتسامة الاقحوان. بلا عطر وردة منداة بلمسة يد حبيبة.

12 سنة بلا كتاب، بلا قصيدة، بلا اغنية، بلا إبداعة. بلا التماعة فكرة خلاقة… اليس من الطبيعي أن تكاد تنتهي بلا رغيف لجائع ولا عمل لقادر ولا مستقبل لأجيالنا التي استولدتها الحرب واسترهنتها الحرب. ووقفنا نحن نبكيها ونستبكي لها قتلتها؟!

لا أحد. لا شيء كما كان، لا شيء. لا أحد يمكن أن يعود كما كان.

انت لست انت. حتى ملامحك تبدلت. خالط الخوف لون البؤبؤ فما عاد هو. وحفر الهم اخاديد في وجنات اطفالك فما عادت هي. وانساك الحلم الذي يداهمك، في لحظة اغفاء قصيرة فيذكرك وتكاد تنكره، اختلف كل من حولك، اختلف كل ما حولك، اختلفت مع وعن كل من وما حولك، فأنت في خصام دائم مع الناس والامكنة والذكريات وحربك الخاصة مفتوحة بقدر ما هي مفتوحة الحرب القذرة العامة التي تسكر عليك الجدران جميعاً فلا تمنحك طاقة للتنفس او لتسلل حزمة ضوء.

لا الامكنة ولا من فيها هم من كانوا فيها. ولا صلة انتماء بين الناس والزمان والمكان.. فمن أين. اذن، تجيء الافكار وكلمات الحب، وكيف سيسمع رفيف اجنحة الفراش؟!

وإذا كان كل الناس قد تغيروا. وإذا كانت كل الامكنة قد اندثرت او تبدلت معالمها تحت وطأة الندوب والجراح المقطة للأوصال. فكيف اذن سيكون لبنان لبنان الذي كانه؟!

لا ارضه ارضه التي كانت، وبعضها محتل بعد، والبعض الاخر مشطر، مقسم، مجزأ، لكل شطر منه تخوم وحدود ملغمة، بوابات عبور تفتح بالساعة وبالنقر…

بل لعل كل ارضه محتلة. العدو يحتل بعض الجنوب، والقوى المتناحرة المقتتلة والمنشغلة عن العدو الوطني والقومي، تحتل كل منها قطعة منها وتسورها بالحديد والنار واجداث الشهداء لتمنع عنه ” الشركاء في الوطن”.

******

كثيرة هي توصيفات الحرب التي تلتهم لبنان واللبنانيين والقضية الفلسطينية والفلسطينيين منذ 13 نيسان 1975.

ومؤكد انها مجموعة حروب متداخلة. فيها المحلي وفيها العربي والاقليمي، حتى لا يسمى الصراع العربي-الاسرائيلي باسمه الصريح، وفيها الدول كانعكاس للصراع المفتوح بين الجبارين.

لكننا نحن، ادواتها وضحاياها، نتسبب في اطالة امدها وفي تفاقم النزف القاتل.

فاذا لم يسلم أحدنا بالأخر، وبحقوق الاخر، فكيف سيبقى لنا بلد شرط وجوده أن يكون واحداً الكل فيه مسلم بوجود الكل فاذا نقض أحد هذا الشرط سقط مبرر وجود البلد ذاته؟!

كيف سيبقى بلد يختلف عليه اهله، هوية وانتماء ونظاماً وصيغة حكم، إلى هذا الحد المدمر؟!

إن لبنان الذي كان ذات يوم صيغة مبتدعة لمنع حرب اهلية عربية-عربية يكاد يصبح اليوم، وفي ظل تفاقم العجز العربي عن مواجهة العدو الاسرائيلي، مجمعاً للحروب الاهلية العربية.

وبقدر ما يستعيد لبنان صيغته الاصلية، مأخوذاً فيها بعين الاعتبار واقع الصراع العربي –الاسرائيلي، يمكن الاستبشار باقتراب الحل، اقتراب السلام، اللبناني والعربي بالضرورة.

وفي انتظار ذلك اليوم الموعود سنعيش في الحرب وبالحرب.

ولكننا هنا سنبقى وسنزيد من حدة قتالنا ضد الحرب والمحاربين في الساحة الغلط ومن اجل اهداف عدوهم.

نشر هذا المقال في “السفير” في 13 نيسان 1987

Exit mobile version